شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (166)
صـــــ(1) إلى صــ(23)
[حكم دفن الشهيد بثيابه التي قتل فيها]
وقوله: [ويدفن في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه]: أي: سواء كانت الثياب يسيرة أو غالية، فالحكم واحد أنه يدفن في الثياب التي قتل فيها،
وإذا لم يكن له ثوب قال العلماء: إذا جرد عن ثيابه أو احترقت ثيابه، أو نزعت عنه، فأصبح عاريا، قالوا: يشرع حينئذ أن يوضع شيء على عورته ثم ينزل إلى قبره ويلحد، دون أن يكفن الكفن المعروف،
وهذا على الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (زملوهم في ثيابهم)، فأمر في الشهداء أن يزملوا في ثيابهم، وأن يكونوا بنفس الثياب التي لقوا بها العدو، لا يزاد عليها ولا ينقص منها.
لكن يؤخذ من الثياب السلاح ونحوه، كمحامل الأسلحة ونحوها، ويؤخذ بثيابه ثم يلف فيها، قال صلى الله عليه وسلم في مصعب رضي الله عنه، وقد كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه وإذا غطوا قدميه بدا وجهه::
(غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخرا أو شيئا من الإذخر)، وهذا فيه دليل على أنه إذا كانت ثيابه تسع أعلى البدن دون أسفله فإنه حينئذ يقدم ويشرف أعلى البدن ثم يترك الأسفل مكشوفا، فإذا كان هناك إذخر فإنه يستر بالإذخر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلوا على رجليه إذخرا أو شيئا من الإذخر)، فدل على استثناء الإذخر وحده دون غيره.
حكم من قتل شهيدا ثم سلبت ثيابه
وقوله: [وإن سلبها كفن بغيرها]: قال بعض العلماء: تستر عورته.
وقال بعضهم: بل يكفن الكفن الذي يكون سترا لسائر بدنه، وهذا قول من يعمل الأصل،
ويقول: إن الأصل أنه يحسن الإنسان في كفن أخيه المسلم، فلما كان الشهيد قد فاتت ثيابه واحترقت، أو زالت أو سلبها العدو أو أخذها،
قالوا: حينئذ يزمل في ثياب ولو كانت جديدة، ثم بعد ذلك يدفن.
[حكم الصلاة على الشهيد]
وقوله: [ولا يصلى عليه]: هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم، وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل، فإن الصلاة على الميت فيها من الفضل والخير للأحياء والأموات ما الله به عليم،
ولذلك: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، فيشفعون له إلا شفعهم الله فيه)، وهذا يدل على فضل الصلاة على الميت والدعاء له، فجعلها الله فضلا للأحياء والأموات، أما الأحياء فجعل فيها القراريط من الأجر، وما يكون لهم من أجر الدعاء للميت.
وأما الأموات فلأنه خير يكون لهم قبل أن يلقوا الله عز وجل بدعاء إخوانهم وسؤال الرحمة، وقد يتجاوز الله عن سيئات الميت بسبب خالص دعاء الأحياء، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء للأموات، وأن على الإنسان إذا دعا لأخيه الميت فعليه أن يخلص في الدعاء ويجتهد، فلما كانت الشهادة يرجى لصاحبها من الخير والفضل ما يرجى، صار كأنه ارتفع عن هذا كله، لعظيم ما له عند الله من المنزلة، والدرجة، مع أن الصلاة فيها دعاء واستغفار له، فكأنه قد جاوز ذلك إلى رحمات وجنات وفضائل من الله سبحانه وتعالى تغنيه عن الدعاء.
ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن فتنة الشهيد في قبره: هل يسأل الشهيد في قبره ويفتن بالفتان؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، أي: كفى ببارقة السيوف على رقبته فتنة، وذلك لأنه قتل في سبيل الله مقبلا غير مدبر بائعا نفسه لله عز وجل، فكأنه قد أقبل على الله سبحانه وتعالى بخير عظيم.
ولذلك ورد في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (تكفل الله.
وفي رواية: تضمن الله) والضمانة والحمالة والكفالة من الله سبحانه وتعالى تدل على ما له عند الله سبحانه وتعالى من الفضل العظيم والثواب الجزيل.
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش) وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل، فلا يصلى عليه، لأنه في رحمة منذ أن تقبض روحه ويقتل في سبيل الله عز وجل.
والشهيد لا يجد من قبض الروح وفتنة السكرات كقرصة النحلة، وتؤخذ روحه -كما يقول بعض العلماء- كأنه أشبه بطرفة العين، تؤخذ منه كأحسن ما يكون من سلت الروح دون أذى ودون ضرر، ثم ما إن تقبض روحه حتى يكون له الفضل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر).
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ذكر شهداء أحد وأنهم لقوا الله عز وجل فرضي عنهم ورضوا عنه).
وفي الحديث الصحيح أن جابرا رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، فقال له: يا جابر! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها) وهذا يدل على فضل ما يكون للشهيد، وكلما أخلص وصدق مع الله، وكلما كان بلاؤه في الجهاد أعظم؛ كانت شهادته أرجى.
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله لا يكلم أحدا إلا من وراء حجاب إلا ما كان من أبيك فقد كلمه كفاحا، وقال: تمن عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من فضائل الشهادة.
فتبين أنه لا يصلى على الشهيد لعظيم ما له عند الله من الفضل والمثوبة.
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا هذا الفضل الكريم.
[حكم من سقط من دابته في المعركة]
فقوله: [وإن سقط من دابته، أو وجد ميتا ولا أثر به، أو حمل فأكل، أو طال بقاؤه عرفا؛ غسل وصلي عليه]: هذه الصور تستثنى من الأصل في الشهيد، فعندنا أصل عام، وهو تغسيل كل ميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وعندنا ما استثني الشهيد من الأصل العام في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، بقي دفنه، ثم هذا الشهيد يفصل فيه،
فلا يقال: إن كل من قتل أنه يحكم بكونه يعامل هذه المعاملة، بل الأمر فيه تفصيل، فالشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه هو الذي تقبض روحه في أرض المعركة، وشرط ذلك أن يكون مقتولا، بمعنى: أن نفسه تفوت بسبب القتل.
فلو سقط من على دابته فإن السقوط قتل، ولكن لم يقتل شهيدا في هذه الحالة، وإن كان له فضل ومنزلة، وما من عبد يسأل الله الشهادة أو يأخذ بأسبابها -ولا تكون له- إلا بلغه الله منازل الشهداء.هذا من جهة الفضل؛ لكن من جهة الحكم شيء آخر، فإنه لو زلت به دابته فسقط، أو كان في المعركة ثم حصل أمر فاتت به نفسه دون قتل، فإنه وإن فاتت نفسه في أرض المعركة؛ لكن بغير شهادة، فحينئذ يعامل معاملة غير الشهداء؛ كما إذا سقط من دابته، أو قتل أو لم يوجد به أثر، كأن وجد بكامل أعضائه دون أن يوجد فيه ضرب أو طعن مما يدل على أنه قتل، فحينئذ يحتمل أن يكون مات قدرا، كأن يكون مات من فجعة أو صدمة، فيبقى على الأصل.
فإننا متحققون أن الأصل فيه أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن؛ لكن لما شككنا هل مات بالشهادة أو مات بغيرها ولم توجد دلالة ظاهرة، قدم الأصل على الظاهر، وهذا من تقديم الأصل على الظاهر؛ لأنه ليست به علامة ولا أمارة ولا دليل يدل على أنه مات بسبب القتل، وبناء على ذلك يحتمل أن يكون مات من فجعة أو صدمة، أو وافق قدرا فتوفي في أرض المعركة، أو رأى عزيزا عليه قتل، أو رأى حالة قتل ففجع بها ومات، وهذا محتمل،
ولذلك قالوا: دلالة الظاهر من كونه في أرض المعركة، لا تكفي في الخروج والعدول عن الأصل، بل نبقى على هذا.
لكن لو أنني رأيته بعيني أو رآه من يوثق بخبره أنه دفعه عدو من على دابته، فسقط بدفع العدو ومات، فإنه في حكم الشهيد، وحينئذ قالوا: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.
وقال بعض العلماء: بل يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بدمائهم).
فامتنع التغسيل عند أصحاب القول الثاني لمكان الدم، فإذا كان موته بدون جرح، كأن يكون دفع أو رض فمات بالرض،
قالوا: إنه لا يعامل معاملة الشهيد، وهذا بناء على أن منع التغسيل لأثر الدم، وليس المراد به للشهادة بذاتها.والقول الأول له وجهه من جهة الأصل من كونه شهيدا.هذا بالنسبة للصور التي ذكرها.بقيت معنا صورة.
إذا: عندك حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد ميتا في أرض المعركة ليس به دليل ولا عليه أمارة تدل على أنه قتل، فحينئذ تبقى على الأصل من كونه يحتمل أنه مات قدرا أو مات بفجعة أو بدفعة أو نحو ذلك، فحينئذ تغسله وتكفنه وتصلي عليه، وتعامله معاملة الأصل.
[حكم من أكل أو شرب بعد طعنه الذي مات به]
الحالة الثانية: أن تجد به أثر القتل كأن يطعن أو -مثلا- يكون به جراح ثم يحمل من أرض المعركة، لكنه يأكل أو يشرب، فحينئذ يعامل معاملة الأصل، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.أما بالنسبة لحالة كونه يأكل ويشرب،
فإنهم يقولون: إذا أكل أو شرب بعد الطعن وبعد الأثر الذي كان به من الضرب، فإننا في هذه الحالة قد تحققنا حياته بعد طعنه، فيخرج عن حكم الشهيد، وموته بعد ذلك وإن كان بأثر القتل؛ لكنه تبع لا أصل، والموت وإن كان بأثر الضربة في سبيل الله عز وجل فإنه شهيد في الأصل؛ لكنه لا يعامل معاملة الشهيد.
والدليل أن سعدا رضي الله عنه وأرضاه ضرب في أكحله، فسأل الله عز وجل أن يؤخر موته حتى يقر عينه من بني قريظة؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، وهذا من شدة غيرته رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله، وهو من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فسأل الله عز وجل ألا يموت حتى يقر عينه بما يشفي غيظه ويروي غليله فيهم، فكان الحاكم فيهم رضي الله عنه وأرضاه.
فلما ضرب في أكحله أخر الله أثر الجرح، وهذه آية من آيات الله عز وجل، فسلم رضي الله عنه حتى حمل إلى بني قريظة في قصة التحكيم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فقال: (أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم،
فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات).ثم انتقض عليه جرحه، فمات رضي الله عنه وأرضاه فغسله النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وصلى عليه، وعامله معاملة الأصل، مع أن الجرح الذي مات بسببه هو في الأصل من المعركة.
فلذلك قال العلماء: لما حي حياة مستقرة بعد الجرح نزل منزلة الأصل، فصار الحكم خاصا بمن قبض في أرض المعركة، دون من جلب عن أرض المعركة، ودون من أكل أو شرب بعد طعنه وضربه الذي فاتت به نفسه.
حكم من طعن فطال بقاؤه عرفا ثم مات
وقوله: [أو طال بقاؤه عرفا؛ غسل وصلي عليه]: من طال بقاؤه عرفا فماله مما يحتكم فيه إلى العرف، فإن قال أهل الخبرة والأطباء: إن حياته مستقرة، فحينئذ لا يعامل معاملة الشهيد، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، أما لو قصرت مدته وبقي بعد الطعنات ينزف في أرض المعركة، ثم فاتت نفسه، فإنه شهيد،
وعلى هذا: فالشهيد يستوي فيه أن يضرب فيقتل من ساعته، أو يضرب ثم تسيل دماؤه فينزف وينزف لمدة ساعة أو ساعتين فإن هذا ليس بطول؛ لأن النزف القاتل يشمل مثل هذا، فحينئذ يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.
[حكم تغسيل السقط والصلاة عليه]
قال رحمه الله: [والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه]: السقط: هو الذي تسقطه المرأة الحامل جنينا، سواء كان ذكرا أو أنثى، هذا السقط إذا بلغ أربعة أشهر، (مائة وعشرين يوما)،
لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر بكتابة أربع كلمات، عمره وأجله وعمله، وشقي أو سعيد)، فهذا يدل كما يقول العلماء رحمة الله عليهم على أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وهذا ما تقرر على ظاهر الحديث،
ويقولون: إذا بلغ هذا القدر فإنه يعامل معاملة الطفل الحي، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى -أي: يسميه أبوه- سواء كان ذكرا أو كان أنثى.
[التيمم لمن تعذر غسله]
وقوله: [ومن تعذر غسله يمم].بعد أن بين لنا حكم غسل المحرم، وحكم تغسيل الشهيد، وما يستثنى من الشهداء، شرع رحمه الله في بيان المسائل التي تلتحق بهذا.
والمناسبة بين هذه المسائل وبين الشهيد والسقط ومن تقدم، أن الجميع خارجون عن الأصل، فلهم حكم خاص يستثنى من الأصل.والذي لا يمكن تغسيله يشمل أصنافا من الناس، منهم المحروق، فإن المحروق إذا غسل ينتفط جلده ويصعب في هذه الحالة أن يحصل النقاء الذي هو مقصود الشرع، بل إن صب الماء عليه فإنه يزيده ضررا، وحرمة الميت المسلم ميتا كحرمته حيا،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا في الإثم)، فجعل للميت المسلم حرمة، فلو أننا غسلناه أنتن جسده وأنتن جلده ونفط، وحصل من الضرر الشيء الكثير.
كذلك لو كان به مرض في جلده بحيث إذا صب عليه الماء نفط، وكما في المجدور فإنه لو غسل فإنه يتضرر جلده.
وكذلك أيضا إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله، كما هو الحال في الأمراض المعدية إذا لم يمكن تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه الأحوال كلها استثنى العلماء رحمهم الله هؤلاء من الأصل وقالوا: إنهم لا يغسلون، وإنما ييممون.
وهكذا لو فقد الماء فلم يوجد، كأن يموت شخص بالصحراء، فحينئذ ييمم؛ لأن الشرع جعل طهارة التراب قائمة مقام طهارة الماء، فهذا أصل، فإذا وجبت طهارة الماء ولم يمكن القيام بها عدل إلى البدل الشرعي وهو التراب، فييمم الميت، والتيمم أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإذا فعلت ذلك فإنه حينئذ يحصل المقصود، كما تقدم معنا في صفة التيمم الشرعية.
ما يجب على من يغسل ميتا
وقوله: [وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسنا]: شرع رحمه الله في الآداب التي ينبغي على من قام بتغسيل الموتى أن يراعيها، فعلى الغاسل ستر ما رآه إذا لم يكن حسنا، فإن تغسيل الأموات تحصل فيه أمور غريبة، فربما غسل الإنسان ميتا، فرأى من آثار وبشائر الخير ما يكون عاجل بشرى له في الدنيا قبل الآخرة.
وقد يرى أمورا فظيعة تقع في وجهه وحاله أثناء تغسيله، فنسأل الله السلامة والعافية وأن يتولى أمورنا بالستر الجميل.
ولذلك قالوا: على الغاسل أن يحسن إلى الميت، فإن وجد عورة سترها، كأن يرى وجهه بحالة لا تسر، أو يراه تغير وجهه، وإن رأى خيرا نشره، فإن بعض الأخيار إذا غسلته رأيت في وجهه من النور والبهاء ما لا ترى معه وحشة الأموات، وقد رأينا ذلك وهو أمر مجرب، وكثيرا ما يقع للعلماء والأخيار والصالحين أن ترى بشائر الخير عليهم في تغسيلهم.
فما رأى من الخير نشره؛ لأن هذا يعين على الطاعة، كأن يكون عالما أو صاحب سنة أو إنسانا له فضل على المسلمين، أو إنسانا فيه استقامة، أو عرف بخصلة من خصال الخير كالصدقات أو صلة الرحم أو القول بالمعروف والأمر بالطاعات، فمثل هذا إذا نشر ما وقع أثناء تغسيله من البشائر يعين الناس على حب الخير، ويعينهم على إحسان الظن بأخيهم، وهو أدعى للترحم عليه وذكره بالجميل، والاقتداء به، وكل ذلك مقصود شرعا.
ومن هنا إذا رأى المغسل بشائر طيبة ذكرها لما فيها من الخير ولما فيها من الدعوة إلى الخير، وهذا يحقق مقصود الشرع.وإذا رأى غير ذلك ستره؛ إلا أن يكون صاحب هذا الأمر صاحب بدعة وسوء وشر، كأن يكون إنسانا معروفا بأذية المسلمين والتربص بهم، فمثل هذا إذا نشر ما وقع له من الشر انزجر الناس وخافوا وارتدعوا من فعله، أو كان صاحب بدعة وهوى، أو كثير الإعراض عن أوامر الشرع، أو فاسقا متهتكا مستخفا بحدود الله؛ فحينما يذكر ما يكون له من الأمور السيئة، فإنه يكون قد زجر الناس وخوفهم وردعهم، وكان عاجل بشرى الشر له، ولما ينتظره عند الله عز وجل من العقاب وأعظم، إلا إذا رحمه الله برحمته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخير والشر ببشارة،
(.فمر عليهم بجنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال: وجبت.ثم مر بجنازة فأثني على صاحبها شرا، فقال: وجبت.
فقال عمر: يا رسول الله! مر بجنازة فأثني على صاحبها خيرا فقلت: وجبت.
ثم مر بالثانية فأثني عليها شرا فقلت: وجبت، فما وجبت؟
قال: أما الأول فأثنيتم عليه خيرا؛ فقد وجبت له الجنة، وأما الثاني: فأثنيتم عليه شرا؛ فقد وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وجبت وجبت) فنشر الخير ونشر الشر، فنشر الخير لما ظهر عليه من آثار الخير من ثناء الناس عليه، وذكر ما يكون للآخر من عاجل العقوبة عند الله عز وجل على ما ذكر عليه بالسوء والشر، فقال: (أنتم شهداء الله في الأرض).
فما وقع من الأمارات والعلامات على الميت إن خيرا ذكر، وإن كان شرا ستر؛ ولذلك قال العلماء رحمة الله عليهم: ينبغي أن يكون الغاسل ينبغي أن يكون أمينا؛ لكي يحفظ الأسرار ولا يبثها، ولا يذكر ما يكون له من الأمور الغريبة في تغسيل الميت.