
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 186الى صــ 192
الحلقة (98)
التاسعة : قوله تعالى : وتصريف الرياح تصريفها : إرسالها عقيما وملقحة ، وصرا ونصرا وهلاكا ، وحارة وباردة ، ولينة وعاصفة . وقيل : تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنهما ما يضر بهما ، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت . والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا . روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها . وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن . المعنى : أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح ، والإضافة من [ ص: 186 ] طريق الفعل . والمعنى : أن الله تعالى جعلها كذلك . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب ، فقال تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . ويقال : نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا ، أي فرج عنه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة . أي فرج عنه . وقال الشاعر :
كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت على كبد مهموم تجلت همومها
قال ابن الأعرابي : النسيم أول هبوب الريح . وأصل الريح روح ، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح ، ولا يقال : أرياح ; لأنها من ذوات الواو ، وإنما قيل : رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها . وفي مصحف حفصة " وتصريف الأرواح " .
العاشرة : وتصريف الرياح قرأ حمزة والكسائي " الريح " على الإفراد ، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية ، لا خلاف بينهما في ذلك . ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى . وأفرد حمزة " الريح لواقح " . وأفرد ابن كثير " وهو الذي أرسل الريح " في الفرقان وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع . والذي ذكرناه في الروم هو الثاني الله الذي يرسل الرياح . ولا خلاف بينهم في الرياح مبشرات . وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا [ ص: 187 ] كان فيها ألف ولام في جميع القرآن ، سوى تهوي به الريح والريح العقيم فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد . فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير . ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح . ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن ، نحو : الرياح مبشرات والريح العقيم فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : وجرين بهم بريح طيبة . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح . فأفردت مع الفلك في " يونس " ; لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب .
الحادية عشرة : قال العلماء : الريح تحرك الهواء ، وقد يشتد ويضعف . فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح : " الصبا " . وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح : " الدبور " . وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها : " ريح الجنوب " . وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها : " ريح الشمال " . ولكل واحدة من هذه الرياح طبع ، فتكون منفعتها بحسب طبعها ، فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة . واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة . وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء ، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا ، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه ، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها ، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع ، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان . فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة ، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة ; لأن الهواء في الصيف حار يابس ، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع . فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس ، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة ; لأن الهواء في الخريف بارد يابس ، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار ، فتقطف الثمار [ ص: 188 ] وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار . فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة ، ومباين له في الأخرى وهو اليبس ; لأن الهواء في الشتاء بارد رطب ، فتكثر الأمطار والثلوج وتهمد الأرض كالجسد المستريح ، فلا تتحرك إلا أن يعيد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع ، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى . وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه ، إلا أن الأصول هذه الأربع . فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى " النكباء " .
الثانية عشرة : قوله تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والأرض سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء . وسحبت ذيلي سحبا . وتسحب فلان على فلان : اجترأ . والسحب : شدة الأكل والشرب . والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر . وقيل : تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر . وقد يكون بماء وبعذاب ، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه . وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل . وفي التنزيل : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ، وقال : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت وهو في التنزيل كثير . وخرج ابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول : اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به فإن أمطر قال : اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثا ، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله [ ص: 189 ] على ذلك . أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته فقال : إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي . ويقول إذا رأى المطر : ( رحمة ) . في رواية فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها ، والله تعالى أعلم . فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال ، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح ، لقوله بين وهي مع ذلك مسخرة محمولة ، وذلك أعظم في القدرة ، كالطير في الهواء ، قال الله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله وقال : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن .
الثالثة عشرة : قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، رواه عنه ابن عباس . ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال : رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس : هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال : نعم ، قال : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض . قال : سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت عاما قابلا غيره ؟ قال نعم ، سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء . قال ابن عباس : وقد سمعت ذلك من كعب .
الرابعة عشرة : لآيات أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله : وإلهكم إله واحد ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه ، وذكر رحمته ورأفته بخلقه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها .
[ ص: 190 ] فإن قيل : فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها . قيل له : هذا محال ; لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة ، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا ، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد ، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك ، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها . وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه وكذلك النجارة والنسج ، وذلك محال ، وما أدى إلى المحال محال . ثم إن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ، وقال : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض يعني بالملكوت الآيات . وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . يقول : أولم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال . وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين المؤمنون : 12 ] يعني آدم عليه السلام ، ثم جعلناه أي جعلنا نسله وذريته نطفة في قرار مكين إلى قوله تبعثون . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة . كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما ، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال ; لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء ، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة ، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز . وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب ، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه ، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال ، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله [ ص: 191 ] بلا ناقل ولا مدبر . وقال بعض الحكماء : إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ، الذي هو بدن الإنسان ، ولذلك قال تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة ، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها ، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض ، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن ، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس ، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء . وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض ، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار ; لأن العروق تستمد من الكبد . ومثانته بمنزلة البحر ، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر . وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض . وأعضاؤه كالأشجار ، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر . والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان ، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد ، لا إله إلا هو .
قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب
لما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا ، وواحدها ند ، وقد تقدم . والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : يحبونهم كحب الله أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق ، قاله المبرد ، وقال معناه الزجاج . أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته . وقال ابن عباس والسدي : المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله . وجاء الضمير في يحبونهم على هذا على الأصل ، وعلى الأول جاء ضمير [ ص: 192 ] الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل . وقال ابن كيسان والزجاج أيضا : معنى يحبونهم كحب الله أي يسوون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة . قال أبو إسحاق : وهذا القول الصحيح ، والدليل على صحته : والذين آمنوا أشد حبا لله وقرأ أبو رجاء يحبونهم بفتح الياء . وكذلك ما كان منه في القرآن ، وهي لغة ، يقال : حببت الرجل فهو محبوب . قال الفراء : أنشدني أبو تراب :
أحب لحبها السودان حتى حببت لحبها سود الكلاب
ومن في قوله من يتخذ في موضع رفع بالابتداء ويتخذ على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن " يتخذون " على المعنى ويحبونهم على المعنى و " يحبهم " على اللفظ ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في يتخذ أي محبين ، وإن شئت كان نعتا للأنداد ، أي محبوبة . والكاف من كحب نعت لمصدر محذوف ، أي يحبونهم حبا كحب الله . والذين آمنوا أشد حبا لله أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم . وقيل : إنما قال والذين آمنوا أشد حبا لله لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه . ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم ، قال الله تعالى : يحبهم ويحبونه . وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة " آل عمران " إن شاء الله تعالى .
