
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 222 الى صــ 227
الحلقة (37)
قوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
[ ص: 222 ] قوله تعالى : وإن كنتم في ريب أي في شك " مما نزلنا " يعني القرآن ، والمراد المشركون الذين تحدوا ، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، وإنا لفي شك منه ، فنزلت الآية . ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه ، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده .
قوله على عبدنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل ، فسمي المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه ، قال طرفة :
إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد
أي المذلل . قال بعضهم : لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط ، سمى نبيه عبدا ، وأنشدوا :
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
فأتوا بسورة الفاء جواب الشرط ، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء ، قاله ابن كيسان . وهو أمر معناه التعجيز ; لأنه تعالى علم عجزهم عنه . والسورة واحدة السور . وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن ، فلا معنى للإعادة . و " من " في قوله " من مثله " زائدة ، كما قال فأتوا بسورة مثله والضمير في مثله عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء ، كقتادة ومجاهد وغيرهما . وقيل : يعود على التوراة والإنجيل . فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه . وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم . المعنى : من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ . فمن على هذين التأويلين للتبعيض ، والوقف على مثله ليس بتام ; لأن وادعوا نسق عليه .
قوله تعالى : وادعوا شهداءكم معناه أعوانكم ونصراءكم . الفراء : آلهتكم . وقال ابن كيسان : فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا ، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا ، أو ليخبروا بأمر شهدوه ، وإنما قيل لهم : فأتوا بسورة من مثله ؟ فالجواب : أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم ، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم .
[ ص: 223 ] قلت : هذا هو معنى قول مجاهد . قال مجاهد : معنى : وادعوا شهداءكم أي ادعوا ناسا يشهدون لكم ، أي يشهدون أنكم عارضتموه . النحاس : " شهداءكم " نصب بالفعل ، جمع شهيد ، يقال : شاهد وشهيد ، مثل قادر وقدير .
وقوله من دون الله أي من غيره ، ودون نقيض فوق ، وهو تقصير عن الغاية ، ويكون ظرفا . والدون : الحقير الخسيس ، قال :
إذا ما علا المرء رام العلاء ويقنع بالدون من كان دونا
ولا يشتق منه فعل ، وبعضهم يقول منه : دان يدون دونا . ويقال : هذا دون ذاك ، أي أقرب منه . ويقال في الإغراء بالشيء : دونكه . قالت تميم للحجاج : أقبرنا صالحا - وكان قد صلبه - فقال : دونكموه .
قوله تعالى : إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، لقولهم في آية أخرى : لو نشاء لقلنا مثل هذا والصدق : خلاف الكذب ، وقد صدق في الحديث . والصدق : الصلب من الرماح . ويقال : صدقوهم القتال . والصديق : الملازم للصدق . ويقال : رجل صدق ، كما يقال : نعم الرجل . والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود .
قوله تعالى : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
قوله تعالى : فإن لم تفعلوا يعني فيما مضى ولن تفعلوا أي تطيقوا ذلك فيما يأتي . والوقف على هذا على صادقين تام . وقال جماعة من المفسرين : معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا ، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار ، فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على صادقين .
فإن قيل : كيف دخلت إن على لم ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أن إن هاهنا غير عاملة في اللفظ ، فدخلت على لم كما تدخل على الماضي ; لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي ، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل .
[ ص: 224 ]
قوله تعالى ولن تفعلوا نصب ب " لن " ، ومن العرب من يجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة :
فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد
وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه : فقيل لي " لن ترع " . هذا على تلك اللغة . وفي قوله : " ولن تفعلوا " إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان : ولن تفعلوا توقيفا لهم على أنه الحق ، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب ، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين ، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله .
وقوله : فاتقوا النار جواب ( فإن لم تفعلوا ) أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى . وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها . ويقال : إن لغة تميم وأسد " فتقوا النار " . وحكى سيبويه : تقى يتقي ، مثل قضى يقضي . " النار " مفعولة . ( التي ) من نعتها . وفيها ثلاث لغات : التي واللت ( بكسر التاء ) واللت ( بإسكانها ) . وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير ، ولا تتم إلا بصلة ، وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا : اللتان واللتا ( بحذف النون ) واللتان ( بتشديد النون ) وفي جمعها خمس لغات : اللاتي ، وهي لغة القرآن . واللات ( بكسر التاء بلا ياء ) . واللواتي . واللوات ( بلا ياء ) ، وأنشد أبو عبيدة :
من اللواتي واللتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لداتي
واللوا ( بإسقاط التاء ) ، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري : اللائي ( بالهمز وإثبات الياء ) . واللاء ( بكسر الهمزة وحذف الياء ) . واللا ( بحذف الهمزة ) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي وفي اللائي : اللوائي . قال الجوهري : وتصغير التي اللتيا ( بالفتح والتشديد ) ، قال الراجز العجاج :
بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفس تردت
وبعض الشعراء أدخل على " التي " حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله ، وحده . فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها ، وقال :
من أجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
[ ص: 225 ] ويقال : وقع فلان في اللتيا والتي ، وهما اسمان من أسماء الداهية . والوقود ( بالفتح ) : الحطب . وبالضم : التوقد . والناس عموم ، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها ، أجارنا الله منها . والحجارة هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، نتن الرائحة ، كثرة الدخان ، شدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت . وليس في قوله تعالى : وقودها الناس والحجارة دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها . وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أي حطب جهنم . وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس . وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة . وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مؤذ في النار . وفي تأويله وجهان : أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار . الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة . والله أعلم . روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : ( نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . وقودها مبتدأ . الناس خبره . والحجارة عطف عليهم . وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف : " وقودها " ( بضم الواو ) . وقرأ عبيد بن عمير : " وقيدها الناس " . قال الكسائي والأخفش : الوقود ( بفتح الواو ) : الحطب ، و ( بالضم ) : الفعل ، يقال : وقدت النار تقد وقودا ( بالضم ) ووقدا وقدة ووقيدا ووقدا ووقدانا ، أي توقدت . وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا . والاتقاد مثل التوقد ، والموضع موقد ، مثل مجلس ، والنار موقدة . والوقدة : شدة الحر ، وهي عشرة أيام أو نصف شهر . قال النحاس : يجب على هذا ألا يقرأ إلا " وقودها " بفتح الواو ; لأن المعنى [ ص: 226 ] حطبها ، إلا أن الأخفش قال : وحكي أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود بمعنى الحطب والمصدر . قال النحاس : وذهب إلى أن الأول أكثر ، قال : كما أن الوضوء الماء ، والوضوء المصدر .
قوله تعالى : أعدت للكافرين ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك ، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة ، على ما يأتي . وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن . وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي . روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تدرون ما هذا قال قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها . وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجت النار والجنة فقالت هذه : يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه : يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه : أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها . وأخرجه مسلم بمعناه . يقال : احتجت بمعنى تحتج ، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف ، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة ، فلا معنى لما خالف ذلك . وبالله التوفيق . وأعدت يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : أو جاءوكم حصرت صدورهم فمعناه قد حصرت صدورهم ، فمع ( حصرت ) قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد ، فعلى هذا لا [ ص: 227 ] يتم الوقف على الحجارة . ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله ، كما قال : " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " . وقال السجستاني : " أعدت للكافرين " من صلة " التي " كما قال في آل عمران : واتقوا النار التي أعدت للكافرين . ابن الأنباري : وهذا غلط ; لأن التي في سورة البقرة قد وصلت بقوله : وقودها الناس فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، وفي آل عمران ليس لها صلة غير ( أعدت ) .
قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا . والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد - لتغيرها بأول خبر يرد عليك ، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به ، وغير مقيد أيضا . ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به ، قال الله تعالى فبشرهم بعذاب أليم ويقال : بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة ( بكسر الباء ) فأبشر واستبشر . وبشر يبشر إذا فرح . ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة ( بفتح الباء ) . والبشرى : ما يعطاه المبشر . وتباشير الشيء : أوله .
