عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-02-2022, 08:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,090
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بين الشابي وقلبه

وكم رسمتَ رسومًا، لا تشابهها

هذي العوالِمُ، والأحلامُ، والنُّظُمُ



كأنها ظُلَلُ الفردوسِ، حافلة

بالحُورِ، ثم تلاشتْ واختفى الحُلُمُ



تبلو الحياةُ فتبليها وتخلعُها

وتستجدُّ حياةً ما لها قدمُ





وكأني به في هذا المقطع خاصة، وقد مازج مزجًا محكمًا بين العقل والقلب، بل ربما يذهب هو إلى أن العقل والقلب صنوانِ لا يفترقانِ، وأنهما يكملان بعضهما البعض؛ فلا فائدة من خيالٍ لم تؤجِّجه عاطفةٌ جيَّاشة متوقدة، ولا فائدة من عاطفة مشتعلة لا تستطيع ترتيب الحياة في صورة من النشاط الإبداعي، أو أن تعبِّر عن نفسها تعبيرًا حقيقيًّا.




وسؤال العقل والعاطفة سؤال جوهري في عالم الفن والأدب، لا تكاد تلقى شاعرًا لم يفتنْه هذا السؤال، أو لم يتحرَّش بخلَده يومًا؛ مما جعل الكثيرين يُدْلُون بدلائهم في هذا الباب، فمِن مستقلٍّ ومستكثرٍ.




والأمر الآخر الملاحظ على هذا النص، هو التَّكرار الكثير لبعض الكلمات، وخاصة (القلب)؛ حيث أصر الشابي، وألح على هذا النمط الأسلوبي بشكلٍ راسٍ متعاقب؛ ليؤكِّد على أهمية القلب الذي يشكل مصدرًا لوجعه وآلامه.



إن الشابي لم يجدْ مَن يشتكي إليه، أو مَن يستمع له من البشر، فراح يصادق قلبه ويرافقه، ويقول له كل ما يريد، ويكرِّر عليه بلا ملل؛ لأنه يعلم أنه ليس لديه إلا هذا القلب الممتلئ بالأيام والذكريات الجميلة وغيرها.



أما رسالته الثانية إلى قلبه، فهي ما دار بينه وبين قلبه يوم غادرت روحُ أبيه جسدَه؛ فلقد نَعى الشابي قلبَه عندما انفطر من رحيل أبيه، فتعالوا ندلج الزمان الذي احتوى آخر أيام أبيه، وندخل غرفته في المستشفى؛ لنرى ذلك الابن البارَّ وهو يضع رأسه على صدر أبيه، ويدرُّ الدمع رقراقًا عليه كوابل المطر، فلما التفت إليه أبوه وأرسل له نظرة الوداع، لم يكن للشابي بدٌّ من أن يكذِّب الوداع ذاتَه، وأن يطرد خيال الفقد من رأسه، ولكن هيهات، فهذه الدنيا تُعلِّمنا الغروب كما تعلمنا الشروق، وبعد لحظات يلتفت إلينا بعينيه التي امتلأت مآقيها بالدموع، وهو يقول: "آه يا قلبي، لقد كانت تلك نظرة الموت وأنا لا أدري، أنا الطفل الصغير الذي لا يعرف مواقف الموت، حسبتُها نظرات الحياة تدعوني، ثم لوى عنقه، وشخص ببصره، وارتجفت شفتاه بالشهادة التي لم يفترْ عن تردادها، ولفظ النفَس الأخير، لقد مات أبي أيها القلب! فماذا لك بعدُ في هذا العالم؟!".



إنه ينادي قلبه متأوِّهًا من الألم الذي عصره لحظة وفاة والده، وهذا من أعجب العجب، أن تتأوَّه لقلبك وتشتكي له، وكأنه ليس هو الذي منحك هذا الإحساس وهذه المشاعر، آه يا قلبه الطفولي الصغير! على الرغم من أنه يحملك شاب قد بلغ العقد الثالث من عمره، إلا أن روح الطفولة وبراءتها وفطرتها لا تزال تجري في عروقه، إن الرجل والمرأة يبقيانِ أطفالاً أمام والديهما مهما بلغا من الكِبَر عتيًّا، فإذا مات أحدهما شاخ المرءُ فجأةً؛ كما يقول نابليون بونابرت.



لقد مات أبوه القاضي، الذي سعدت الأراضي التونسية بسموِّ خُلُقه، وحسن سيرته، وطيب سيرته بين مسجده ومحكمته وبيته، حتى ختم حياته بالشهادة، وكأنه يربِّي ابنه في هذه اللحظة الحاسمة أن كُنْ مع الله يكنِ اللهُ معك، ولكن عظمَ حجم المأساة، وجُثُومُها على صدر الشاعر من هذا الفراق، قد حوَّلت أيامه ولياليَه إلى سواد كالح، نهارُها كليلِها، عن قلبه لا تحيد، وتحت قدميه به تَمِيد.



وأما الرسالة الثالثة، فهي عتاب غيرُ لطيفٍ إلى قلبه الذي أطعمه الحرمان، لقد كان الحرمان ألمًا ممضًّا يتجرَّعه آناء الليل وأطراف النهار، وهو لا يكاد يُسِيغُه، وتأتيه صور المتعة والبهجة من كل مكان وما هو بمبتهجٍ، ومن ورائه الأطباء يمنعونه من التمتُّع بها لأجل صحَّة قلبه، وهو لم يُرِدْ من غشيان هذه المتع الحياتية إلا صحة قلبه وسعادته، ولكن ما أبعدَ نَجْعَةَ الآمال عن قلبه، فبعد أن كان مصدرَ الإلهام صار مصدر الآلام.



لقد استنطقتْ هذه الأحرف صورةً رآها في يوم ما، فقال: "ها هنا صِبْيَة يلعبون بين الحقول، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل، ومَن لي بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنى لي ذلك والطبيب يحذر علي ذلك لأن بقلبي ضعفًا! آهٍ يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية". فماذا بعد هذا الأسى إلا بقاءٌ يسير لم يتجاوز السنوات الأربع، حتى ودَّعت روحُه كل هذه المُهَج من الدنيا، ورحلت إلى عالم علوي سماوي في جنات عرضها كعرض السماء والأرض - بإذن الله.



من عاشَ بالوحي المقدَّس قلبُه

لم يلتفتْ لحجارةِ الفلتاءِ






ولا يَعزُب عنَّا صوتٌ مميز لا يمكن أن يغيب صداه عن كل مَن سمع نداءاته لقلبه، ذلك الصوت الذي أخبر فيه قلبَه عن سر السعادة، وأنها حلم صنعته أوهام الناس من قديم الأزل، ويستدل على ذلك بحياته التي ملأها الحزن والألم:



تَرجُو السَّعادةَ يا قلبي ولو وُجِدَتْ

في الكونِ لم يشتعلْ حُزنٌ ولا أَلَمُ



ولا استحالتْ حياة ُ الناسِ أجمعُها

وزُلزلتْ هاتِهِ الأكوانُ والنُّظُمُ



فما السَّعادةُ في الدُّنيا سوى حُلُمٍ

ناءٍ تُضَحِّي لهُ أيَّامَهَا الأُمَمُ



ناجتْ به النَّاسَ أوهامٌ مُعَرْبِدةٌ

لَمَّا تغَشَّتْهُمُ الأَحْلاَمُ والظُّلَمُ



فَهَبَّ كُلٌّ يُناديهِ ويَنْشُدُهُ

كأنَّما النَّاسُ ما ناموا ولا حلُمُوا

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.99%)]