
01-03-2022, 09:35 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 221 الى صـ 225
الحلقة (43)
القول في تأويل قوله تعالى :
[108 ] أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل (أم) هنا ، إما [ ص: 221 ] متصلة معادلة للهمزة في (ألم تعلم) أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور ، قادر على الأشياء كلها ، يأمر وينهى كما أراد ... أم تعلموا وتقترحون بالسؤال -كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام ؟ وإما منقطعة -بمعنى بل- للإضراب والانتقال عن حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك ، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة ، إلى التحذير من ذلك . ومعنى (الهمزة) إنكار وقوع الإرادة منهم ، واستبعاده ; لما أن قضية الإيمان وازعة عنها . وتوجيه الإنكار إلى الإرادة -دون متعلقها- للمبالغة في إنكاره واستبعاده ، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته ، فضلا عن صدور نفسه ، وقوله "ومن يتبدل الكفر" أي : يختره ، ويأخذه لنفسه "بالإيمان" . بمقابلته بدلا منه "فقد ضل سواء السبيل" أي عدل عن الصراط المستقيم . جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله "أم تريدون" إلخ ، معطوفة عليه . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان . فظهر وجه ذكر قوله "أم تريدون" إلخ بعد قوله تعالى "ما ننسخ" . فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها .
قال الراغب : فإن قيل ما فائدة قوله "ومن يتبدل الكفر" إلخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الإنسان سواء السبيل فكيف بالكفر ؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل ، قبل سواء السبيل ، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان . ومعناه لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان . فمبدأ ذلك، الضلال عن سواء السبيل . ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام ، بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفرا . إذ هي مؤدية إليه . كتسمية العصير خمرا ، فقال "ومن يتبدل" أي يطلب تبديل الكفر ، أي المعاندة التي هي مبدأ الكفر، بالإيمان أي بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس ، فقد ضل سواء السبيل .
[ ص: 222 ] ووجه ثالث وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل . وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .
ووجه رابع وهو أن "سواء السبيل" إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها . والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" أي بالإيمان المكتسب فقد أبطله ، وضيع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك .
هذا . وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ويرشحه قوله : ومن يتبدل الكفر بالإيمان فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين . ورجح الرازي كون الخطاب مع اليهود قال : لأن هذه السورة من أول قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق ، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا الآية ، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالإيمان ، وهم بمعزل من الإيمان ، إعراضهم عنه ، مع تمكنهم منه ، وإيثارهم للكفر عليه . كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[109 ] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا [ ص: 223 ] علة ود من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة ما طابقه من التوراة "فاعفوا واصفحوا" أي أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم "حتى يأتي الله بأمره" وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم : إن الله على كل شيء قدير فينتقم منهم إذا آن أوانه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[110 ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه أي ثوابه "عند الله إن الله بما تعملون بصير" فلا يضيع عنده عمل عامل .
القول في تأويل قوله تعالى :
[111 ] وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
" وقالوا" أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" نشر لما لفته الواو في "وقالوا"، واليهود جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ . وقرئ "إلا من كان يهوديا أو نصرانيا" . "تلك أمانيهم" جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا . والأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى . كالأعجوبة والأضحوكة. فإن قيل : قولهم "لن يدخل الجنة" أمنية واحدة ، فلم قال : أمانيهم ؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع . وأجاب صاحب الانتصاف بأنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم ، جمعت . ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم ، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحدا . ونظيره قولهم : معى جياع . فجمعوا الصفة ، ومؤداها [ ص: 224 ] واحد ; لأن موصوفها واحد ، تأكيدا لثبوتها وتمكنها .
وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى : إن هؤلاء لشرذمة قليلون فإنه جمع (قليلا) ، وقد كان الأصل إفراده فيقال (لشرذمة قليلة) كقوله تعالى : كم من فئة قليلة لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها . ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانة زيادته على نظرائه ، نقلا مجازيا بديعا . فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان . والله الموفق : قل هاتوا برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة "إن كنتم صادقين" في دعواكم . قال الرازي : دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :
من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه
انتهى كلام الرازي . وسبقه إلى ذلك الزمخشري حيث قال : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل غير ثابت . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[112 ] بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
"بلى" إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة "من أسلم وجهه لله" من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره . وإنما عبر عن النفس بالوجه ، لأنه أشرف الأعضاء ، ومجمع المشاعر ، وموضع السجود ، ومظهر آثار الخضوع . أو المعنى : من أخلص توجهه وقصده ، بحيث لا يلوي [ ص: 225 ] عزيمته إلى شيء غيره "وهو محسن" في عمله ، موافق لهديه صلى الله عليه وسلم ، وإلا لم يقبل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » رواه مسلم فله أجره عند ربه وهو عبارة عن دخول الجنة . وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل . "ولا خوف عليهم" من لحوق مكروه "ولا هم يحزنون" من فوات مطلوب . والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى "من" كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|