
15-03-2022, 02:21 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,255
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 401 الى صـ 405
الحلقة (79)
فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء. خلاف ما عليه أهل الجاهلية. وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس - في البوادي والحواضر - إنما هي البغي وترك العدل. فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دما من الأخرى، أو مالا، أو يعلو عليها بالباطل، فلا ينصفها. ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء، والأموال، وغيرها... بالقسط الذي أمر الله به، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية.... وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل، كما قال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له قال أنس: ما رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو..! رواه أبو داود وغيره. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 401 ] «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» . وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر، فأما الذمي: فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم. كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار - رسولا أو تاجرا أو نحو ذلك - ليس بكفء لهم وفاقا. ومنهم من يقول: بل هو كفء له. وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد.
النوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها » . سماه شبه العمد ; لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة، لكنه بفعل لا بقتل غالبا، فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل.
الثالث: الخطأ المحض وما يجري مجراه: مثل أن يكون يرمي صيدا أو هدفا، فيصيب إنسانا بغير علمه ولا قصده. فهذا ليس فيه قود، وإنما فيه الدية والكفارة. وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم.
التنبيه الرابع: قال الراغب: إن قيل: لم قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل: فمن عفا له أخوه شيئا...؟ قيل: العدول إلى ذلك للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة، فعفا أحدهم ; إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية. فقال: فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى، والهاء في قوله: أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليه. وجعله أخا لولي الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية اهـ.
[ ص: 402 ] الخامس: هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة، وهي قوله تعالى: النفس بالنفس كما أنها مقيدة، وتلك مطلقة، والمطلق يحمل على المقيد. وكذا ما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فإنه يبين ما يراد في هذه الآية وآية المائدة. وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه لا يقتل حر بعبد. كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى. فالتعويل على ذلك. وبالجملة: فقوله تعالى: الحر بالحر إلخ لا يفيد الحصر البتة، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام. هذا ما اعتمدوه. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:
[179] ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون
وقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة ; لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، وعرف القصاص ونكر الحياة ; ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. وكم قتل مهلهل بأخيه، حتى كاد يفنى بكر بن وائل!. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر..!. فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي: حياة..! أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ; سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود. فكان [ ص: 403 ] القصاص سبب حياة نفسين...!. هذا ما يستفاد من " الكشاف ".
لطيفة:
اتفق علماء البيان على أن هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات...! وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل. وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل. وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها...! ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته.
قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: " القتل أنفى للقتل " بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق..! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك..!
الأول: أن ما يناظره من كلامهم وهو: القصاص حياة أقل حروفا، فإن حروفه عشرة، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر..!
الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والحياة ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه!.
الثالث: أن تنكير: حياة يفيد تعظيما، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة، كقوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
[ ص: 404 ] الرابع: أن الآية فيه مطردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما! وإنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبدا..
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلا بالفصاحة..!
السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف. بخلاف قولهم. فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها. وحذف " قصاصا " مع القتل الأول، " وظلما " مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصا أنفى ظلما من تركه.
السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل...
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين - الذي هو الفناء والموت - محلا ومكانا لضده - الذي هو الحياة. واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة... ذكره في " الكشاف ". وعبر عنه صاحب " الإيضاح " بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه.
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره. فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات. نظيره: إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فحبست، ثم تحركت فحبست، لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة!.
العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر ; لأن الشيء لا ينفي نفسه!.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها عن غنة النون.
[ ص: 405 ] الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ; إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق. بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف. وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء.
الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل.
الخامس عشر: أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل.
السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات، والمثل على النفي، والإثبات أشرف ; لأنه أول، والنفي ثان عنه.
السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله: في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة..!
الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة منه..!
التاسع عشر: أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا..! وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|