عرض مشاركة واحدة
  #136  
قديم 28-04-2022, 05:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,211
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 701 الى صـ 706
الحلقة (136)




القول في تأويل قوله تعالى:

[275] الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

الذين يأكلون الربا وهو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم، كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع لا يقومون أي: يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين: إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس في القاموس خبطه: ضربه شديدا، كتخبطه واختبطه. وفي " العباب ": كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه. وأصله : المس [ ص: 701 ] باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، والجار يتعلق إما بـ (لا يقومون) أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بـ (يقوم) أي: كما يقوم المصروع من جنونه، أو بـ (يتخبطه) أي: من جهة الجنون. والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين. تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكا لهم وفضيحة.

قال الحرالي: في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل. يقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال.

قال البقاعي: وهو مؤيد بالمشاهدة، فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم.

تنبيه:

قال في الكشاف: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والمس: الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك: جن الرجل، معناه: ضربته الجن.

وتبعه البيضاوي في قوله وهو: أي: التخبط والمس، وارد على ما يزعمون إلخ.

قال الناصر في " الانتصار ": معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي: كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار: وقال بعده: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم. من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن، وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة، وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لهم.

[ ص: 702 ] وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في " شرح المقاصد ": وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء، ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء.

وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية، ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الإنسان، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات.

قال العلامة البقاعي، بعد نقله ما ذكرنا: وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم » . وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب. ونحو ذلك. وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك، وأما مشاهدة المصروع، يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع - فكثير جدا، لا يحصى مشاهدوه. إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين. وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق.

روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة [ ص: 703 ] جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن ابني به جنون، وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا، فيخبث علينا. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثع ثعة، وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى. وقوله: (ثع بمثلثة ومهملة، أي: قاء).

وللدارمي أيضا وعبد بن حميد بسند حسن أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير، تظلنا، فعرضت له امرأة معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار. فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل، ثم قال: اخسأ، عدو الله! أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها.

وأخرجه الطبراني من وجه آخر، وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأن ذلك كان في حرة واقم. قال جابر: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان، فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما. فقالت: يا رسول الله! اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق! ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدا، وردوا عليها الآخر.

ورواه البغوي في " شرح السنة " عن يعلى بن مرة رضي الله عنه.

ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل. قال: وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك، وبعد أن ساق ذلك قال: وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافيا، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.

وقد أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة:

[ ص: 704 ] فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع

أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء. أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. فقال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك » . فقالت: أصبر. قالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها.

قلت: الصرع صرعان:

صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الردية.

والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، في سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج، وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع: المرض الإلهي. وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ. وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها. [ ص: 705 ] وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم، وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعا، بكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.

والثاني: من جهة المعالج بأن يكونوا فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه. أو بقول: بسم الله، أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « اخرج عدو الله! أنا رسول الله » . وشاهدت شيخنا (يعني الإمام ابن تيمية رضي الله عنه) يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي، فإن هذا لا يحل لك. فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة، فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع، ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا، وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم. ومد بها صوته. قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى مجلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب، ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه. فقلت لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحج به. فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك. فقالت: أنا أدعه كرامة لك. قال قلت: لا. ولكن طاعة لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه.

قال: فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ ولم يشعر بأنه وقع ضرب البتة. [ ص: 706 ] وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين. وبالجملة، فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم، من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا، ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة. وبالله المستعان.

وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم. ووقوعها خلال ديارهم، كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد أعداء هذا الصرع! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا، بل صار، لكثرة المصروعين، عين المستنكر المستغرب خلافه. فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.26%)]