
22-03-2022, 05:18 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (108)
صـ231 إلى صـ 240
المسألة السادسة
كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين :
إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم . والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي .
فالأولى نظرية ، وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية . والثانية نقلية ، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي ، بل هذا جار في كل مطلب عقلي ، أو نقلي فيصح أن نقول : الأولى راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية ، فإذا قلت إن كل مسكر حرام ، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود [ ص: 232 ] منه ليستعمل ، أو لا يستعمل ; لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون ، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل : له أهذا خمر أم لا ، فلا بد من النظر في كونه خمرا ، أو غير خمر ، وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر ، أو حقيقتها بنظر معتبر قال : نعم هذا خمر ، فيقال له كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه ، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء ، فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا ، وذلك برؤية اللون ، وبذوق الطعم ، وشم الرائحة ، فإذا تبين أنه على أصل خلقته ، فقد تحقق مناطه عنده ، وأنه مطلق ، وهى المقدمة النظرية ، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية ، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز ، وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا ، فإن تحقق الحدث ، فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء ، وإن تحقق فقده فكذلك ، فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء ، وهى المقدمة النقلية .
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ، ومقيدة ، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين ، وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما [ ص: 233 ] تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق ، أو على التقييد ، وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات .
نعم ، وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا ، وأردنا أن نعرف ما الذي يرفع من الاسمين ، وما الذي ينصب ، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول ، فإذا حققنا الفاعل ، وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية ، وهى أن كل فاعل مرفوع ، ونصبنا المفعول كذلك; لأن كل مفعول منصوب ، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل; لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية ، وهكذا في سائر علوم اللغة ، وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أم لا ، فلا بد من تحقيق مناط الحكم ، وهو العالم فنجده متغيرا ، وهي المقدمة الأولى ، ثم نأتي بمقدمة مسلمة ، وهو قولنا : كل متغير حادث .
لكنا قلنا في الشرعيات ، وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية ، وهي المفيدة لتحقيق المناط ، وذلك مطرد في العقليات أيضا ، والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات ؟ هذا لا بد من تأمله .
والذي يقال : فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق [ ص: 234 ] أنها نقلية ، فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ، ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة ، وهي الضروريات ، وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين ، وهي أن تكون مسلمة ، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا ، فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه ، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر ، وبالله التوفيق .
[ ص: 235 ] المسألة السابعة
كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف ، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات ، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهد في المنهيات .
وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون ، وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره; إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ، وكذلك في العوارض الطارئة عليها; لأنها من جنسها ، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية ، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية; لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه ، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة .
[ ص: 236 ] المسألة الثامنة
فنقول : إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه ، أو تكميلا لأصل كلي ، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال .
أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة ، وما نشأ عنهما ، وهو أول ما نزل بمكة .
وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ الأنعام : 151 ] ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ التكوير : 8 ] ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ الأنعام : 119 ] ، وأشباه ذلك .
[ ص: 237 ] وأما العقل فهو ، وإن لم يرد تحريم ما يفسده ، وهو الخمر إلا بالمدينة ، فقد ورد في المكيات مجملا; إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ، ومنافعها من السمع والبصر ، وغيرهما ، وكذلك منافعها ، فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله ساعة ، أو لحظة ، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه .
[ ص: 238 ] وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات; لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن ، حيث قال :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ المائدة : 91 ] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان .
وأما النسل ، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج ، أو ملك اليمين .
وأما المال فورد فيه تحريم الظلم ، وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ، ونقص المكيال ، أو الميزان والفساد في الأرض ، وما دار بهذا المعنى .
وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن أذايات النفوس .
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب [ ص: 239 ] الوجود حاصل ، ففي الأربعة الأواخر ظاهر ، وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح ، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي ، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا .
وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة ، وذلك يحصل به معنى الانقياد ، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشاعرهم .
[ ص: 240 ] وكذلك الصيام أيضا ، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء ، فأحكمهما التشريع المدني ، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] الآية فلهما أصل في المكي على الجملة .
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر [ لقمان : 17 ] ، وما أشبه ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|