
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 235الى صــ 241
الحلقة (105)
قلت : لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ ، أنه يقتل به قولا واحدا ، فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله ، ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل به وتغلظ الدية ، وبه قال جماعة العلماء ، ويقتل الأجنبي بمثل هذا . ابن العربي : " سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر : لا يقتل الأب بابنه ; لأن الأب كان سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه ؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم ، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه ، ثم أي فقه تحت هذا ، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك . وقد أثروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقاد الوالد بولده وهو حديث باطل ، ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ، فأخذ سائر [ ص: 235 ] الفقهاء رضي الله عنهم المسألة مسجلة ، وقالوا : لا يقتل الوالد بولده ، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال : إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه ، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود ، فإذا أضجعه وكشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله " . قال ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : إذا قتل الابن الأب قتل به .
الثانية عشرة : وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله : لا تقتل الجماعة بالواحد ، قال : لأن الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد ، وقد قال تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ، والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان ، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة ، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة ، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة ، وذلك بأن يقتل من قتل ، وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا ، وقتل علي رضي الله عنه الحرورية بعبد الله بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا ، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة ، وأخبر علي بذلك قال : الله أكبر ! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب ، فقالوا : كلنا قتله ، ثلاث مرات ، فقال علي لأصحابه : دونكم القوم ، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه . خرج الحديثين الدارقطني في سننه ، وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار . وقال فيه : حديث غريب ، وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي ، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ والله أعلم ، [ وقال ابن المنذر : وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين : لا يقتل اثنان بواحد . روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبد الملك ، قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد ، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ] .
[ ص: 236 ] الثالثة عشرة : روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ، لفظ أبي داود . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ، وذهب إلى هذا بعض أهل العلم ، وهو قول أحمد وإسحاق .
الرابعة عشرة : اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد ، فقالت طائفة : ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل . يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن ، ورواه أشهب عن مالك ، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه ، وهو نص في موضع الخلاف ، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه ; لأن فرضا عليه إحياء نفسه ، وقد قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ، وقوله : فمن عفي له من أخيه شيء أي ترك له دمه في أحد التأويلات ، ورضي منه بالدية فاتباع بالمعروف أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان ، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت ذلك تخفيف من ربكم ورحمة أي أن من كان قبلنا لم يفرض الله عليهم غير النفس بالنفس ، فتفضل الله على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم ، على ما يأتي بيانه ، وقال آخرون : ليس لولي المقتول إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل ، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه ، وبه قال الثوري والكوفيون ، واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة ، رواه الأئمة قالوا : فلما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال : القصاص كتاب الله ، القصاص كتاب الله ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص ، والأول أصح ، لحديث أبي شريح المذكور ، وروى الربيع عن الشافعي قال : أخبرني أبو حنيفة بن [ ص: 237 ] سماك بن الفضل الشهابي قال : وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود . فقال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : تأخذ به ؟ ! نعم آخذ به ، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه ، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك ، قال : وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان اختلف العلماء في تأويل ( من ) و ( عفي ) على تأويلات خمس :
أحدها أن من يراد بها القاتل ، وعفي تتضمن عافيا هو ولي الدم ، والأخ هو المقتول ، وشيء هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء ، والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك ، والمعنى : أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف ، ويؤدي إليه القاتل بإحسان .
الثاني : وهو قول مالك أن من يراد به الولي وعفي يسر ، لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، وشيء هو الدية ، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه ، فمرة تيسر ومرة لا تيسر ، وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه ، وقد روي عن مالك هذا القول ، ورجحه كثير من أصحابه ، وقال أبو حنيفة : إن معنى عفي بذل ، والعفو في اللغة : البذل ، ولهذا قال الله تعالى : خذ العفو أي ما سهل ، وقال أبو الأسود الدؤلي :
خذي العفو مني تستديمي مودتي
وقال صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني شهد الله على عباده ، فكأنه قال : من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف ، وقال قوم : وليؤد إليه القاتل بإحسان ، [ ص: 238 ] فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة [ المائدة ] فمن تصدق به فهو كفارة له فندب إلى رحمة العفو والصدقة ، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية ، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان .
الثالث : وقد قال قوم : إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة ، ومعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون عفي بمعنى فضل .
الرابع : روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال : كان بين حيين من العرب قتال ، فقتل من هؤلاء وهؤلاء ، وقال أحد الحيين : لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام : القتل سواء فاصطلحوا على الديات ، ففضل أحد الحيين على الآخر ، فهو قوله : كتب إلى قوله : فمن عفي له من أخيه شيء يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف ، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية ، وذكر سفيان العفو هنا الفضل ، وهو معنى يحتمله اللفظ .
وتأويل خامس : وهو قول علي رضي الله عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، وعفي في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل .
السادسة عشر : هذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب ، وحسن القضاء من المؤدي ، وهل ذلك على الوجوب أو الندب ، فقراءة الرفع تدل على الوجوب ; لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف . قال النحاس : فمن عفي له شرط والجواب فاتباع وهو رفع بالابتداء ، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف ، ويجوز في غير القرآن ( فاتباعا وأداء ) بجعلهما مصدرين . قال ابن عطية : وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " فاتباعا " بالنصب ، والرفع سبيل للواجبات ، كقوله تعالى : فإمساك بمعروف ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا ، كقوله : فضرب الرقاب .
السابعة عشر : قوله تعالى : ذلك تخفيف من ربكم ورحمة لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية ، [ ص: 239 ] فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة ، فمن شاء قتل ، ومن شاء أخذ الدية ، ومن شاء عفا .
قوله تعالى : فمن اعتدى بعد ذلك فله شرط وجوابه ، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ دم ] قاتل وليه . فله عذاب أليم قال الحسن : كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول : إني أقبل الدية ، حتى يأمن القاتل ويخرج ، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية .
واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي : هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة . وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل ألبتة ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ، وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى ، وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا .
قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم ، ومعناه : لا يقتل بعضكم بعضا ، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك ، والمعنى : أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر ، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة .
الثانية : اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض .
[ ص: 240 ] الثالثة : وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته ، إذ هو واحد منهم ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص ، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل ، لقوله جل ذكره : كتب عليكم القصاص في القتلى وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فصاح الرجل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ تعال ] فاستقد . قال : بل عفوت يا رسول الله ، وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه ، فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ، ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه ، وذكر الحديث بمعناه .
الرابعة : قوله تعالى : لعلكم تتقون تقدم معناه . والمراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي " ولكم في القصص حياة " . قال النحاس : قراءة أبي الجوزاء شاذة . قال غيره : يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص . وقيل : أراد بالقصص القرآن ، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة ، أي نجاة .
قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
فيه إحدى وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : كتب عليكم هذه آية الوصية ، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية ، وفي " النساء " : من بعد وصية وفي " المائدة " : حين الوصية . والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ، على ما يأتي بيانه ، وفي [ ص: 241 ] الكلام تقدير واو العطف ، أي وكتب عليكم ، فلما طال الكلام أسقطت الواو . ومثله في بعض الأقوال : لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى أي والذي ، فحذف ، وقيل : لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص ، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت ، فهذا أوان الوصية ، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف . وكتب معناه فرض وأثبت ، كما تقدم ، وحضور الموت : أسبابه ، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب ، قال شاعرهم :
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
وقال عنترة :
وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق :
أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاء
الثانية : إن قيل : لم قال كتب ولم يقل كتبت ، والوصية مؤنثة ؟ قيل له : إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء ، وقيل : لأنه تخلل فاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث ، تقول العرب : حضر القاضي اليوم امرأة ، وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل .
الثالثة : قوله تعالى : إن ترك خيرا ( إن ) شرط ، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان ، قال الأخفش : التقدير فالوصية ، ثم حذفت الفاء ، كما قال الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان
