عرض مشاركة واحدة
  #51  
قديم 01-03-2022, 09:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,436
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 261 الى صـ 265
الحلقة (51)

القول في تأويل قوله تعالى :

[130 ] ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين

ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم ، وهو ما جاء به محمد [ ص: 261 ] صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين ، أي لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه ، أي : حملها على السفه وهو الجهل .

قال الراغب : وسفه نفسه أبلغ من جهلها ، وذاك أن الجهل ضربان : جهل بسيط ، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء . وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل ، وفي الباطل أنه حق . والسفه أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده . فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم ، فإن ذلك لسفه نفسه ، وذلك أعظم مذمة ، فهو مبدأ كل نقيضة ، وذاك أن من جهل نفسه ، جهل أنه مصنوع ، وإذا جهل كونه مصنوعا جهل صانعه ، وإذا لم يعلم أن له صانعا ، فكيف يعرف أمره ونهيه ، وما حسنه وقبحه ؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه ، قال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم

وقوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة ، وتكثير الأنبياء من نسله ، وإعطاء الخلة ، وإظهار المناسك عليه ، وجعل بيته آمنا ، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم الدرجات العلى ، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح ، حيث جعله من المتصفين بها ، فهو حقيق بالإمامة ، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين ، ففي ذلك أعظم ترغيب قي اتباع دينه ، والاهتداء بهديه . وأشد ذم لمن خالفه .

قال الراغب : إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا ، وبالصلاح في الآخرة ، والنظر يقتضي عكس ذلك . فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل ، وذلك يكون في الدنيا ، والاصطفاء [ ص: 262 ] حال يستحقه العبد بكونه صالحا ، فحقه أن يكون في الآخرة ؟

قيل : الاصطفاء ضربان ، أحدهما كما قلت ، والآخر في الدنيا ، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه ، وهو المعني بقوله : شاكرا لأنعمه اجتباه والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا ، فمجازى به في الآخرة ، فبين تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه ، ومحكوم له في الآخرة ، بصلاحه في الدنيا ، تنبيها أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا ، وإنما استحقه بصلاحه فيها . ويجوز أن يكون قوله "في الآخرة" أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين . ويجوز أنه عنى بقوله "في الدنيا" حال بقائه ، و"في الآخرة" أي حال وفاته ، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه ، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله : واجعل لي لسان صدق في الآخرين ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، عبر عن السابق بالصالح ، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح . انتهى.

وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم ، وإقامة للحجة عليهم ، لأن أكثر ذلك معطوف على "اذكروا" في قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي

[ ص: 263 ] ولما ذكر إمامته عليه السلام ، ذكر ما يؤتم به فيه ، وهو سبب اصطفائه وصلاحه ، وذلك دينه ، وما أوصى به بنيه ، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفا عن خلف ، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[131 ] إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين

"إذ" أي اصطفيناه لأنه "قال له ربه أسلم" أي لربك ، أي انقد له ، وأخلص نفسك له ، أو استقم على الإسلام ، واثبت على التوحيد "قال أسلمت لرب العالمين" وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقي ، وليس في ذلك مانع ، ولا ما جاء ما يوجب تأويله . وقول بعضهم : هو تمثيل، والمعنى : أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام- ليس بشيء . ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز ، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما .
القول في تأويل قوله تعالى :

[132 ] ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون

"ووصى بها إبراهيم بنيه" شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره ، إثر بيان كماله في نفسه . والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته ، والضمير في "بها" إما عائد لقوله "أسلمت لرب العالمين" على تأويل الكلمة والجملة . ونحوه رجوع الضمير في قوله : وجعلها كلمة باقية إلى قوله : إنني براء مما تعبدون [ ص: 264 ] إلا الذي فطرني وقوله "كلمة" دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة . وإما عائد إلى الملة في قوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم وأيد الأول بكون الموصى به مطابقا في اللفظ لأسلمت ، وقرب المعطوف عليه . ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكورا صريحا ، ورد الإضمار إلى المصرح بذكره ، إذا أمكن ، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم . ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة . والكل حسن . وقوله تعالى "بنيه" تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق . وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج ، بعد وفاة سارة أم إسحاق ، امرأة أخرى اسمها قطورة ، فولدت له : زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا ، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية "ويعقوب" معطوف على إبراهيم ، ومفعوله محذوف تقديره : ووصى يعقوب بنيه . لأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما أوصى إبراهيم بنيه . ودليل ذلك قوله تعالى : إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي كما سيأتي . وقرئ "ويعقوب" بالنصب عطفا على بنيه ، ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب . وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم ، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة ، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة ، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام ، ولد له إسحاق [ ص: 265 ] وهو ابن مائة سنة ، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، وكان لإسحاق ، حين ولد له يعقوب وعيسو ، ستون سنة ، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه . ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وفي آية أخرى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة "يا بني" أي قال كل من إبراهيم ويعقوب ، على القراءة الأولى . وعلى الثانية : قال إبراهيم : يا بني إن الله اصطفى لكم الدين أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، وهو دين الإسلام ، الذي لا دين غيره عند الله تعالى "فلا" أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم : لا "تموتن إلا وأنتم مسلمون" وفي هذه الجملة إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا . وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام . فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، لأنه هو المقدور . فلا يقال : صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، وذا ليس بمقصود ، لأنه غير مقدور . وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام ، فيعود النهي إليه ، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف [ ص: 266 ] حال الإسلام وقت الموت ، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال . فإما أن يقال : استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني ، فيكون مجازا . أو يقال : استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه ، فيكون كناية.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.73%)]