عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-05-2022, 07:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي الإسلام في مواجهة العلمانية

الإسلام في مواجهة العلمانية
الشيخ صلاح نجيب الدق

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:
فإن الدولَ الغربية قامت بالغزو الثقافي والفكري للبلاد الإسلامية للقضاء على الإسلام، والعلمانية نوع من أنواع الغزو الفكري، وقد قامت الدول الغربية بتصدير الفكر العلماني إلى الدول الإسلامية، مِن أجل ذلك أحببت أن أُذَكرَ نفسي وإخواني الكرام بحقيقة العلمانية وآثارها الخطيرة على المسلمين.

معنى كلمة العلمانية:
كلمة العلمانية لا توجد في معاجم اللغة العربية القديمة، وقد وردت في بعض المعاجم الحديثة ومن ذلك ما ورد في المعجم الوسيط ( العَلْماني ): نِسْبَة إِلَى الْعَلْم بِمَعْنى الْعَالَم ( أي الدنيا ) وَهُوَ خلاف الديني أَو الكَهَنُوتي؛ (المعجم الوسيط ـ جـ2 صـ647).

نشأة العلمانية:
العلمانية مصطلح أوربي النشأة صيغ حديثًا في الفكر الغربي في منتصف القرن التاسع عشر على يد مفكر ثوري بريطاني يُدعى جورج يعقوب هوليوك، وذلك في سنة 1851م؛ حيث يعتبر هذا المفكر هو أول من صاغ مصطلح العلمانية كنظرية فلسفية، ثم انتقل هذا المصطلح إلى اللغة العربية حديثًا مع مترجمات الفلسفة المادية، وظهرت العلمانية في أوروبا لأول مرة في عصر النهضة، كرد فِعل لاتجاه العصور الوسطى التي ساد فيها اتجاه الناس نحو الرهبانية؛ ( دراسات في العِلمانية لعزت عبد المجيد أبو بركة صـ12،وصـ30 ).

تعريف العلمانية عند الدول الغربية:
تقول دائرة المعارف البريطانية مادة (secularism ) العلمانية: هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها.

وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبةٌ شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة أخذت العلمانية تعرِض نفسَها من خلال تنمية النزعة الإنسانية؛ حيث بدأ الناسُ في عصر النهضة يظهرون تعلُّقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة.

وظل الاتجاه إلى العلمانية يتطوَّر باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية.

المعنى الصحيح للعلمانية:
هو فصلُ الدين عن جميع جوانب الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعِلمية، سواءٌ بالنسبة للأمة أو الأفراد، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود، فبعضها تسمح به، كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية، وتسمى منهجها ( العلمانية المعتدلة )؛ أي: إنها مجتمعات لا دينية، ولكنها غير معادية للدين، وذلك مقابل ما يُسمى ( العلمانية المتطرفة) أي المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها، وبالنسبة للإسلام ليس هناك فرق بين المسميين (العلمانية المعتدلة والعلمانية المتطرفة)، فكل ما ليس دينيًّا من ا لمبادئ والتطبيقات، فهو في الحقيقة مضاد للدين، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان أبدًا، ولا واسطة بينهما.

مفهوم خاطئ للعلمانية:
لفظ العلمانية ترجمةٌ خاطئةٌ لكلمة (secularism ) في الإنجليزية أو (secularite ) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العِلْم ومشتقاته على الإطلاق.

ثم إن زيادة الألف والنون غير قياسية في اللغة العربية، أي في الاسم المنسوب، وإنما جاءت سماعًا ثم كثرت في كلام المتأخرين كقولهم (روحاني، وجسماني، ونوراني) والترجمة الصحيحة لكلمة العِلمانية هي (اللادينية)، أو (الدنيوية).

العلمانية والعِلْم في اللغة الإنجليزية:
إذا نظرنا إلى كلمة العلمانية بجميع مشتقاتها في معاجم اللغة الإنجليزية نجد أنها تختلف تمامًا عن معني كلمة العِلْم بجميع مشتقاتها، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
بالنسبة لكلمة العلمانية، فمشتقاتها كما يلي:
شيء دنيوي ( اسم ):Secularity / عدم المبالاة بالدين ( اسم ): Secularism
يجعله دنيويًّا ( فِعل ):Secularize / الإشباع بالنزعة الدنيوية (اسم ): Secularization
غير ديني ( صفة ): Secular ( المورد لمنير البعلبكي صـ827 )

وأما بالنسبة لكلمة العِلْم، فنقول:
العِلْم ( اسم ): Science / المذهب العِلْمي ( اسم ): Scientism

عِلْمي ( صفة ) Sciential / (صفة) Scientific / رَجُلٌ عَالِمٌ ( اسم ) Scientist ( المورد لمنير البعلبكي صـ819 ).

الفرق بين العلمانية والعِلْمية:
انتهز بعض العلمانيين فرصة الترجمة الخاطئة لكلمة ( العلمانية )، محاولين أن يجعلوها مرادفة لـ ( العِلْمية )، وقالوا: إن العلمانية تعنى استخدام العلم والعقل، موهمين بذلك أو مصرحين بأن الإسلام ضد العقل والعلم! وهذه مغالطة مكشوفة فإن البون شاسع بين العلمية والعلمانية.

( العِلْمية ) وجهة تنتسب إلى العلم، وتحتكم إليه، في كل مجالات الحياة وشؤونها، مادية وأدبية، مدنية وعسكرية، سياسية واقتصادية، فردية واجتماعية.

(والعِلْميون ) من الناس هم الذين يتبنون هذه الوجهة، فيحترمون ما يقرره العلم، وينزلون على حكمه، ويكيفون حياتهم وفقًا لمقتضاه، أما غيرهم، فيمضون في طريقهم، تبعًا للأهواء والعواطف ( الشخصية ) أو ( الحزبية) أو للافتراضات والأوهام، أو تقليدًا لغيرهم، دون فحص ولا اختبار.

ونريد بـ ( العلم ) هنا، ما قامت عليه الأدلة القاطعة، فكم من قضايا أدخلت تحت عنوان (العلم) وهي ليست من العلم في شيء.

فائدة مهمة:
اعلم أخي المسلم الكريم أن العِلم اليقيني لا يتعارض مع نصوص القرآن الكريم أو السُّنة النبوية الصحيحة.

الإسلام دين العِلْم:

نحن المسلمين أولى الناس باحترام العِلم، وتبني العِلْمية في كل أمورنا، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين، ولم يعرف تراثنا صراعًا بين الدين والعِلم، كما عرفه الغرب، الذي أدار رحى الحرب بينهما قرونًا، كان من آثارها محاكم التفتيش وأهوالها التي يندى لها جبين التاريخ، ومعجزة نبي الإسلام لمن تكن آية كونية، تخضع لها الأعناق مقهورة، بل آية عليمة، تذعن لها العقول مقتنعة، وهي القرآن الكريم. ولما طلب مشركو العرب من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية حسية، كما كان للأنبياء من قبله، كان الرد الإلهي عليهم: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( العنكبوت: 51 ).

وحسبنا أن أول سورة نزلت في القرآن، بدأت بقوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: 1).

والقرآن ينشئ العقلية العلمية التي تعتبر التفكر عبادة، والعلم فريضة، وترى الإنسان والتاريخ والكون كله، مسرحًا للنظر والتأمل؛ قال تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون (الذاريات: 20: 21).

وقال سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ (الأعراف: 185).

وقال جل شأنه: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( العنكبوت: 20 ).

أسباب ظهور العلمانية:
يمكن أن نوجز أسباب ظهور العلمانية فيما يلي:
(1) طغيان رجال الكنيسة الديني.
(2) طغيان رجال الكنيسة السياسي.
(3) الصراع بين رجال الكنيسة والعلماء.
(4) قيام الثورة الفرنسية الكبرى.
(5) ظهور نظرية تطور المخلوقات.
(6) تشجيع اليهود للعلمانية.


وسوف نتحدث عن هذه الأسباب بإيجاز، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
(1) طغيان رجال الكنيسة الديني:
عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أمورًا تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.

إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد، أو يحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن والروح القُدُس).

وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهرًا، وحرَّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.

ونصَّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهًا" يُحِلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائنًا من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر.

وقد كان الختان واجبًا فأصبح حرامًا، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركًا ووثنية فأصبحت تعبيرًا عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالًا فأصبح محظورًا، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكرًا فأصبحت الضرائب الكنسية فرضًا لازمًا، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجًا.

وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة، وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله؛ مثل: حق الغفران، وحق الحرمان، ولم تتردد في استعمال هذه الحقوق واستغلالها.

صكوك الغفران:
أصبح غفران الذنوب بدعة عجيبة، وذلك أنه إذا أراد البابا أن يبني كنيسة أو يجمع مالًا لشيءٍ ما؛ طبع صكوك الغفران ووزعها على أتباعه ليبيعوها للناس؛ كالذين يبيعون أسهم الشركات. وبالصك فراغٌ تُرِكَ ليُكتب به اسم الذي سيغفر ذنبه، والعجيب أن هذا الصك يَغفر لمشتريه ما تقدم من الذنوب وما تأخر، فهو بعبارة أخرى إذن بارتكاب كل الجرائم بعد أن ضُمنت الجنة لهذا المحظوظ.

الاعتراف:
ولم تقف قضية غفران الذنوب عند هذه الصكوك، بل سرعان ما دخلها عنصر جديد فاضح، وذلك ما يُسمى "الاعتراف"، فكان على المذنب أن يعترفَ بذنبه، في خلوة مع قسيسه؛ ليستطيع هذا القسيس أن يغفر له ذنبه؛ (مجلة الجامعة الإسلامية جـ115صـ:242:237).

(2) طغيان رجال الكنيسة السياسي:
بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها، حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولا يستجيبون لأوامر الخلع البابوية، حتى إن البابا "جريجوري" السابع خلْع الإمبراطور الألماني "هنري الرابع" وحرمه، وأحلَّ أتباعه والأمراء من ولائهم له، وحرضهم عليه، فعقد الأمراء اجتماعًا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على مغفرة البابا، فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فاضطر الإمبراطور "هنري الرابع" حفاظًا على عرشه أن يسعى لاسترضاء البابا سنة (1077م)، فاجتاز جبال الألب في شتاء بارد مسافرًا إلى البابا الذي كان في قلعته بمرتفعات كانوسا في تسكانيا، وظل واقفًا في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان، حافي القدمين، عاري الرأس، يحمل عكازه مظهرًا ندمه وتوبته، حتى ظفر بعفو البابا، وحصل على رضاه؛ (مجلة الجامعة الإسلامية جـ115صـ:245).

(3) الصراع بين رجال الكنيسة والعلماء:
الصراع بين الدين والعِلْم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي، وذلك أن الكنيسة كانت هي صاحبة السلطة طوال القرون الوسطى في أوروبا حتى قامت النهضة العلمية هناك.

وفي هذه الأثناء وقعت الحروب الصليبية بين المسلمين والأوروبيين، واستمرت طوال القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلادي، واحتك الصليبيون خلالها بالمسلمين ووقفوا على صفات الإسلام وروعته في جميع مجالات العلوم والفنون، في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، حيث كانت المدارس والجامعات المتعددة في كل مكان في بلاد المسلمين، يؤمها طلاب العلم، ومنهم الأوروبيون الذين وفدوا يتعلمون من الأساتذة المسلمين، وترجمت بعض الكتب إلى اللغة الإنجليزية، فلما عاد أولئك الأوروبيين الذين تأثروا بنور الإسلام وعرفوا أن الكنيسة ورجالها عملة مزيفة، ووسيلة للدجل والتحكم الظالم في عباد الله، أخذ هؤلاء يقاومون الكنيسة ودينها المزيف وأعلنوا اكتشافاتهم العِلْمية والجغرافية، والعلوم الطبيعية التي تحرمها الكنيسة، عند ذلك اشتد الصراع بين رجال العِلم ورجال الكنيسة، الذين أخذوا يُكفّرون ويقتلون ويحرقون ويشردون العلماء والمكتشفين، وأنشأت الكنيسة محاكم للتفتيش لملاحقة حملة الأفكار المخالفة لآرائها وأفكارها، ومكث هذا الصراع عِدة قرون، وانتهى بإبعاد الكنيسة ورجالها عن التدخل في نظم الحياة وشؤون الدولة، فالدين - بمعنى أوضح - مهمته داخل جدران الكنيسة فقط ولا داعي لوجوده خارجها، ويكون لرجال الدولة والعِلم إدارة شؤون الحياة بالأسلوب الذي يناسبهم سواء أكان متفقًا مع مبادئ الدين أم لا؟! (مجلة الجامعة الإسلامية جـ115صـ246:245).

(4) قيام الثورة الفرنسية:
نتيجة لوضع الكنيسة ودينها المحرف، ووقوفها ضد مطالب الناس، قامت الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789م.

ونتج عن هذه الثورة نتائج بالغة الخطورة، فقد ظهرت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية، لا دينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب - وليس باسم الله - وعلى الحرية الشخصية بدلًا من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلًا من قرارات الكنيسة، وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها، فقد حلت الجمعيات الدينية، وطردت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتها، وحُوربت العقائد الدينية عَلنًا وبشدة، وقد امتدت هذه الثورة إلى كل بلاد الغرب؛ (مجلة الجامعة الإسلامية جـ115صـ247:246).

(5) ظهور نظرية تطور المخلوقات:
في سنة 1859م نشر الباحث الإنجليزي تشارلز داروين كتابه أصل الأنواع الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت نظريته كون الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها، فأحدث ذلك ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد استغلها اليهود استغلالًا كبيرًا.

والنظرية في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد شيء عن أن تكون نظرية فلسفية عامة، كما أنها بعيدة عن أن تكون حقيقة علمية ثابتة، وقد قال أحد العلماء الغربيين في النظرية الداروينية: (أبوها الكفر وأمها القذارة).

والنظرية الداروينية باطلة بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وباطلة بجميع الكتب السماوية، وباطلة بإجماع المسلمين في كل زمان ومكان، وباطلة بالعقل الصحيح، وبالفطرة السليمة من الشذوذ والانحراف.

فبنو آدم وجميع الحيوانات والطيور، وجميع ما في البراري والبحار، من آلاف السنين وهي على ما هي عليه لم تتغير أشكالها ولا أسماؤها.

ومذهب داروين باطل لعدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع من مخلوقات الله، فمن الذي عاش آلاف السنين حتى شاهد تغير الإنسان من خلية إلى حشرة إلى حيوان إلى قرد كما يزعم داروين، وهو الذي لم يعش سوى أقل من 75 سنة.

قال تعالى: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (الكهف: 51).

والنظرية باطلة بقوله سبحانه: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (البقرة:36).

فالله تعالى إنما أهبط من الجنة أدميًّا يعقل ولم يُهبط حشرة، ثم صارت حيوانًا لا يعقل ثم صار قردًا؛ (مجلة الجامعة الإسلامية جـ115صـ249:248).

(6) تشجيع اليهود للعلمانية:
فرحت المنظمات الماسونية اليهودية بدعوة الفصل بين الدين والدولة وسارعوا في إسقاط الحكومات التي تسيطر عليها الكنيسة، وإنشاء حكومات أخرى متحررة من قيود الدين، وقد كانت الثورة الفرنسية أولى الخطوات في هذا السبيل، وقد تلتها ثورات متعددة في مختلف الأقطار الأوربية استطاعت الفصل بين الدين والدولة، وتحويل التعليم الغربي كله إلى تعليم علماني.

وهكذا تدخل اليهود في المجتمع الأوربي بعد أن انقطعوا عنه، وقد كان أول قرار لأول حكومة علمانية في أوربا وهي (الجمعية الوطنية الفرنسية) هو اعتبار اليهود المقيمين في فرنسا مواطنين لهم كل حقوق المواطن وعليهم جميع واجباته.

فالعلمانية هي السيف المسلط الذي حطم به اليهود القيد الذي يفصلهم في كل مجتمع، ويحول بينهم وبين السيطرة على مقدراته.

يقول أحد الباحثين الغربيين: إن الفصل بين الدولة والدين في الدول الغربية ساعد على انصهار اليهود في هذه المجتمعات.

لقد حُلت المشكلة اليهودية في دول غرب أوربا بتحرر الدولة من الدين، ولكن مع تحرر اليهود من الاضطهاد سيطرت اليهودية على المجتمع بأسره، وأصبحنا نواجه مشكلة تحرير المجتمع من اليهودية.

ويقول أحد الباحثين الغربيين: إن اليهود يرفضون سيطرة الدين على الدولة أو الكنيسة على الدولة؛ لأن هذا معناه أن تصبح الديانة المسيحية على أولادهم، لذلك كانوا أول من نادى بفصل الكنيسة على الدولة.

وسرعان ما سيطر اليهود على ميادين الفكر والثقافة والطب والعِلْم والصحافة، وتركوا لغيرهم مراكز السلطة، وإن كانوا يحركونها من خلال محافلهم الماسونية، وما ينشرون فيها من فساد لتحطيم كل القيم الإنسانية.

لقد أدرك اليهود أنهم لن يستطيعوا السيطرة على أوروبا إلا من خلال نشر الإلحاد بالله والكفر بجميع الأمور الغيبية، وإقامة الحسابات الرياضية والرغبات المادية؛ قال حكماء اليهود في بروتوكولاتهم: (يجب علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول غير اليهود، وأن نضع مكانها عمليات حسابية ورغبات مادية)؛ (بروتوكولات حكماء صهيون صـ159:158).

وأدركوا كذلك أنهم لن يحقِّقوا هذا الهدف إلا من خلال المنظمات الماسونية التي تأخذ على عاتقها محاربة الدين في كل مكان.

فقد جاء في إحدى الكلمات التي أُلقيت في مؤتمر الشرق الأعظم الماسوني، قول أحدُ أقطاب اليهود: (يجب ألا تقتصر الماسونية على شعب دون غيره، ولتحقيق الماسونية العالمية يجب سحق عدونا الأزلي الذي هو الدين مع إزالة رجاله)، ولذا فقد أفسد اليهود حياة أوربا الفكرية والعقائدية والأخلاقية والاجتماعية؛ (العلمانية وأثرها في أوربا للدكتور محمد رشاد عبد العزيز صـ88: صـ91)

آثار العلمانية على الدول الغربية:
على الرغم من أن الحضارة العلمانية الغربية قد قدمت للإنسان كل وسائل الراحة وكل أسباب التقدم المادي، فإنها فشلت في أن تقدم له شيئًا واحدًا وهو السعادة والطمأنينة والسكينة، بل العكس قدمت للإنسان هناك مزيدًا من التعاسة والقلق والبؤس والتمزق والاكتئاب، وذلك لأن السعادة والسكينة أمور تتعلق بالروح، والروح لا يشبعها إلا الإيمان بخالقها، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه.

إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الغربية كان - ولا يزال - من أهم الأسباب التي أدت إلى الحيرة والضياع.

ويمكن أن نوجز آثار العلمانية في المجتمعات الغربية مما هو مشاهَدٌ وملموسٌ فيما يلي:
(1) الانغماس في شرب الخمور والإدمان على المخدرات.

(2) انتشار الأمراض العصبية والنفسية.

(3) انتشار الجرائم بمختلف أنواعها كالسرقات، والاغتصاب، والشذوذ الجنسي، والقتل وغيرها.

(4) تأجيج الغرائز الجنسية بين الجنسين.

(5) انتشار الأمراض المخيفة كالزهري، والسيلان، وأخيرًا يبتلي الله تلك المجتمعات بالطاعون الجديد وهو مرض "الإيدز".

(6) انتشار ظاهرة الانتحار.
إن الغرب يعيش حياة الضنك والقلق، فلا طمأنينة له ولا راحة، ولا انشراح لصدور أهله، بل صدورهم في ضيق وقلق وحيرة، وما ذلك إلا لضلالهم وبعدهم عن الله، وإن تنعموا ظاهرًا في الحياة الدنيا.

(7) انخفاض نسبة الزواج بدرجة كبيرة جدًّا، وفترات الاختيار التي تسبقه قد تمتد سنين، وفي هذه الفترة يمارس فيها الزنا والفحش، وغالبًا ما تنتهي فترات الاختيار بالاكتفاء بما حصل فيها، ثم الانتقال إلى اختيار آخر أو العدول عن فكرة الزواج إلى فكرة المعاشرة الحرة الاختيارية بينهما دون أعباء الزواج، وحتى إذا اختاروا الزواج فهم ينفرون من الأطفال، وقد بلغ الأمر أن أكثرهم إذا رزق بأطفال فإنهم غالبًا لا يصطحبونهم في فترات عطلة نهاية الأسبوع؛ حتى يستمتعوا وحدهم بالنزهة دون ضجيج الأولاد.

أما المجتمع فهو يعاني من التفكك والانحلال، وانعدام العلاقات بين الجيران حتى إن الواحد إذا مات لا يُعرف إلا من رائحته النتنة التي تتصاعد بعد أيام من موته؛ (العلمانية وموقف الإسلام منها لحمود بن أحمد الرحيلي صـ364:360).
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.96 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.82%)]