عرض مشاركة واحدة
  #160  
قديم 24-05-2022, 11:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 851 الى صـ 856
الحلقة (160)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 54 ] ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين

ومكروا أي : الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ، بأن هموا بالفتك به وإرادته بالسوء ، حيث تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملكهم : ومكر الله أي : بهم بعد ذلك فانتقم منهم ، وأورثهم ذلة مستمرة وأباد ملكهم : والله خير الماكرين أي : أقواهم مكرا ، وأنفذهم كيدا ، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب . وقال البقاعي كغيره في قوله تعالى : ومكر الله أي : بأن رفعه إليه ، وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه ، وإنما صلبوا أحدهم ، ويقال : إنه الذي دلهم . وأما هو عليه السلام ، فصانه عنده بعد رفعه [ ص: 851 ] إلى محل أوليائه وموطن قدسه ، لينـزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضربت عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر ، فكان تدميرهم في تدبيرهم . ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 55 ] إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون

إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك أي : مستوف مدة إقامتك بين قومك . والتوفي ، كما يطلق على الإماتة ، كذلك يطلق على استيفاء الشيء . كما في كتب اللغة . ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول ، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول : لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة . وهذا الوجه ظاهر جدا ، وله نظائر في الكتاب العزيز ، قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها قال الزمخشري : يريد : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفاها حين تنام ، تشبيها للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل حيث لا يميزون ولا [ ص: 852 ] يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك - انتهى كلامه - . ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا أي : من مكرهم وخبث صحبتهم . وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته ، كقوله تعالى : بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وقوله تعالى : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقوله تعالى : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور وهو مذهب السلف قاطبة ، كما نقله الإمام الذهبي في كتاب ( العلو ) .

قال أبو الوليد بن رشد في ( مناهج الأدلة ) : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة ( الفوق ) حتى نفتها المعتزلة ، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال : والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء ، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ، وأن من السماوات نزلت الكتب ، وإليها كان الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء ، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول . وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم - إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل . وأن إبطاله إبطال الشرائع . قال الدارمي : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته . وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب ( العلو ) فانظره ، [ ص: 853 ] هذا ، ولما كان لذوي الهمم العوال أشد التفات إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال ، بشره تعالى في ذلك بما بشره فقال : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا ، فلا يبقى منهم أحد : ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ثم فسر الحكم الواقع بين الفريقين بقوله : فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 56 ] فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 57 ] وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين

وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين أي : يبغضهم ، فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات ، جارية مجرى الحقيقة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 58 ] ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم

ذلك إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وهو مبتدأ وخبره : نتلوه عليك أي : من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . وقوله تعالى : من الآيات حال [ ص: 854 ] من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر : والذكر الحكيم أي : المشتمل على الحكم ، أو المحكم المعصوم من تطرق الخلل إليه ، والمراد به : القرآن .

تنبيه :

في قوله : إني متوفيك وجوه في التأويل كثيرة ، إلا أن الذي فتح المولى به مما أسلفناه هو أرجح التأويلات والله أعلم ، وبه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية حجة علينا ، لإفادتها وفاته عليه السلام ، أي : بالصلب ، ثم رفعه إلى السماء ، أعني : قيامه حيا بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم أنزل ودفن في أول ساعة من ليلة السبت ، وأقام في القبر إلى صبيحة الأحد ، ثم انبعث حيا ، وتراءى للنسوة اللائي جئن إلى قبره زائرات ، وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أناجيلهم الأربع ، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم ، ثم أتباعهم ، وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتيا . ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب . وقد بين علماؤنا بطلان معتقدهم هذا في تآليف وتحارير فانظره في ( حواشي تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ) تأليف الشيخ : عبد الله بك .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 59 ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون

إن مثل عيسى أي : شأنه العجيب في إنشائه بالقدرة من غير أب : عند الله أي : في تقديره وحكمه : كمثل آدم أي : كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب : خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون جملة مفسرة للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما . وحسم لمادة شبه الخصوم ، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه السلام بغير أب وأم ، مما لا يكاد يصح - قاله أبو السعود - وقوله : خلقه أي : صور [ ص: 855 ] جسد آدم من تراب ثم قال له : كن أي : بشرا كاملا روحا وجسدا ، فإن أمره تعالى يفيد قوة التكون . قال البقاعي : وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في : فيكون دون الماضي ، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويرا لها ؛ إشارة إلى أنه كان الأمر من غير تخلف ، وتنبيها إلى أن هذا هو الشأن دائما يتجدد مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلا ، كما تقدم التصريح به في آية إذا قضى أمرا

لطيفة :

قال الرازي : الحكماء قالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه :

الأول : ليكون متواضعا .

الثاني : ليكون ستارا .

الثالث : ليكون أشد التصاقا بالأرض . وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض . قال تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة

الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية .

الخامس : خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة والغضب . انتهى ملخصا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 60 ] الحق من ربك فلا تكن من الممترين

الحق من ربك خبر مبتدأ محذوف ، أي : الذي قصصنا عليك من نبأ عيسى الحق ، وقيل : الحق مبتدأ ، والظرف خبر ، أي : الحق المذكور . وقيل : الحق فاعل لمضمر ، أي : جاءك الحق . وفي الحق تأويلان :

الأول : قال أبو مسلم : المراد أن هذا الذي أنزلت [ ص: 856 ] عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلها ، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف النجار ، فالله تعالى بين أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .

والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل ، وهو قصة آدم عليه السلام ، فإنه لا بيان أقوى منها . والله أعلم .

فلا تكن من الممترين خطاب إما للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقة التهييج لزيادة الثبات ، أو لكل سامع .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.07 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.05%)]