شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (164)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
[الشروع بتغسيل الشق الأيمن ثم الأيسر]
وقوله: [ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر]: يغسل شقه الأيمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) ثم شقه الأيسر، إن كان مضطجعا ووجهه إلى السماء فتبدأ بالشق الأيمن للميت لا للغاسل.وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو أحرمت بعمرة وأردت أن تتحلل بعد انتهائك منها، أو بحج وأردت أن تتحلل منه، فهل السنة إذا جاء الحلاق ووقف قبالة وجهك أن يبدأ بيمينه الذي هو يسار لك، أو بيساره الذي هو يمين لك؟
الصحيح: أن العبرة بك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الحلاق شقه الأيمن،
فلما قال: ناول الحلاق شقه الأيمن؛ دل على أن العبرة بالميت الذي يغسل، فيبدأ بيمين الميت لا بيمين الغاسل؛ لأنه ربما وقف الغاسل فكان يمينه يسار الميت، وكان يساره يمين الميت، فحينئذ العبرة بالميت نفسه؛ لأن الغسل متصل به، والعبادة كذلك متصلة به، فحينئذ يبدأ بيمين الميت،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) فأسند اليمين إليها، والإضافة تقتضي التخصيص.
وعلى هذا: تكون اليمين للميت لا للغاسل، فإن كان مضطجعا إلى السماء تأتي إلى الناحية اليمنى وتصب الماء عليها، وتغسل أعلاه ثم أسفله، بأن تقلبه حتى يعطيك قفاه، فتغسل الجهة التي تلي الظهر من اليمين؛ تبدأ بهذا ثلاثا.
وبعض العلماء يرى: أنه عليك أن تبدأ بالغسلة الأولى بالشق الأيمن، ثم تقلبه على شقه الأيسر وتغسل الأيسر، ثم تعود ثانية إلى الأيمن، ثم تعود ثالثة بنفس الطريقة؛ كأنه يرى أن الغسلة تتم بالجمع بين اليمين واليسار،
ولكنهم قالوا: الأرفق والأولى أن يبدأ باليمين فينتهي منه كلية، فيغسله ثلاثا، ثم بالشمال ويغسله ثلاثا فينتهي منه بعد انتهائه من اليمين.
[عدد الغسلات في غسل الميت]
وقوله: [ثم كله ثلاثا].أي: كل جسده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح بدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، وقالت أم المؤمنين: (ثم أفاض الماء على رأسه -وفي رواية- على جسده).، فهذا يدل على أن الإفاضة تكون بعد البدء بالشق الأيمن؛ تشريفا لليمين، ثم انتهائه من الأيسر.
وقوله: (يفيض الماء على جميع جسده)؛ لا بأس باستعمال الوسائل التي يستعان بها في صب الماء كخرطوم المياه ونحو ذلك، فإن شئت أن تصب الماء عليه وتدلك بيديك فابدأ بشقه الأيمن، ثم اقلبه على الأيسر وادلكه بيدك، ثم عمم سائر الجسد، ويكون غسلك لسائر الجسد ثلاث مرات، والثلاث المرات أن تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ ثم تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ حتى يكون أدعى لضبطك؛ لأنك لو فرقت بدون إمعان ربما تكررت الثلاث متفرقة على البدن، فتكون غسلت بعض البدن ثلاثا وبعضه مرتين وبعضه مرة.
فالأولى: أن تبدأ بترتيب جسده، فتبدأ بأعلاه فتعتني بكتفيه وجهة رأسه، ثم إلى صدره ثم إلى ظهره، ثم بعد ذلك على ما أقبل من أسافل رجليه ثم ما أدبر.
وبعض العلماء يقول: إنما يبدأ بالأعلى وهو منقلب على وجهه إلى السماء، فتبدأ بأعلاه ثم إلى أسفله، ثم تقلبه وتبدأ بأعلاه وهو مقلوب إلى أسفله.والأمر واسع، والعبرة أن الماء يعم الجسد سواء بهذه الطريقة أو بتلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه) ولم يحد في ذلك حدا معينا.
وقوله: [يمر في كل مرة يده على بطنه]: أي: يمر في كل مرة يده على بطنه برفق؛ حتى إذا كان هناك خارج يخرج ويبقى نظيفا نقيا كما هو المقصود من غسله وتنظيفه.
وقوله: [فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى ولو جاز سبعا].
أي: فإذا كان بعد الثلاث قد نقي فلا إشكال، وإن لم تنقه الثلاث زيد وترا، فيكون بخمس ويكون بسبع على حسب الحاجة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن) فهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالنظافة؛ ولذلك يختلف الوضع في الصيف والشتاء، فقد يكون في الصيف أسهل وفي الشتاء أصعب، وقد يكون بعض الأجساد به من النتن والقذر ما يحتاج إلى غسله سبعا أو تسعا أو إحدى عشرة مرة؛ فالعبرة في هذا الأمر بتنظيفه وإنقائه.
[وضع الكافور في الغسلة الأخيرة]
وقوله: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافورا]: أي: لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور) والكافور ميزته أنه يطرد الهوام، فإذا وضع في قبره فإن الهوام لا تبادر بالهجوم على جسد الميت، وذلك أدعى لبقاء الجسد أكثر مدة،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافورا) يدل على أنه من السنة.
[حكم استعمال الأشنان في الغسل]
وقوله: [والماء الحار والأشنان، والخلال يستعمل إذا احتيج إليه]: الماء الحار على ضربين: حرارة نسبية معقولة يستعان بها على خفة الماء على الجسد وسهولته، وكذلك تأثيره على القذر الموجود على ظاهر جسد الإنسان.
وحرارة شديدة يتفسخ معها الجسد أو يتضرر منها الجلد.
والعلماء رحمهم الله لا يعنون بالحرارة النوع الثاني الذي يضر بالبدن ويؤذيه، إنما المراد الماء الحار الذي يقصد به الرفق بالبدن، وسهولة إخراج القذر منه، والسبب في ذلك أن الجلد إذا غسل بماء حار سهل إخراج ما علق به من الأوساخ والأقذار.
فذكر رحمه الله أن الأصل أنه يغسل بماء عادي غير حار ولا بارد ينفع الجسد بإنقائه وتطهيره وإزالة القذر الذي عليه، ولكن إذا وجدت الحاجة لوجود أوساخ أو أقذار عالقة بالبدن؛ فحينئذ يصب الماء الحار، ولكن بشرط ألا تكون حرارته شديدة بحيث تؤذي البدن وتضر به.
و (الأشنان): كالصابون ونحوه، فيمكن أن يغسله بالصابون إذا احتيج إليه كما إذا كان شديد القذر، فبعض الموتى يكون على حالة يحتاج معها إلى وجود الطيب أكثر، كأن يغسل بالصابون وما في حكم الصابون من رغوة الأطياب الموجودة في عصرنا الحاضر، فحينئذ يوضع في الماء ويغسل برغوة الصابون ونحوه، وهو الذي يسميه العلماء بالأشنان.
(والخلال): وهو تخليل أسنانه ومواضع الأذى بالأعواد، لكنها في الأصل تكون في الأسنان، ولو احتيج لتخليل الأسنان كأن يكون بينها أقذار أو أوساخ، كما يقع في بعض الحوادث، أو يكون هناك فضلة دم في الفم، فلا يستطيع أن يزيلها إلا بشيء من الأعواد الصغيرة التي تستعمل لتخليل المنافذ الموجودة بين الأسنان، فهذه تستعمل إذا احتيج إليها، وإلا فالأصل أنها لا تستعمل.
[حكم قص شعر الميت وتسريحه وقص أظافره]
وقوله: [ويقص شاربه ويقلم أظفاره]: أي: إذا أراد أن يغسل الميت يقص شاربه؛ لأن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قص الشارب، وهي من الفطرة كما في الصحيح في حديث: (خمس من الفطرة، ومنها: قص الشارب) والشارب للعلماء فيه كلام من ناحية إحفائه وقصه، فبعض العلماء يرى أن العبرة في القص أن يبدو إطار الشفة؛ لأنه إنما ندب وعد من الفطرة أن يقص الشارب؛ لأنه إذا نزل الشارب على الفم أنتن وتعلقت به فضلات الطعام، والأطباء يمدحون ويفضلون تخفيف الشارب؛ لأنه قد يضيق نفس الإنسان بكثرة وجود الفضلات المنتنة على شاربه وقد يتضرر، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- على هذه الخصال.
فلو كان شاربه طويلا متدليا على فمه، فتقص أطراف الشارب، وهذا من السنة، وذهب بعض العلماء إلى أن الميت لا يقص منه شيء؛ لأن أجزاءه تحفظ كما هي، وهذا القول هو الأقوى وهو الصحيح، أي: أنه لا يمس شيء منه إلا إن وجدت الضرورة والحاجة لإزالته بحيث يحكم بجوازه، كأسنان الذهب إذا أمكن إزالتها بدون ضرر، إما إذا وجد ضرر فتبقى.
فلا يزال من جسده إلا ما دل الدليل على حرمة بقائه، وأما ما عداه فيبقى على الأصل، وإنما يكلف بقص شاربه لو كان حيا، أما وقد مات فقد انتهى التكليف، فلسنا مطالبين إلا بما قاله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين) فنحن مطالبون بالغسل والتكفين، وأما بالنسبة لقص الأظفار والشعر فلا.
وقال بعضهم: إذا قصت أظفاره وضعت في الكفن، وإذا قص شيء من شعره وضع في الكفن، كأنهم يرون أن الأصل أن يحافظ على كامل الجسد بما فيه، فهم يسلمون بهذا الأصل.
ولذلك نقول: إن قص الشارب والأخذ من الأظفار الأولى تركه؛ فإن فعله أحد لم ينكر عليه، وله أجر إن شاء الله؛ لأن هذا أمر اجتهد فيه بعض العلماء، ورأوا ذلك من الإحسان إلى الميت، وإن كان الذي تميل إليه النفس وتطمئن إليه -بدلالة النصوص- عدم مس شيء من هذا.
وقوله: [ولا يسرح شعره].أي: ولا يسرح شعره خوف التساقط؛ ولذلك كرهه بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا غلب على ظنك تساقط شعره فلا تسرحه؛ لأنه سبب في زوال جزء من البدن.
وقوله: [ثم ينشف بثوب]: بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل وطريقة الغسل، ذكر أنه إذا تم الغسل، فإنه ينشف بثوب، فيؤخذ شيء من المناديل الكبيرة وتوضع عليه، وتمر على أعلى بدنه ثم على أسفله، حتى يتم تنشيف جميع البدن، ولا يوضع مباشرة بعد التغسيل في الكفن؛ لأنه لو وضع مبلولا على الكفن قد ينتن؛ ولذلك ينشف حتى يكون أدعى لمس الطيب له وحصول المقصود من بقاء الكفن عليه دون وجود ضرر البلل.
وقوله: [ويظفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها].
(ويظفر شعرها) أي: المرأة، (ثلاثة قرون) كما ورد في تغسيل زينب رضي الله عنها من حديث أم عطية رضي الله عنها.
(ويرمى وراءها) أي: وراء المرأة ولذلك قالوا: إن هذا يؤكد أن المعروف في النساء إنما هو ظفر الشعر ورده إلى الخلف، وأما القصات الموجودة ونحوها مما يكون في تفصيل الشعر فهذا مما أخذه بعض الناس من العادات الواردة عليهم،
ولكن يقول العلماء: إنه يظفر ويسدل وراءها، وهذا أفضل ما يكون في المرأة في تسريحها لشعرها.
[حكم خروج شيء بعد الغسلة السابعة]
وقوله: [وإن خرج منه شيء بعد سبع حشي بقطن، فإن لم يتماسك فبطين حر].بعد أن بين صفة الغسل، فبعد الفراغ من الغسل بتجفيفه وتهيئته للتكفين، ترد مسألة يعتني العلماء بها وهي: لو خرج شيء بعد تغسيله سبعا فالحكم فيها: أن يحشى الموضع -وهو الدبر- بقطن، لكي يتماسك ويمنع الخارج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة لما غلبها الدم: (أنعت لك الكرسف -والكرسف: هو القطن، أي: ضعيه في الموضع حتى يمنع خروج الدم- قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك.قال: تلجمي).
فإن لم يتماسك قالوا: فبطين حر، كل ذلك من باب الأسباب التي تعين على حفظ طهارته.
وقوله: [ثم يغسل المحل ويوضأ]: أي: ثم يغسل محله ولا يعاد الغسل.فإذا غسلته سبعا وانتهيت منه، ثم بعد ذلك خرج الخارج فلا تعد الغسل، بل إذا انتهى الغسل بالسبع وخرج منه الخارج فإنك تحشي الموضع بالقطن، فإن لم يتماسك فبطين حر، ثم تغسل النجاسة الموجودة في الموضع نفسه، ولا تطالب بالزائد على ذلك.
وقوله: [وإن خرج منه بعد تكفينه لم يعد الغسل].
أي: لا تلزمه إعادة الغسل، حتى قال بعض العلماء: إذا خرج بعد التكفين فإنه لا يلتفت إليه ولا يشتغل به ولا حتى يغسل؛ لأنه قد فعل ما وجب من تغسيله وتكفينه، وذلك يشبه ما لو وضع في قبره فإنه آيل إلى الفناء والتلف؛ فلو خرج الخارج لم يؤثر.
الأسئلة
[تحديد وقت نية الغسل]
q هل تكون النية بعد غسل أعضاء الوضوء أم تكون قبل غسل أعضاء الوضوء، علما بأن المصنف رحمه الله ذكرها بعد غسل أعضاء الوضوء؟
aالنية تكون عند بداية توضيء الميت، وأما بالنسبة لإزالة نجاسته وقذره فلا تشترط له نية؛ لأن إزالة النجاسة من الوسائل، وإنما تشترط النية في المقاصد لا في الوسائل، فلو أن إنسانا- مثلا- دخل إلى دورة المياه وقضى حاجته، ثم بعد ذلك غسل الموضع الذي خرج منه الخارج ولم ينو هذا الغسل للصلاة أجزأه؛ لأن مقصود الشرع تنظيف هذا الموضع بغض النظر عن كونك ناويا للصلاة أم لا، فعلى هذا تكون النية عند ابتداء توضيء الميت إذا كان يريد أن يوضئه، وإذا كان يريد أن يغسله مباشرة فإنه يكون عند ابتداء غسله والله تعالى أعلم.
[حكم خروج فضلات بعد إتمام الغسل]
q لو أنه بعد غسل الميت وعند القرب من الانتهاء ولكن دون سبع غسلات خرجت منه فضلات، هل يعيد الغسل من الأول أم يبني في عدد الغسلات؟
a هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، منهم من يحد الثلاث، ومنهم من يحد الخمس، ومنهم من يحد السبع كحد أعلى؛ فالذي يحد السبع يقول: إذا كان قبل السبع يعود ويغسل حتى يصل إلى السبع؛ فإن وصل إلى السبع فهي أقصى ما يصل إليه، وحينئذ لا يلزمه أن يعيد بعد هذا غسله، وإنما يغسل الموضع ويقتصر عليه.
[حكم غسل العبد لسيدته]
q هل يغسل العبد سيدته؟
a العبد لا يغسل سيدته، وإنما يغسلها زوجها، وتغسل الأمة سيدها، والحكم مختص بالسيد مع أمته لا بالسيدة مع عبدها والله تعالى أعلم.
[حكم من أوصي إليه بالغسل وهو جاهل به]
q إذا أوصى الميت بأن يغسله شخص، وهذا الشخص معروف بالجهل، هل يعمل بالوصية أم لا؟
a هذا فيه تفصيل: إن أمكن تعليم هذا الشخص، أو أن يكون بجواره من يعلمه الغسل، فهذا أبلغ في إنفاذ وصية الميت، وأما إذا لم يمكن، وأصر أن يغسله وحده فلا عبرة بتغسيله إذا كان لم يؤمن معه الإخلال بالواجبات والأمور المطلوبة، وحينئذ تكون الوصية في غير محلها، ويعتد بغسله على الوجه المعتبر والله تعالى أعلم.
[مسألة في تغسيل ذوي الأمراض المعدية]
q أشكلت علي مسألة، وهي ترك غسل من به جدري أو مرض يخاف انتقال العدوى من الميت إلى المغسل وفي الحديث حديث (لا عدوى ولا طيرة) أثابكم الله.
a مسألة العدوى وانتقال العدوى هذه فيها نصوص تكلم العلماء رحمهم الله عليها، وظن أنها متعارضة، وإن كان ظاهرها يوهم التعارض، فالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة) وصحت عنه الأحاديث بإثبات العدوى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال -كما في الصحيح-: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإن وقع بأرض فلا تخرجوا منها) وقال أيضا: (فر من المجذوم فرارك من الأسد).
فللعلماء في هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض أوجه: منهم من يقول: العدوى منفية، ويستثنى من ذلك المجذوم والطاعون؛ لأن التعارض ليس من كل وجه، فيقولون: تنتقل العدوى في الأمراض التي فيها عدوى، ويكون المجذوم والطاعون أصلين وما مثلهما ملتحق بهما، فالمجذوم في الجلد والطاعون في داخل البدن، فكأنه ذكر أصل الأمراض المعدية الظاهرة، والأمراض المعدية الباطنة.وهذا هو أقوى الأقوال جمعا بين النصين، ويكون قوله: (لا عدوى)، أي: أنها لا تضر بنفسها كما كانت العرب تظن وتعتقد في الجاهلية أن العدوى بذاتها مضرة، ويغفلون مسبب الأسباب ورب الأرباب سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل هو الذي سبب كونها معدية، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد بقوله: (فمن أعدى الأول؟) فكأنه يقول لهم: لو كانت العدوى بذاتها لكانت أشبه بالأمور الطبيعية، فلا إله والحياة طبيعة؛ لكنه قال: (من أعدى الأول؟) أثبت أن الأول به عدوى، وأن العدوى قد وضعها الله عز وجل، ولم ينكر عليهم دخول الإبل المريضة على الإبل الصحيحة وعدواها، وقد قال: (لا يورد ممرض على مصح).
فإذا: كأن الحديث ليس على ظاهره: (لا عدوى)، فليس المعنى أنها لا عدوى بالكلية، والنفي من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون على ظاهره في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كاملا، وليس المراد: النفي الكامل من كل وجه الذي يقتضي نفي صحة الإيمان والحكم بالكفر.
فإذا: النفي يكون مسلطا على العموم، ويراد به أمر معين يقصده عليه الصلاة والسلام لاعتقاد ونحوه، فيكون قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: لا تظنوا أن العدوى بذاتها تؤثر، وهذا الصحيح؛ فإن الناس في العدوى على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول يقول: لا عدوى بالكلية، وينفيها كلية، ويخالف الحس والواقع الذي يشهد بوجودها.
ومنهم من يقول: العدوى ثابتة وهي بنفسها تضر، كما كان عليه أهل الجاهلية.وجاء الشرع وسطا بين الأمرين، فقال: العدوى موجودة؛ ولكن لا تضر بنفسها، فتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن الحس شاهد لانتقال العدوى؛ ولذلك قال: (لا يورد ممرض على مصح) وعلى هذا يكون الأمر في قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: اعتقاد أن العدوى تؤثر بنفسها.ولذلك ترى الرجل من قوة إيمانه ربما ورد على المريض -وهو قوي اليقين بالله سبحانه وتعالى- رغم أن مرضه معد ولا ينتقل إليه، والعكس: أنه قد ينتقل من إنسان متحفظ خائف يتعاطى الأسباب، ومع ذلك ينقل الله إليه المرض، وقد أشار الله إلى هذا: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة:243] قال الله لهم: (موتوا) لأنهم ظنوا أن الخروج من أرض الوباء نجاة، وأنهم يسلمون من الهلاك بالسبب نفسه، وهذه العقيدة يهدمها دليل الكتاب والسنة، وهي الغلو في الأسباب، والإسلام وسط يقرر الأسباب لكن يعطيها حقها دون إفراط ودون تفريط.
فأنت تقول: العدوى مضرة وموجودة وثابتة، والحس شاهد، والله سبحانه وتعالى قد جعل الأسباب والمسببات، وسبحان من قدر وحكم وعدل، وهو أعلم وأحكم سبحانه، لكن لا نغلو في هذا الشيء.ومن هنا ترى أن بعض الذين يغلون في العدوى -كبعض الأطباء- يبالغ فيها حتى يعتقد أنه لو دخل إنسان صحيح على إنسان مريض فإنه سيصاب بالعدوى لزاما، ويغفل قضية العقيدة، وهو أنه مهما كان الأمر ومهما كان السبب فإن لله عز وجل قدرة تفوق هذا الأمر كله؛ ولذلك قال الله تعالى: {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} [الأنبياء:69].فالنار لو ألقي فيها الحي احترق وصار فحما ورمادا، فقلبها الله لإبراهيم بردا وجعل بردها سلاما، ولم يجعل بردها هلاكا؛ ولذلك قال بعض العلماء: لو قال الله: (بردا) لأهلكته من البرد، ولكن الله سبحانه قال: (بردا وسلاما).
فالمقصود أن نكون وسطا، ولا نقول لا عدوى بالكلية، ولا نبالغ في العدوى، فتجد الإنسان إذا دخل على صاحب مرض معد، ربما دخل والخوف يرجف في قلبه، وتجد عنده غلو في مثل هذه الأمور كما هو شأن بعض الأطباء أصلحهم الله، حتى يصير طبه وبالا عليه، ولا تكون عنده العقيدة القوية في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ينبه العلماء على أنه لا ينبغي المبالغة في الأسباب.
انظر الآن إلى أهل البادية: ربما جاء الرجل منهم على الأرض، وتجد الأرض مليئة بالتراب، والماء مليء بالتراب، وفيه من النتن ما فيه، ومع ذلك يشربه متوكلا على الله معتمدا عليه ولا يضره، وتجد الرجل في الحضر، والماء نقي وفيه من وسائل المحافظة ما الله به عليم، ومع ذلك تجده خائفا من كثرة ما يقولون في العدوى، حتى بالغوا في الأشياء وأصبح الإنسان لا يأمن في شيء يأكله أو يشربه، وهذا هو المحظور.
المحظور أن يبالغ في الأسباب وتعد أنها هي المعول عليها، وأنها هي المؤثرة وهذا لا ينبغي، بل ينبغي ربط قلوب الناس بالله سبحانه وتعالى.
فالمريض مرضا جدريا أو معديا إذا قلنا للحي: اغسله.يقول العلماء: تعارضت مصلحتان: مصلحة حي ومصلحة ميت، فمصلحة الميت بتغسيله، ومصلحة الحي بسلامته من ضرره، فإن قلنا له: اغسله.تعرض للضرر في الغالب، والغالب كالمحقق، والله تعبدنا بغلبة الظن، فقال: {فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة:10] فغالب الظن علم.ونحن بغالب ظننا بالاستقراء والتجربة أنه لو دخل ابتلي؛ فحينئذ نبني على هذا الغالب ونقول: فلو غسله، فقد حصلنا مصلحة الميت وفوتنا مصلحة الحي، فقالوا: ننظر في مصلحة الحي، فلو قلنا له: ييممه؛ فإنه يسلم من ضرر تغسيله؛ لأنه ربما علق به ما يؤدي به إلى الضرر، فينتقل إلى التيمم؛ لأن تغسيل الميت له بدل، وفوات روح الحي أو تعرضه للمرض المعدي لا بدل له، والقاعدة: أنه إذا تعارضت مصلحتان، مصلحة لها بدل ممكن أن تحقق به، ومصلحة لا بدل لها، دفعت المصلحة التي لا بدل لها بالمصلحة التي لها بدل.
فنقول: ييممه؛ لأن التيمم بدل عن الغسل، وكما أن الذي لا يمكن غسله كالمحروق نظرنا فيه إلى مصلحة الميت، وكذلك أيضا من باب أولى وأحرى أن ينتقل المرض إلى الحي كالأمراض الجلدية المعدية، وكذلك أيضا الأمراض الوبائية التي تكون في أجهزة الإنسان، كل ذلك مما يشرع فيه أن ينتقل إلى التيمم، لكن إذا وجدت وسائل الحفظ فيجب تغسيله مع تعاطي هذه الأسباب، والله تعالى أعلم.
[علة تخصيص غسل الرأس واللحية برغوة السدر]
q لماذا خص المصنف غسل الرأس واللحية برغوة السدر دون سائر الجسد؟
a أشار بعض العلماء رحمة الله عليهم وبعض المعاصرين أيضا إلى أن تفل السدر لو أنه غسل به وجه هذا لعلق في شعره؛ ولذلك يقتصر على رغوة السدر حتى لا تتخلل في الشعر فيصعب إخراجها ويتضرر الإنسان، والمعروف أن رغوة السدر تكون سالمة من تفل السدر؛ لأن السدر سيدق، ثم بعد ذلك يوضع في الماء، وهذا السدر لو أنه خلطه وحرك الماء وغسل الوجه به لعلقت فضلات السدر في الشعر وفي مغابن الوجه، ولذلك قالوا: لا يغسله إلا بالرغوة، فيأخذ السدر ويضربه بيده حتى تكون له رغوة، فيجمعها ثم بعد ذلك يغسل بها الوجه، والمقصود يتحقق بهذه الرغوة.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.