
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثانى
الحلقة (111)
صـ 215 إلى صـ 221
فيقال له: تقدير العقل لهذه الأقسام لا يقتضي وجودها في الخارج ولا إمكان وجودها في الخارج، فإن هذا مثل أن يقال: الشيء إما أن يكون واجبا، وإما أن يكون ممكنا، وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا ; والشيء إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا، وإما أن يكون لا قديما ولا محدثا ; والشيء إما أن يكون قائما بنفسه، وإما [أن يكون] قائما بغيره (1) ، وإما أن يكون لا قائما بنفسه ولا قائما بغيره، والشيء إما أن يكون موجودا، وإما أن يكون معدوما، وإما أن يكون لا موجودا ولا معدوما.
فإن أمثال هذه التقديرات والتقسيمات لا تثبت إمكان الشيء ووجوده في الخارج، بل إمكان الشيء يعلم بوجوده أو بوجود (2) نظيره أو وجود ما يكون الشيء أولى بالوجود من ذلك الذي علم وجوده، أو بنحو ذلك من الطرق.
والإمكان (3) الخارجي يثبت بمثل هذه الطرق، وأما الإمكان الذهني فهو أن لا يعلم امتناع الشيء، ولكن عدم العلم بالامتناع ليس علما بالإمكان.
فإن قال النافي: كل ما اتصف بأنه حي عليم قدير، أو ما كان له حياة وعلم وقدرة، أو ما يجوز أن يرى، أو ما يكون فوق العالم، أو نحو ذلك
_________
(1) ن، م: أو قائما بغيره.
(2) ن، م: أو وجود.
(3) ن، م: فالإمكان.
*********************************
من المعاني التي أثبتها الكتاب والسنة، لا يوصف بها إلا ما هو [جسم] (1) مركب من الجواهر المنفردة (2) أو من المادة والصورة، وذلك ممتنع.
قيل: جمهور العقلاء لا يقولون: إن هذه الأجسام المشهودة - كالسماء والكواكب - مركبة لا من الجواهر الفردة (3) ولا من المادة والصورة، فكيف يلزمهم أن يقولوا بلزوم هذا التركيب في رب العالمين؟ !
وقد بين في غير هذا الموضع فساد حجج الطائفتين وفساد (4) حجج نفيهم لهذين المعنيين، وأن (5) هؤلاء يبطلون حجة هؤلاء الموافقين لهم في الحكم، وهؤلاء يبطلون حجة هؤلاء، فلم يتفقوا على صحة حجة واحدة بنفي ما جعلوه مركبا، بل هؤلاء يحتجون بأن المركب مفتقر إلى أجزائه، فيبطل أولئك هذه الحجة، وهؤلاء يحتجون بأن ما كان كذلك لم يخل عن الأعراض الحادثة، وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث، وأولئك يبطلون حجة هؤلاء، بل يمنعونهم المقدمتين، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذه الموضع، وإنما نبهنا [هنا] (6) على هذا الباب.
والأصل الذي [يجب] على المسلمين (7) أن ما ثبت عن الرسول وجب
_________
(1) جسم: ساقطة من (ن) ، (م) .
(2) جسم: ساقطة من (ن) ، (م) .
(3) ن، م: المفردة.
(4) ن: بل فساد.
(5) م: فإن.
(6) هنا: زيادة في (أ) ، (ب) .
(7) ن، م: والأصل الذي عليه المسلمون.
*******************************
الإيمان به، فيصدق خبره ويطاع أمره، وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفي ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته.
وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال، والفتن والخبال، والقيل والقال، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء.
وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتيه موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة، أعني الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة.
وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم، كذا نقل ابن حزم وغيره.
[مقالات الرافضة في التجسيم]
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب: " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " (1) : " اختلف (2) الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم، وهم ست فرق: فالفرقة (3) الأولى الهشامية، أصحاب هشام بن الحكم الرافضي: يزعمون أن معبودهم جسم، وله نهاية وحد، طويل عريض عميق، طوله
_________
(1) أشار ابن تيمية من قبل (هذا الكتاب 2/104) إلى كلام الأشعري عن مقالة الروافض في التجسيم وهو في مقالات الإسلاميين 1/102 - 105، وسنقابل نص " منهاج السنة " على نص: " مقالات الإسلاميين ". وفي هامش (م) أمام هذا الموضوع كتب: " قف على اختلاف الروافض في التجسيم وهم ست فرق ".
(2) مقالات. . (ص 102) : واختلفت.
(3) ن، م: الفرقة.
************************************
مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يوفى بعضه على (1) بعض (2) ، وزعموا أنه نور ساطع، له قدر من الأقدار، في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية يتلألأ (3) كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم ورائحة ومجسة " وذكر كلاما طويلا (4) .
" والفرقة الثانية من الرافضة: يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود، ولا (5) يثبتون البارئ ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة (6) ، ويزعمون أن الله (7) على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف.
والفرقة الثالثة من الرافضة (8) : يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسما.
والفرقة الرابعة من الرافضة الهشامية - أصحاب هشام بن سالم الجواليقي -: يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، وينكرون أن يكون لحما ودما، ويقولون: هو (9) نور ساطع يتلألأ بياضا (10) ، وأنه ذو حواس
_________
(1) أ، ب: عن.
(2) بعد كلمة " بعض " في مقالات. . ما يلي: " ولم يعينوا طولا غير الطويل، وإنما قالوا: طوله مثل عرضه، على المجاز دون التحقيق " وكله لم يرد في " منهاج السنة ".
(3) أ: تتلألأ ; وفي (ب) : تتلألؤ، وهو خطأ مطبعي.
(4) وهو الموجود في " مقالات الإسلاميين " ص 102 - 104.
(5) ن، م: لا.
(6) ن، م: ملاصقة.
(7) مقالات (ص 104) : الله عز وجل.
(8) أ، ب: الروافض.
(9) أ، ب: إنه.
(10) ن: ضياء ; م: ضياؤه.
*********************************
خمس كحواس الإنسان، له يد ورجل (1) ، وأنف وأذن، وفم وعين (2) ، وأنه يسمع بغير ما به يبصر (3) ، وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم ".
قال: " وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة (4) سوداء (5) ، وأن ذلك نور أسود.
والفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين (6) ضياء خالصا ونورا بحتا (7) ، وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد (8) ، وليس بذي صورة ولا أعضاء، ولا اختلاف في الأجزاء، وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان، أو [على] (9) صورة شيء من الحيوان ".
قال (10) : " والفرقة السادسة من الرافضة (11) : يزعمون أن ربهم ليس بجسم (12) ولا بصورة (13) ، ولا يشبه الأشياء، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس.
_________
(1) ن، م: له رجل ويد.
(2) مقالات (ص 105) : وعين فم.
(3) مقالات. .: وأنه يسمع بغير ما يبصر به ; ن: وأنه سميع بصير ما به يبصر (وهو تحريف) .
(4) في القاموس المحيط: " والوفرة الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين، أو ما جاوز شحمة الأذن ".
(5) أ: وفرة سواد.
(6) مقالات. .: رب العالمين.
(7) ن: يحب ; م: محت، وهو تحريف. مقالات: ضياء خالص ونور بحت.
(8) ب: بنور، أ: بأمر (مع سقوط كلمة: واحد) .
(9) على: ساقطة من (ن) ، (م) .
(10) بعد الكلام السابق مباشرة في " مقالات. . " 1/105.
(11) م: الروافض.
(12) أ، ب: لا بجسم.
(13) ن، م: ولا صورة.
**************************************
وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج ".
قال أبو الحسن الأشعري (1) : " وهؤلاء قوم من متأخريهم (2) ، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه (3) عنهم من التشبيه ".
قلت: وهذا الذي ذكره [أبو الحسن] (4) الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات، حتى نفس الشيعة كابن النوبختي وغيره ذكر [ذلك عن] هؤلاء الشيعة (5) .
وقال أبو محمد بن حزم وغيره: أول من قال في الإسلام: إن الله جسم [هشام بن الحكم] (6) ، وكان الذين يناقضونه في ذلك المتكلمين (7) من المعتزل كأبي الهذيل العلاف.
فالجهمية والمعتزلة أول من قال: إن الله ليس بجسم.
فكل من القولين قاله قوم من الإمامية ومن أهل السنة الذين ليسوا بإمامية.
وإثبات الجسم قول محمد بن كرام وأمثاله ممن يقول بخلافة الخلفاء (8) الثلاثة، والنفي (9) قول أبي الحسن الأشعري وغيره ممن يقول
_________
(1) بعد الكلام السابق مباشرة.
(2) ن: متأخرهم، وهو خطأ.
(3) مقالات: ما حكينا.
(4) أبو الحسن: زيادة في أ، ب.
(5) ن: وذكر هؤلاء الشيعة.
(6) ابن الحكم: ساقط من (ن) فقط. ولم أستطع العثور على هذا النص في كلام ابن حزم.
(7) ن، م: وكان الذين يناقضونه في ذلك المتكلمون، وهو تحريف.
(8) الخلفاء: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(9) أ: ونفاه ; ب: ونفيه.
************************************
بخلافة الخلفاء الثلاثة، وقول كثير من أتباع الأئمة الأربعة: أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
[معنى لفظ أهل السنة وموقفهم من إطلاق لفظ الجسم]
فلفظ " أهل السنة " يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل (1) في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت (2) الصفات لله تعالى ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول (3) المعروفة عند أهل الحديث والسنة.
وهذا الرافضي -[يعني المصنف] (4) - جعل أهل السنة بالاصطلاح الأول، وهو اصطلاح العامة: كل من ليس برافضي، قالوا: هو من أهل السنة. ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها، فكان في نقله من الكذب والاضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب.
وإذا عرف [أن] مراده (5) بأهل السنة السنة العامة، فهؤلاء متنازعون في إثبات الجسم ونفيه كما تقدم، والإمامية أيضا متنازعون في ذلك.
وأئمة النفاة هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم يجعلون من أثبت الصفات مجسما، بناء عندهم على أن الصفات (6) لا تقوم إلا بجسم
_________
(1) م: فدخل.
(2) ن: أثبت.
(3) أ، ب: الأمور.
(4) عبارة " يعني المصنف ": ساقطة من (ن) ، (م) .
(5) ن، م: فإذا عرف مراده.
(6) أ، ب: بناء عندهم على أن الصفات عندهم.
***************************