
26-03-2022, 08:05 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,138
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 416 الى صـ 420
الحلقة (82)
والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر. وذلك حقيقة الصوم..! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة. وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ المواد الردية المانعة له من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها. ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى في تتمة الآية: لعلكم تتقون وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « الصوم جنة » . وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي، وأعظم [ ص: 416 ] تحصيلا للمقصود، وأسهله على النفوس. ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة ; لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات. وفرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينا. ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة - إذا لم يطيقا الصيام - فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا - كما سيأتي بيانه - وكان للصوم رتب ثلاث:
أحدها: إيجابه بوصف التخيير.
والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة..! كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد.
وقوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين به، فإن الشاق إذا عم سهل عمله. والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة. وفي التوراة، سفر عزرا، الإصحاح الثاني، ص 750:
(21) وناديت هناك بصوم على نهر أهوا، لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا.
وفي سفر إشعياء، الإصحاح الثامن والخمسون ص 1062:
(3) يقولون: لماذا صمنا ولم ننظر. ذللنا أنفسنا ولم نلاحظ. ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرة وبكل أشغالكم تسخرون.
(4) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون، كما اليوم، لتسميع صوتكم في العلاء.
(5) أمثل هذا يكون صوم أختاره، يوما يذلل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه، ويفرش تحته مسحا ورمادا. هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب؟... إلخ.
[ ص: 417 ] وفي سفر يوئيل، الإصحاح الأول، ص 1299:
* 14 * قدسوا صوما.
وفي الإصحاح الثاني، ص 1300:
* 12 * ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح.
* 13 * ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم ; لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة...
* 15 *.. قدسوا صوما نادوا باعتكاف.
* 16 * اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة.
وفي سفر زكرياء، الإصحاح الثامن ص 1347:
* 19 * هكذا قال رب الجنود: إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجا وفرحا وأعيادا طيبة. فأحبوا الحق والسلام.
وفي إنجيل متى، الإصحاح السادس ص 11:
* 17 * وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك.
* 18 * لكي لا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.
الإصحاح السابع عشر ص 32:
لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتى وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه:
* 21 * وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم.
وفي الإصحاح الرابع ص 6:
* 2 * فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا أي: المسيح عليه السلام.
وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح السادس ص 295:
* 4 * بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات.
* 5 * في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام.
[ ص: 418 ] وفي الإصحاح الحادي عشر ص 301:
* 27 * في تعب وكد، في أسهار مرارا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارا كثيرة، في برد وعري.
هذا، ومتى أطلق الصوم في كل شريعة، فلا يقصد به إلا الامتناع عن الأكل كل النهار إلى المساء، لا مجرد إبدال طعام بطعام.
وقوله تعالى: لعلكم تتقون أي: تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه، والمواظبة عليه، رجاء لرضاه تعالى ; فإن الصوم يكسر الشهوة، فيقمع الهوى، فيردع عن مواقعة السوء.
القول في تأويل قوله تعالى:
[184] أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون .
أياما معدودات نصب على الظرف، أي: كتب عليكم الصيام في أيام معدودات، وهي أيام شهر رمضان، كما بينها تعالى فيما بعد، بقوله: شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن فمن كان منكم مريضا أي: مرضا يضره الصوم، أو يعسر معه.
والمرض: السقم، وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها: أو على سفر أي: فافطر: فعدة أي: فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر: من أيام أخر غير المعدودات المذكورة. وإنما رخص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة. وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها: في غزوة بدر، [ ص: 419 ] وغزوة الفتح. قال عمر بن الخطاب: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين: يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما.
تنبيهات:
الأول: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر، كما خير بعض الصحابة بين الصوم والفطر. ففي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة. وقوله: في بعض أسفاره: وقع في إحدى روايتي مسلم، بدله في شهر رمضان. وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم. وفي رواية: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما غابت الشمس قال لرجل: « انزل فاجدح لنا..! » فقال: يا رسول الله! لو أمسيت. قال: « انزل فاجدح لنا » . قال: « إن عليك نهارا » . فنزل، فجدح له، فشرب، ثم قال: « إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا - وأشار بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم » رواه الشيخان. واللفظ لمسلم.
[ ص: 420 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان.
فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر. رواه الشيخان. واللفظ للبخاري.
وعن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر، فقال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم » . فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر.
ثم نزلنا منزلا آخر فقال: « إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا » . وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر، رواه مسلم. وعن عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ - وكان كثير الصيام - فقال: « إن شئت فصم وإن شئت فأفطر » . رواه البخاري.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|