
11-06-2022, 11:51 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,255
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 917 الى صـ 923
الحلقة (171)
لطيفة :
قال الزمخشري : الضمير في : منها للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة ، وهو منها كما قال :
كما شرقت صدر القناة من الدم
انتهى .
[ ص: 918 ] وقال أبو حيان : لا يحسن عوده إلا إلى الشفا ؛ لأنه المحدث عنه . انتهى .
وفي ( الانتصاف ) : يجوز عود الضمير إلى الحفرة ، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور ، كما تقول : أكرمت غلام هند ، وأحسنت إليها ، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم ، لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا ، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوي إلى الحفرة ، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها . فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع . مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر ، خلاف رأيه في ( الإيضاح ) - نقله ابن يسعون - .
وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها ، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا ، لولا الإنقاذ الرباني . ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : « الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه » وإلى قوله تعالى : ( أم من أسس [ ص: 919 ] بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ) وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم ، مع تأكيد ذلك بقوله : هار والله أعلم - انتهى - .
ثم قال الزمخشري : وشفا الحفرة وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتانيث ، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة ، وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة ، الجانب والجانبة . انتهى .
وحكى الزجاج في تثنية شفا : شفوان . قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو ، لأنه الإمالة من الياء . كذا في الصحاح .
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار ، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها .
قال الرازي : وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة ، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء .
كذلك أي : مثل ذلك البيان : يبين الله لكم آياته في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه : لعلكم تهتدون لرشدكم الديني والدنيوي فيه . ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات ، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه ، فقال :
[ ص: 920 ]
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 104 ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون
ولتكن منكم أمة أي : جماعة ، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس ، أي يقصدونها ويقتدون بها : يدعون إلى الخير وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي : ويأمرون بالمعروف أي : بكل معروف ، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار : وينهون عن المنكر أي : عن كل منكر ، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة : وأولئك الداعون الآمرون الناهون : هم المفلحون الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم .
قال بعضهم : الفلاح : هو الظفر وإدراك البغية . فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وعز بلا ذل ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل .
لطيفة :
قيل : عطف : ويأمرون على ما قبله ، من عطف الخاص على العام . كذا قاله الزمخشري . وناقشه في ( الانتصاف ) . وعبارته : عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام ، كقوله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال وكقوله : فيهما فاكهة ونخل ورمان وكقوله : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وشبه ذلك ، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر [ ص: 921 ] يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات . وأما هذه الآية فقد ذكر ، بعد العام فيها جميع ما يتناوله ، إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور ، أو ترك منهي ، لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات ، فالأولى في ذلك أن يقال : فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا . وفيه تنبيه : أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية - والله أعلم - إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير ، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشري ، وما أرى هذا العرف ثانيا - والله أعلم - انتهى .
تنبيه :
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في ( فتح البيان ) .
قال الغزالي - رضي الله عنه - : في هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله تعالى : ولتكن أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به ، إذ حصر وقال : وأولئك هم المفلحون وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين ، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين ؛ إذ لم يقل : كونوا كلكم آمرين بالمعروف . بل قال : ولتكن منكم أمة فإذا ، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين ، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين . وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون ، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة . انتهى .
فإن قلت : فمن يباشره ؟ فالجواب : كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة ، أو إن نهيه لا يؤثر ، لأنه عبث ، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام ، وتذكير الناس بأمر الدين . فإن قلت : فمن يؤمر وينهى ؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف ، إذا هم بضرر غيره منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها - ذكره الزمخشري - .
[ ص: 922 ] وتفصيل هذا البحث في ( الإحياء ) للغزالي قدس سره ، وقد قال - قدس سره - في طليعة ذلك البحث ما نصه : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه ، واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسد هذه الثلمة ، إما متكفلا بعملها ، أو متقلدا لتنفيذها ، مجددا لهذه السنة الداثرة ، ناهضا بأعبائها ، ومتشمرا في إحيائها - كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها - انتهى - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 105 ] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود في افتراقهم مذاهب ، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى ، وطاعة النفس ، والحسد ، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض ، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه ، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة ، المبينة للحق ، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق ، فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة ، وإلى أعقابهم تبعا . وفي قوله [ ص: 923 ] تعالى : وأولئك لهم عذاب عظيم من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين ، والتشديد في تهديد المشبهين بهم ، ما لا يخفى .
تنبيهات :
الأول : ذكر الفخر الرازي من وجوه قوله تعالى : ( اختلفوا ) أي : بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل . ثم قال : وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة . فنسأل الله العفو والرحمة - انتهى كلامه - وقوله : ( هذا الزمان ) . إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف ، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل ، وما أداه إليه اجتهادهم ، ولم يضلل بعضهم بعضا ، ولم يدع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب ، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد تفرق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البلاد ، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهم على وحدتهم وتناصرهم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|