
12-06-2022, 03:31 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (140)
صـ51 إلى صـ 60
والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما ; فإما أن يقال : إنه أدى الفرض على كمال العزيمة ، أو لا ; فلا يصح أن يقال : إنه لم يؤده على كماله ; إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق ; فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل ; فلابد أنه أداه على كماله ، وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام [ ص: 51 ] فإن قيل : إذا قلت : إن العزيمة مع الرخصة من باب خصال الكفارة بالنسبة إليه ; فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب ، وإذا كان ذلك كذلك ; فعمله بالعزيمة عمل على كمال ، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام ، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة ; فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير ; فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك .
وأيضا ، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين ; لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما ، وهما قضيتان متناقضتان ، لا تجتمعان على موضوع واحد ; فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة .
وأمر ثالث ، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة ، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم ; لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب ، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن ; فما أدى إليه مثله .
فالجواب : أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير ، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها ; فلا جناح عليه خاصة ، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة ، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص ، وإذا ثبت [ ص: 52 ] ذلك ; فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها ، وللمخالفة حكم آخر .
وأيضا ; فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى ، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد ; فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة ، بل من جهتين مختلفتين ، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ، ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور ، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار ; فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص ، وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها ; فعلى المجاز لا على الحقيقة ، ولنعدها مسألة على حدتها ، وهي :
[ ص: 53 ] المسألة الخامسة
والأدلة على صحتها ما تقدم ، والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر ; فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ، ولنفرض المسألة في موضعين : أحدهما : فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ; ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما ; كشارب المسكر يظنه حلالا ، وآكل مال [ ص: 54 ] اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه ، أو قاتل المسلم يظنه كافرا ، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته ، وما أشبه ذلك ; فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة ، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه ; فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال : إن الله أذن فيها وأمر بها ؟ كلا ، بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها ، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة ; كالغرامة ، والضمان في المال ، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس ، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ ، وما أشبه ذلك إن الله لا يأمر بالفحشاء [ الأعراف : 28 ] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم [ ص: 55 ] والموضع الثاني : إذا أخطأ الحاكم في الحكم ; فسلم المال إلى غير أهله ، أو الزوجة إلى غير زوجها ، أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له ، أو قتل نفسا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود ، أو نحو ذلك ; فقد قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ المائدة : 49 ] وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله ; فكيف يقال إنه مأمور بذلك ؟ أو أشهد ذوي زور ; فهل يصح أن يقال : إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم ؟ هذا لا يسوغ [ ص: 56 ] بناء على مراعاة المصالح في الأحكام ، تفضلا كما اخترناه ، أو لزوما كما يقوله المعتزلة ، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر ، والأمثلة في ذلك كثيرة .
ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه ، أو مأذونا له فيه ; لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة ; إذ لا فرق بين أمر وأمر ، وإذن وإذن ; إذ الجميع ابتدائي ; فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى ، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح .
فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع ، وإنما يكلف بما يظنه صوابا ، وقد ظنه كذلك ; فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه ، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد ; فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة ، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ، ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر .
[ ص: 57 ] المسألة السادسة
العموم إذا ثبت ; فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : أحدهما : الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول .
والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ; فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه : أحدها : أن الاستقراء هكذا شأنه ; فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام ; إما قطعي ، وإما ظني ، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية ; فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر ، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع .
والثاني : أن التواتر المعنوي هذا معناه ; فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد ، وعلى العموم من غير تخصيص ، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر ، مختلفة في الوقوع ، متفقة في معنى الجود ، حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ، ولم يكن خصوص [ ص: 58 ] الوقائع قادحا في هذه الإفادة ، فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم ; فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة ، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج ، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء ، والصلاة قاعدا عند مشقة القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم ، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات ، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة ، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر ، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه ، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج ; فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها ، عملا بالاستقراء ; فكأنه عموم لفظي ، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي [ ص: 59 ] ثبت في ضمنه ما نحن فيه ، والثالث : أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها ، وكإتمام عثمان الصلاة [ ص: 60 ] في حجه بالناس ، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة ، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها ، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وفي الحديث : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك ، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة ، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|