عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-02-2022, 05:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,490
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخيال في الشعر

ولقد قال الشاعر ذلك البيت يصف به فتاةً انتابها الحياء فعضَّت على شفتيها ارتباكًا، وأسبلت عيناها الدموعَ، لكن الشاعر لم يلتفت إلى ما انتاب فتاتَه من أحاسيسَ مربكةٍ في هذا الجو المضطرب، وجعل كل وُكْدِه أن يعصر ذهنَه بغيةَ التقاط أكبر عدد من الصور البيانية دون أدنى اهتمام بالموقف، ومثل ذلك في النزعة العقلية الباردة قولُ أبي العلاء المعري في وصف ليلة من الليالي:
ليلتي هذه عروسٌ من الزن
ج عليها قلائدٌ من جُمَانِ

وسهيلٌ كوجنة الحِبِّ في اللو
ن وقلبِ المحبِّ في الخفَقانِ



إذ أنا في الواقع لا أدري كيف تكون الليلة عروسًا أصلاً، بغض النظر عن أن تكون من الزنج أو من الصين أو من أمريكا؟ إنه تشبيه عقلي خالص العقلية، لا يستطيع الإنسان تخيُّله بتاتًا مهما حاول، وكان الأستاذ عبدالرحمن شكري يعزو الصور التي من هذا النوع إلى عمل الوهم "fancy" لا الخيال "imagination" حسبما ذكر العقاد في حديثه عنه في كتابه: "حياة قلم" مؤكدًا أن شكري بهذه التفرقة قد استطاع التمييز بين ما يلتبس حتى في موازين بعض النقاد الغربيين.

وأود أن أنص هنا على أني لا أَعيب هذه الصور لأنها قائمة على تشبيهِ شيءٍ حسي بشيء حسي مثله، فما أكثرَ الصوَرَ التي من هذا النوع عند ابن المعتز مثلاً، ومع هذا تجدها صورًا فاتنةً آسرةً؛ كقوله على سبيل المثال:
وكأنما النَّارنج في أغصانه
من خالصِ الذهب الذي لم يُخْلَط

كرةٌ دحاها الصَّولجانُ إلى الهوا
فتعلَّقت في جوِّه لم تسقُطِ



فلا ريبَ أننا هنا بإزاء خيالٍ محلِّق متألِّق، لم يقف عند المنظر البادي أمامه، بل ذهب في أودية الإبداع، فاقتنص تلك الصورة العجيبة التي أرتنا شجرة النارنج وثمارَها في ضوء جديد، فقد استحالت النارنجة إلى كرةٍ سحرية عجيبة، كرة من الذهب الخالص، ضربت بالصولجان، فطارت في الهواء، وبقِيَت معلقةً هناك على ذلك النحو الإعجازي متحديةً قانون الجاذبية!

ومثلها تشبيهه الهلال بقلامة الظُّفر؛ كما في النص التالي:
لاحظتُه بالهوى حتى استقاد له
طوعًا وأسلفني الميعادَ بالنَّظرِ

وجاءني في قميصِ الليلِ مستترًا
يستعجلُ الخَطْوَ من خوفٍ ومن حَذَرِ





وهي صورة عجيبة؛ إذ من ذا الذي كان يمكنه أن يتخيل حلول قُلامة الظُّفر في صفحة السماء على هذا النحو البديع إلا الفحولُ من الشعراء؟ أو أن الهلال يمكن تشبيهه بالقلامة أصلاً، ذلك الشيء القليل الناحل الذي لا يشغل من حيز الوجود شيئًا؟

ومعروف أن للأشياء الصغيرة الدقيقةِ جاذبيتَها وسحرها، فما بالُنا لو كانت خاصةً بالملوك؟ ذلك أن ابن المعتز كان ابن خليفة، بل أضحى خليفةً يومًا أو بعض يوم ثم قتلوه، وإذا كان الشيءُ بالشيء يذكر فقد احتفظنا أنا وزوجتي لبعض الوقت بقُلامات ظُفُر بنتِنا الأُولى، وهي طفلةٌ رضيعة عندما قصصناها لها أول مرة؛ إذ وضعناها في علبةٍ صغيرة أنيقة كنا نفتحها بين الحين والحين، ونجد مسرةً في رؤيةِ ما بداخلها من أَهِلَّةٍ صغيرة، وكأننا نشاهد كنزًا ثمينًا، إلى أن نَمَتْ قليلاً، ثم لا أدري ماذا حدث بعد ذلك! ومن جهة أخرى فإن التشبيه في البيت يوحي من طرْف خفي أن تلك القلامة التي لا تساوي شيئًا في مرأى العين كانت تشكِّل خطرًا على ذلك اللقاء كاد أن يفضحه ويُلغيَه.

وهناك كذلك بيت ابن المعتز المشهور الذي صار فيه الهلال سفينةً من فضَّة قد أثقلت بحمولة من عنبر، أو البيت الآخر الذي صار فيه البدرُ درهمًا من فضة ملقًى على ديباجة زرقاء... إلى آخر تلك الصور الباهرة:
هذا هلال الفطر جاء مبكِّرًا
الآن فاغْدُ على المُدامِ وبكِّرِ

وانظر إليه كزَورقٍ من فضة
قد أثقلتْه حمولةٌ من عَنْبَرِ









انظر إلى حُسنِ هلالٍ بدا
يهتِكُ من أنواره الحِندسَا

كمِنْجلٍ قد صِيغَ من عَسْجدٍ
يَحصد مِن زَهرِ الدُّجى نَرْجِسَا





انظر إلى الجَزرِ الذي
يحكي لنا لَهَبَ الحريقِ

كمذَبَّةٍ من سُندسٍ
فيها نِصابٌ من عقيقِ




إننا مع مثل هذه الصور نرى ما حولنا من الأشياء بعينٍ غيرِ العين التي كنا نراها بها، فإذا هي شيءٌ جديد طريفٌ لم يكن يخطر لنا على بال، حتى إن الإنسانَ ليفرك عينيه غيرَ مصدِّقٍ ما يرى، وكأنه في حلم، ونحن فعلاً في حلم، وأي حلم! أو قل: إننا نرتد مع تلك الصور أطفالاً يتحلقون، كما كنا نتحلق في الماضي أيام غرارة الطفولة الساذجة الحُلْوة، حول الحاوي العجيب الذي يُخرج لهم البَيْض من كمه، والحَمَام من قبعته، ويمد يدَه فيأتي لهم بقطع النقود المعدنية من الهواء، والكلام هنا على التشبيه بُغْيَة التقريب ليس إلا، أقصد أن أقول: إن الشاعر في مثل تلك الصور يعرض علينا الدنيا في ثيابٍ مدهشة، وينفُض عنها خمولَها وسكونها، فإذا بها دنيا غيرُ الدنيا، وهو ما يبعث في النفس البهجةَ والانتعاش والشعور بالطراءةِ والنضارة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.33 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.00%)]