
01-03-2022, 09:35 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 226 الى صـ 230
الحلقة (44)
القول في تأويل قوله تعالى :
[113 ] وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه ، إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم . ومعنى "على شيء" أي أمر يعتد به من الدين "وهم يتلون الكتاب" الواو للحال . والكتاب للجنس . أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ، أن لا يكفر بالباقي . لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته . وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا "كذلك" أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج "قال" الجهلة "الذين لا يعلمون" لا علم عندهم ولا كتاب . كعبدة الأصنام . قالوا لأهل كل دين "مثل قولهم" ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم ، حيث نظموا أنفسهم ، مع علمهم ، [ ص: 226 ] في سلك من لا يعلم .
فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي يفصل بينهم بقضائه العدل ، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه . وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد وكما قال تعالى : قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم
قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن كل طائفة تكفر الأخرى . مع اتفاقهم على تلاوة القرآن . انتهى .
فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر ، لا بسنة ولا قرآن ، ولا لبيان من الله ولا لبرهان ، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين ، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين .
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف . ونهى عن الفرقة والاختلاف . فقال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا [ ص: 227 ] واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقد امتاز أهل الحق ، من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى :
[114 ] ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك ، ولما وجه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى ، ذيله بذم المشركين في قوله : كذلك قال الذين لا يعلمون ثم وجهه بهذه الآية أيضا للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وصدوهم أيضا عنه ، حين ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 228 ] وأصحابه من المدينة عام الحديبية ، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام ، لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه ، سعي في تخريبه . وأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وقال تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين وقال تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر ..إلخ مصدودا عنه ، مطرودا منه ، [ ص: 229 ] فأي خراب له أعظم من ذلك . والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له . وليس المراد بعمارته، زخرفته وإقامة صورته فقط ، إنما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه فيه ورفعه عن الدنس والشرك . وإنما أوقع المنع على المساجد ، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها . ولا يقال : كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط ؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاما ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول، لمن آذى صالحا واحدا : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال تعالى ويل لكل همزة لمزة والمنزول فيه واحد .
وقوله : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين ، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا . يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم . وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام . ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه : « ألا لا يحجن بعد العام مشرك » . فحج النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني ظاهرا على المسجد الحرام ، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ، المشار إليه بقوله تعالى لهم في الدنيا خزي لأن الجزاء من جنس العمل . فكما صدوا المؤمنين صدوا عنه ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه ، من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله ، والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .
وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود ، تبعا للسابق واللاحق ، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم ، وقتل وسبى منهم ، وأسرهم [ ص: 230 ] وبقوا في الأسر البابلي سبعين سنة ؛ كل ذلك كان برفضهم كتاب الله ، والعمل بشريعته .
وفي قوله تعالى : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدو ومذلة لصقت بهم . وهو وجه وجيه . لأن لفظ "سعى" ، يرشد إلى ذلك . كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى ، حينما تمكنت سلطتهم انتقاما من أعدائهم اليهود .
روى ابن جرير عن مجاهد، قال في الآية : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى . ويمنعون الناس أن يصلوا فيه . وقال قتادة : حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس . وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم ، لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام ، والإرشاد إلى سبل السلام .
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، فيما رواه الإمام أحمد عن بسر بن أرطاة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : « اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه ، وهو بسر بن أرطاة ، (ويقال ابن أبي أرطاة) حديث سواه ، وسوى حديث : « لا تقطع الأيدي في الغزو » .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|