
11-06-2022, 10:47 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 887 الى صـ 892
الحلقة (166)
لطيفة :
في قوله تعالى : ولو افتدى به قال صاحب ( الانتصاف ) : إن هذه الواو المصاحبة للشرط [ ص: 887 ] تستدعي شرطا آخر ، يعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة . والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى . مثاله : قولك : أكرم زيدا ولو أساء ، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره : أكرم زيدا ولو أساء ، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء ، على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى . ومنه : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم معناه - والله أعلم - : لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم ، فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب ، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا ، لأن قوله : ولو افتدى به يقتضي شرطا آخر محذوفا ، يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى . وهذه الحال المذكورة ، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا ، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى : لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا . حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها ، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى ؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور . وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا ، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله . فنقول : قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال :
منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول .
[ ص: 888 ] ومنها : أن يقول المفتدي في التقدير : أفدي نفسي بكذا - وقد لا يفعل - .
ومنها : أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته .
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا ، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ، ومع ذلك لا يقبل منه . فمجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى ، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة . وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم - والله أعلم - وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم . ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي هذه . فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق - انتهى - .
وثمة وجه ثان وهو أن المراد : ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية ، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية ، ولو زيد عليه مثله ، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه . وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله . وقضية ولا أبا حسن لها ، أي : ولا مثل أبي حسن . كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت . وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد ، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى .
[ ص: 889 ] ووجه ثالث : وهو أن لا يحمل ( ملء الأرض ) أولا على الافتداء بل على التصدق ، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق ، بل يكون شرطا محذوف الجواب ، ويكون المعنى : لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا تصدق به ، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه . وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق .
ووجه رابع : وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي . فتبصر .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 92 ] لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم ، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم ، أي : لن تبلغوا حقيقة البر ، وتلحقوا بزمرة الأبرار . بناء على أن تعريف البر للجنس . أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته ، إذا كان للعهد، حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون ، أي : تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم ، كما في قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 890 ] يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله - عز وجل - أرجو برها وذخرها عند الله . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بخ بخ، ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين » قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه – ( وبيرحا يروى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر ، وهو اسم حديقة بالمدينة - وفي الفائق : إنها فيعـلى من البراح ، وهو الأرض الظاهرة . وبخ بخ : كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد ، ورابح بالموحدة : أي : ذو ربح ، وبالمثناة التحتية أي : يروح عليك نفعه وثوابه ) .
وفي الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله ! لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به ؟ قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » .
وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عمر قال : حضرتني هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحب إلي من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها . يعني : تزوجتها .
تنبيه :
قال القاشاني : في هذه الآية : كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه ، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به ، وأشرك شركا خفيا ، لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم [ ص: 891 ] كحب الله ) وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه : وهي محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق ؛ فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد ، وحصل القرب ، وإلا بقي محجوبا ، وإن أنفق من غيره أضعافه ، فما نال برا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره .
وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم أي : فمجازيكم عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، جيدا أو غيره .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 93 ] كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قال الزمخشري : المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه .
تنبيهات :
الأول : روي ، فيما حرمه إسرائيل على نفسه ، أنه لحوم الإبل وألبانها ، رواه الإمام أحمد في قصة ، والترمذي وقال : حسن غريب . وروي عن ابن عباس والضحاك والسدي وغيرهم موقوفا عليهم أنه العروق . قالوا : كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه ، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقا ، ولا يأكل ولده ما له عرق ، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم [ ص: 892 ] استنانا به ، واقتداء بطريقه ، قال الرازي : ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان ، بعث بردا إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه وقال : إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جدا ، فصلى ودعا ، وقدم هدايا لأخيه ، وذكر القصة ، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت ، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق - انتهى - قلت : والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين .
الثاني : التحريم المذكور ، على الرواية الأولى ، أعني لحوم الإبل وألبانها ، فكان تبررا وتعبدا وتزهدا وقهرا للنفس ، طلبا لمرضاة الحق تعالى . وعلى الثانية : فإما وفاء بالنذر وإما تداويا ،وإما لكونه يجد نفسه تعافه - والله أعلم - فالتحريم بمعنى الامتناع .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|