
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 179الى صــ 185
الحلقة (97)
الثالثة : قوله تعالى : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أي إبعادهم من رحمته . وأصل اللعن الطرد والإبعاد ، وقد تقدم . فاللعنة من العباد الطرد . ومن الله العذاب . وقرأ الحسن البصري : ( والملائكة والناس أجمعون ) بالرفع . وتأويلها : أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون ، كما تقول : كرهت قيام زيد [ ص: 179 ] وعمرو وخالد ; لأن المعنى : كرهت أن قام زيد . وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف .
فإن قيل : ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم ; قيل عن هذا ثلاثة أجوبة ; أحدها : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل . الثاني : قال السدي : كل أحد يلعن الظالم ، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه . الثالث : قال أبو العالية : المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس ; كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ثم قال جل وعز : خالدين فيها يعني في اللعنة ، أي في جزائها . وقيل : خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم خالدين نصب على الحال من الهاء والميم في عليهم ، والعامل فيه الظرف من قوله : عليهم لأن فيها معنى استقرار اللعنة .
قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد ، ووصل ذلك بذكر البرهان ، وعلم طريق النظر ، وهو الفكر في عجائب الصنع ، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار قريش : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى سورة " الإخلاص " وهذه الآية . وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما ، فبين الله أنه واحد .
الثانية : قوله تعالى : لا إله إلا هو نفي وإثبات . أولها كفر وآخرها إيمان ، ومعناه لا معبود إلا الله . وحكي عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول : الله ، ولا يقول : لا إله ، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار .
قلت : وهذا من علومهم الدقيقة ، التي ليست لها حقيقة ، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره ، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم . وقال صلى الله عليه وسلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل [ ص: 180 ] الجنة خرجه مسلم . والمقصود القلب لا اللسان ، فلو قال : لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة . وقد أتينا على معنى اسمه الواحد ، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى . والحمد لله .
قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فيه أربع عشرة مسألة :
الأولى : قال عطاء : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ، فنزلت إن في خلق السماوات والأرض . ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال : لما نزلت وإلهكم إله واحد قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى إن في خلق السماوات والأرض فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد ، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع . وجمع السماوات لأنها أجناس مختلفة ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى . ووحد الأرض لأنها كلها تراب ، والله تعالى أعلم .
فآية السماوات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة . ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا . ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية .
وآية الأرض : بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها .
[ ص: 181 ] الثانية : قوله تعالى : واختلاف الليل والنهار قيل : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم . وقيل : اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر . والليل جمع ليلة ، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل . ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى ، وهو مما شذ عن قياس الجموع ، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر ، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة . وقد استعملوا ذلك في الشعر قال :
في كل يوم [ وما ] وكل ليلاة
وقال آخر :
في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ رآه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
قال ابن فارس في المجمل : ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه والنهار يجمع نهر وأنهرة . قال أحمد بن يحيى ثعلب : نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار ، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر ، كقولك الضياء ، يقع على القليل والكثير . والأول أكثر ، قال الشاعر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
قال ابن فارس : النهار معروف ، والجمع نهر وأنهار . ويقال : إن النهار يجمع على النهر . والنهار : ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس . ورجل نهر : صاحب نهار . ويقال إن النهار فرخ الحبارى . قال النضر بن شميل : أول النهار طلوع الشمس ، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار . وقال ثعلب : أوله عند العرب طلوع الشمس ، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت .
والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد
وأنشد قول عدي بن زيد :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وأنشد الكسائي :
إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي
قال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس . وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة [ ص: 182 ] أقسام : قسما جعله ليلا محضا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها . وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار .
قلت : والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، كما رواه ابن فارس في المجمل ، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدي : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف بهما الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو مقتضى الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام . فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث ، وعلى الأول لا يحنث . وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم . وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار ، كما قال [ هو قيس بن الخطيم ] :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول ، خرجه النسائي . وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث . وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان . والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : في الفلك المشحون فجاء به مذكرا ، وقال : والفلك التي تجري في البحر فأنث . ويحتمل واحدا وجمعا ، وقال : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث .
[ ص: 183 ] وقيل : واحده فلك ، مثل أسد وأسد ، وخشب وخشب ، وأصله من الدوران ، ومنه : فلك السماء التي تدور عليه النجوم . وفلكت الجارية استدار ثديها ، ومنه فلكة المغزل . وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور .
ووجه الآية في الفلك : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها . وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ الطائر ، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل . فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله ابن العربي .
الرابعة : هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة ، كالحج والجهاد . ومن السنة حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . الحديث . وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام ، أخرجهما الأئمة : مالك وغيره . روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس . هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار ، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء ، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب . وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه . والقرآن والسنة يرد هذا القول ، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر . وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع . وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها ، وأما في أداء الفرائض فلا . ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ، فسهل الله سبيله بالفلك ، قاله ابن العربي . قال أبو عمر : وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب [ ص: 184 ] للحج في البحر ، وهو للجهاد لذلك أكره . والقرآن والسنة يرد قوله ، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا ، فلذلك كره مالك ذلك . وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس . قال : والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالا ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص بحرا من بر .
قلت : فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا : العبادة والتجارة ، فهي الحجة وفيها الأسوة . إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق ، وآخر يشق عليه ويضعف به ، كالمائد المفرط الميد ، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ، فالأول ذلك له جائز ، والثاني يحرم عليه ويمنع منه . ولا خلاف بين أهل العلم وهي :
الخامسة : إن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون .
السادسة : قوله تعالى : بما ينفع الناس أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم . وبركوب البحر تكتسب الأرباح ، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا . وقد قال بعض من طعن في الدين : إن الله تعالى يقول في كتابكم : ما فرطنا في الكتاب من شيء فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : بما ينفع الناس .
السابعة : قوله تعالى : وما أنزل الله من السماء من ماء يعني بها الأمطار التي بها [ ص: 185 ] إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : فأسكناه في الأرض .
الثامنة : قوله تعالى : وبث فيها من كل دابة أي فرق ونشر ، ومنه كالفراش المبثوث ودابة تجمع الحيوان كله ، وقد أخرج بعض الناس الطير ، وهو مردود ، قال الله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته ، قال الأعشى :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال علقمة بن عبدة :
صواعقها لطيرهن دبيب