عرض مشاركة واحدة
  #179  
قديم 11-06-2022, 10:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,907
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 973 الى صـ 979
الحلقة (179)



القول في تأويل قوله تعالى :

[ 133 ] وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين

وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة أي : إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار [ ص: 973 ] والتوبة والأعمال الصالحة . وقوله : عرضها السماوات والأرض أي : كعرضهما ، كما قال في سورة الحديد : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض وفي العرض وجهان :

الأول : أنه على حقيقته . وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها ، فإن العرض في العادة أدنى من الطول ، كما قال تعالى في صفة فرش الجنة : بطائنها من إستبرق أي : فما ظنك بظاهرها ؟ فكذا هنا .

والثاني : أنه مجاز عن السعة والبسطة . قال القفال : ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة أي : واسعة عظيمة . والأصل فيه : أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة . وقال الزمخشري : المراد وصفها بالسعة والبسطة . فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه . والله أعلم أعدت للمتقين
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 134 ] الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين

الذين ينفقون في السراء أي : في حال الرخاء واليسر : والضراء أي : في حال الضيقة والعسر . وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس ، فمخالفتها فيه منقبة [ ص: 974 ] شامخة : والكاظمين الغيظ أي : الممسكين عليه في نفوسهم ، الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه .

روى الإمام أحمد عن جارية بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تغضب » . فأعاد عليه . حتى أعاد عليه مرارا . كل ذلك يقول : « لا تغضب » - انفرد به أحمد - وروي من طريق آخر أن رجلا قال : يا رسول الله أوصني ، قال : « لا تغضب » قال الرجل : ففكرت حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله : والعافين عن الناس أي : ظلمهم لهم ، ولو كانوا قد قتلوا منهم ، فلا يؤاخذون أحدا بما يجني عليهم ، ولا يبقى في أنفسهم موجدة ، كما قال تعالى : وإذا ما غضبوا هم يغفرون قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا . فنهي المؤمنون عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين ، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية : فمن عفي له من أخيه شيء إلى قوله : وأن تصدقوا خير لكم ويحتمل [ ص: 975 ] أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مثلوا بحمزة وقال : « لأمثلن بهم » . فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه ، والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا . قال تعالى في هذه القصة : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين - انتهى - .

وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر ؛ إذ لا تعيين : والله يحب المحسنين اللام إما للجنس ، وهم داخلون فيه دخولا أوليا . وإما للعهد ، عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله : « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك » . والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها - أفاده أبو السعود - .

[ ص: 976 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 135 ] والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون

والذين إذا فعلوا فاحشة من السيئات الكبار : أو ظلموا أنفسهم أي : بأي نوع من الذنوب : ذكروا الله أي : تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه : فاستغفروا لذنوبهم أي : لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى .

قال البقاعي : ولما كان هذا مفهما أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب ، أتبعه بتحقيق ذلك ، ونفى القدرة عليه عن غيره ، مرغبا في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله : ومن يغفر الذنوب أي : يمحو آثارها حتى لا تذكر . ولا يجازى عليها : إلا الله أي : الملك الأعلى . وقال أبو السعود : ( من ) استفهام إنكاري . أي : لا يغفر الذنوب أحد إلا الله ، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء ، فيسارع إلى الجواب به ، والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة ، والجملة معترضة بين المعطوفين ، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه ، والإشعار بالوعد بالقبول .

وقال الزمخشري : في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه ، وجب العفو والتجاوز ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل ، وكرمه أعظم ، والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة - انتهى - .

[ ص: 977 ] وفي مسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « عرف الحق لأهله » . وفيه أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .

وفيه أيضا عن علي - رضي الله عنه - قال : كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر - رضي الله عنه - حدثني ، وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ، ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله - عز وجل - إلا غفر له » ، ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن : ولم يصروا أي : لم يقيموا : على ما فعلوا أي : ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار . وهم يعلمون حال من فاعل يصروا أي : لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه ، والنهي عنه، والوعيد عليه . والتقييد بذلك ؛ لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح . وقد روى أبو داود والترمذي والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن أبي بكر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » ، [ ص: 978 ] وإسناده لا بأس به . قال ابن كثير : وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر، فهو حديث حسن . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 136 ] أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين

أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة : جزاؤهم مغفرة من ربهم أي : ستر لذنوبهم : وجنات تجري من تحتها الأنهار أي : من أنواع المشروبات : خالدين فيها ونعم أجر العاملين المخصوص بالمدح محذوف ، أي : ذلك . يعني : ما ذكر من المغفرة والجنات ، ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصة أحد ، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 137 ] قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

قد خلت أي : مضت : من قبلكم سنن أي : وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين : فسيروا في الأرض التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم : فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي : وقيسوا بها عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال ، والأمر بالسير والنظر ؛ لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا في الاعتبار ، والروعة أقوى من أثر السماع .

[ ص: 979 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 138 ] هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين

هذا أي : القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين : بيان للناس وهدى وموعظة أي : تخويف نافع : للمتقين ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 139 ] ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين

ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين أي : لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ، ولا تحزنوا على من قتل منكم ، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم ، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم ، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق ، وقوله : إن كنتم مؤمنين متعلق بالنهي أو بـ ( الأعلون ) . وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه . أي : إن كنتم مؤمنين ، فلا تهنوا ولا تحزنوا ، فإن الإيمان يوجب قوة القلب ، والثقة بصنع الله تعالى ، وعدم المبالاة بأعدائه . أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون . فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة - أفاده أبو السعود - .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.47 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.74%)]