عرض مشاركة واحدة
  #32  
قديم 16-02-2022, 03:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى


تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 192 الى صــ 197
الحلقة (32)




قوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون

[ ص: 192 ] قوله تعالى : في قلوبهم مرض ابتداء وخبر . والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم . وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا ، وإما جحدا وتكذيبا . والمعنى : قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد . قال ابن فارس اللغوي : المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر . والقراء مجمعون على فتح الراء من ( مرض ) إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء .
قوله تعالى : فزادهم الله مرضا قيل : هو دعاء عليهم . ويكون معنى الكلام : زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة ، كما قال الشاعر :


يا مرسل الريح جنوبا وصبا إذ غضبت زيد فزدها غضبا


أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه . وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم ; لأنهم شر خلق الله . وقيل : هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم ، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم ، كما قال في آية أخرى : فزادتهم رجسا إلى رجسهم . وقال أرباب المعاني : في قلوبهم مرض أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها . وقوله : فزادهم الله مرضا أي وكلهم إلى أنفسهم ، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين . ولهم عذاب أليم بما يفنى عما يبقى . وقال الجنيد : علل القلوب من اتباع الهوى ، كما أن علل الجوارح من مرض البدن .
قوله تعالى : ولهم عذاب أليم ( أليم ) في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع ، مثل السميع بمعنى المسمع ، قال ذو الرمة يصف إبلا :


ونرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها وهج أليم


وآلم إذا أوجع . والإيلام : الإيجاع . والألم : الوجع ، وقد ألم يألم ألما . والتألم : التوجع . ويجمع أليم على ألماء مثل كريم وكرماء ، وآلام مثل أشراف .
قوله تعالى : بما كانوا يكذبون ما مصدرية ، أي بتكذيبهم الرسل وردهم على الله جل وعز وتكذيبهم بآياته ، قاله أبو حاتم . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف ، ومعناه بكذبهم وقولهم آمنا وليسوا بمؤمنين .

[ ص: 193 ]
مسألة : واختلف العلماء في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال :

القول الأول : قال بعض العلماء : إنما لم يقتلهم ; لأنه لم يعلم حالهم أحد سواه . وقد اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه ، وإنما اختلفوا في سائر الأحكام . قال ابن العربي : وهذا منتقض ، فقد قتل بالمجذر بن زياد الحارث بن سويد بن الصامت ; لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث ، فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله ، فأخبر به جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقتله به ; لأن قتله كان غيلة ، وقتل الغيلة حد من حدود الله .

قلت : وهذه غفلة من هذا الإمام ; لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر ; لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي ، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي ، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع . والله أعلم .

القول الثاني : قال أصحاب الشافعي : إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل . قال ابن العربي : وهذا وهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد ، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم مع علمه بهم . فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال : إن استتابة الزنديق جائزة قال قولا لم يصح لأحد .

القول الثالث : إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي أخرجه [ ص: 194 ] البخاري ومسلم . وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا ، وهذا هو قول علمائنا وغيرهم . قال ابن عطية . وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل الأبهري وابن الماجشون ، واحتج بقوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض إلى قوله : وقتلوا تقتيلا . قال قتادة : معناه إذا هم أعلنوا النفاق . قال مالك رحمه الله : النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم ، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة ، وهو أحد قولي الشافعي . قال مالك : وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه ; إذ لم يشهد على المنافقين . قال القاضي إسماعيل : لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده ، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه ، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل . وقال الشافعي رحمه الله محتجا للقول الآخر : السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه . وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم .

قال الشافعي وأصحابه . وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم ; لأن ما يظهرونه يجب ما قبله . وقال الطبري : جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر ، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه ، فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر ; لأنه حكم بالظنون ، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ، ووكل سرائرهم إلى الله . وقد كذب الله ظاهرهم في قوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون قال ابن عطية : ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها ، وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق ، وبقي لكل واحد منهم أن يقول : لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن ، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا . قلت : هذا الانفصال فيه نظر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم [ ص: 195 ] وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه ، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له : يا حذيفة هل أنا منهم ؟ فيقول له : لا .

القول الرابع : وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم ضرر ، وليس كذلك اليوم ; لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ( إذا ) في موضع نصب على الظرف والعامل فيها : ( قالوا ) وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر . قال الجوهري : ( إذا ) اسم يدل على زمان مستقبل ، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة ، تقول : أجيئك إذا احمر البسر ، وإذا قدم فلان . والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك : آتيك يوم يقدم فلان ، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة . وجزاء الشرط ثلاثة : الفعل والفاء وإذا ، فالفعل قولك : إن تأتني آتك . والفاء : إن تأتني فأنا أحسن إليك . وإذا كقوله تعالى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون . ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم :


إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب


فعطف " فنضارب " بالجزم على " كان " لأنه مجزوم ، ولو لم يكن مجزوما لقال : فنضارب ، بالنصب . وقد تزاد على " إذا " " ما " تأكيدا ، فيجزم بها أيضا ، ومنه قول الفرزدق :


فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم وكان إذا ما يسلل السيف يضرب


قال سيبويه : والجيد ما قال كعب بن زهير : [ ص: 196 ]


وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا


يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا ، كما لم يجزم في هذا البيت . وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة : خرجت فإذا زيد ، ظرف مكان ، لأنها تضمنت جثة . وهذا مردود ; لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد ، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ، ومنه قولهم : " اليوم خمر وغدا أمر " فمعناه وجود خمر ووقوع أمر .
قوله : ( قيل ) من القول وأصله قول ، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء . ويجوز : ( قيل لهم ) بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين ; لأن الياء حرف مد ولين . قال الأخفش : ويجوز ( قيل ) بضم القاف والياء . وقال الكسائي : ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله ، وهي لغة قيس ، وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت . وكذلك روى هشام عن ابن عباس ، ورويس عن يعقوب . وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة . وزاد ابن ذكوان : حيل وسيق ، وكسر الباقون في الجميع . فأما هذيل وبنو دبير من أسد وبني فقعس فيقولون : " قول " بواو ساكنة .
قوله : لا تفسدوا " لا " نهي . والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها . فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد . والمعنى في الآية : لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله ، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقيل : كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد ، ويفعل فيها بالمعاصي ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض . فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، كما قال في آية أخرى : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها .

قوله : في الأرض الأرض مؤنثة ، وهي اسم جنس ، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة ، ولكنهم لم يقولوا . والجمع أرضات ; لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم : عرسات . ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون ، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة ، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها ، وربما سكنت . وقد تجمع على أروض . وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون : أرض وآراض ، كما قالوا : أهل وآهال . والأراضي أيضا على غير قياس ، كأنهم جمعوا آرضا . وكل ما سفل فهو أرض . وأرض أريضة ، أي زكية بينة الأراضة . وقد أرضت بالضم ، أي زكت . قال أبو عمرو : نزلنا أرضا أريضة ، أي معجبة للعين ، ويقال : [ ص: 197 ] لا أرض لك ، كما يقال : لا أم لك . والأرض : أسفل قوائم الدابة ، قال حميد يصف فرسا :


ولم يقلب أرضها البيطار ولا لحبليه بها حبار


أي أثر والأرض : النفضة والرعدة . روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال : زلزلت الأرض بالبصرة ، فقال ابن عباس : والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض ؟ أي أم بي رعدة ، وقال ذو الرمة يصف صائدا :


إذا توجس ركزا من سنابكها أو كان صاحب أرض أو به الموم


والأرض : الزكام . وقد آرضه الله إيراضا ، أي أزكمه فهو مأروض . وفسيل مستأرض ، وودية مستأرضة ( بكسر الراء ) وهو أن يكون له عرق في الأرض ، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب . والإراض ( بالكسر ) : بساط ضخم من صوف أو وبر . ورجل أريض ، أي متواضع خليق للخير . قال الأصمعي يقال : هو آرضهم أن يفعل ذلك ، أي أخلقهم . وشيء عريض أريض إتباع له ، وبعضهم يفرده ويقول : جدي أريض أي سمين .
قوله : ( نحن ) أصل ( نحن ) نحن ، قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء ، قاله هشام بن معاوية النحوي . وقال الزجاج : نحن لجماعة ، ومن علامة الجماعة الواو ، والضمة من جنس الواو ، فلما اضطروا إلى حركة ( نحن ) لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة . قال : لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل : أولئك الذين اشتروا الضلالة وقال محمد بن يزيد : ( نحن ) مثل قبل وبعد ; لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر ، ف " أنا " للواحد " و ( نحن ) للتثنية والجمع ، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله : نحن قمنا ، قال الله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر ، تقول المرأة : قمت وذهبت ، وقمنا وذهبنا ، وأنا فعلت ذاك ، ونحن فعلنا . هذا كلام العرب فاعلم .
قوله تعالى : ( مصلحون ) اسم فاعل من أصلح . والصلاح : ضد الفساد . وصلح الشيء ( بضم اللام وفتحها ) لغتان ، قال ابن السكيت . والصلوح ( بضم الصاد ) مصدر صلح ( بضم اللام ) ، قال الشاعر :


فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني وما بعد شتم الوالدين صلوح


وصلاح من أسماء مكة . والصلح ( بكسر الصاد ) : نهر .

[ ص: 198 ] وإنما قالوا ذلك على ظنهم ; لأن إفسادهم عندهم إصلاح ، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين . قال ابن عباس وغيره .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]