
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثانى
الحلقة (130)
صـ 348 إلى صـ 354
وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير.
[الطريق الثاني]
وأما الطريق الثاني (1) : فيقال: لهذا المنكر للرؤية المستدل على نفيها بانتفاء لازمها وهو الجهة: قولك ليس في جهة، وكل ما ليس في جهة لا يرى، فهو لا يرى، وهكذا جميع نفاة الحق ينفونه لانتفاء لازمه في ظنهم، فيقولون لو رئي للزم كذا، واللازم منتف فينتفي الملزوم.
والجواب العام لمثل هذه الحجج الفاسدة بمنع إحدى المقدمتين إما معينة وإما غير معينة فإنه لا بد أن تكون إحداهما باطلة أو كلتاهما باطلة (2) ، وكثيرا ما يكون اللفظ فيهما مجملا يصح باعتبار ويفسد باعتبار، وقد جعلوا الدليل هو ذلك اللفظ المجمل، ويسميه المنطقيون الحد الأوسط، فيصح في مقدمة بمعنى، ويصح في الأخرى بمعنى آخر، ولكن اللفظ مجمل، فيظن الظان لما في اللفظ من الإجمال وفي المعنى من الاشتباه أن المعنى المذكور في هذه المقدمة هو المعنى المذكور في المقدمة الأخرى، ولا يكون الأمر كذلك.
مثال ذلك في مسألة الرؤية] (3) [أن يقال: له] (4) : أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا؟
_________
(1) الطريق الأول هو الذي يقوم على عدم جحود الحق في مذهب المخالفين، وعلى بيان أن الحق الذي ندعوهم إليه أولى بالاتباع، وانظر ما سبق ص 329.
(2) في الأصل: أو كلاهما باطلة.
(3) هنا ينتهي السقط المشار إلى أوله في الصفحة السابقة. ويوجد بدلا منه هذه العبارة: " ويقال لهذا المنكر: ما تعني بقولك: ولأنه ليس في جهة؟ فإن قال: معناه أن كل ما ليس بجهة فلا يرى وهو ليس بجهة فلا يرى ". وقد سقطت كلمتان من هذه العبارات في نسخة (ن) ، (م) .
(4) ع: أن يقال، وهي ساقطة من (ن) ، (م) . وفي (ب) ، (أ) : فيقال له. والضمير عائد على الإمامي المنكر للرؤية.
******************************
فإذا أردت به أمرا وجوديا كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى. وهذه المقدمة [ممنوعة ولا دليل على إثباتها بل هي] (1) [باطلة] (2) فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر.
وإن أردت بالجهة أمرا عدميا كانت المقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس بجهة بهذا التفسير.
وهذا مما خاطبت (3) به غير واحد من الشيعة والمعتزلة فنفعه (4) الله به، وانكشف بسبب هذا التفصيل (5) ما وقع في هذا المقام من الاشتباه والتعطيل (6) . وكانوا يعتقدون (7) أن ما (8) معهم من العقليات النافية للرؤية قطعية لا يقبل في نقيضها (9) نص الرسل، فلما تبين (10) لهم أنها (11) شبهات مبنية على ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة، تبين أن الذي ثبت عن الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] (12) هو الحق المقبول، ولكن ليس هذا [المكان] (13) موضع بسط هذا، فإن هذا النافي إنما أشار إلى قولهم إشارة (14) . \ 0 5
_________
(1) ما بين المعقوفتين في (ع) فقط. وفي (ن) ، (م) توجد كلمة واحدة بدلا منه هي " عليها ".
(2) باطلة: ساقطة من (ن) ، (م) .
(3) ب، ن، م: ما خاطبت ; أ: ما خوطبت.
(4) ب، ا، ن، م: فنفع.
(5) ب، ا: بسبب هذا التفسير ; ن، م: بهذا التفصيل.
(6) ب، ا: والتضليل ; ن، م: والتعليل.
(7) ب، ا، ن، م: يقولون.
(8) ما: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(9) ن، م: بعضها.
(10) ب، ا: بين.
(11) أنها: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(12) ب، ا: الرسل ; ن، م: الرسول.
(13) ب، ا: ليس هنا ; ن، م: ليس هذا.
(14) إشارة: ساقطة من (ب) ، (أ) . وما يلي هذه الكلمة ساقط من (ب) ، (أ) ، (ن) ، وينتهي ص 358.
***********************************
[لفظ الحيز]
[وكذلك لفظ " الحيز " قد يراد به معنى موجود ومعنى معدوم. فإذا قالوا: كل جسم في حيز، فقد يكون المراد بالحيز أمرا عدميا، وقد يراد به أمر وجودي.
والحيز في اللغة هو أمر وجودي ينحاز إليه الشيء، كما قال تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} [سورة الأنفال: 16] .
وعلى الأول فإنه يراد بالمتحيز ما يشار إليه ; ولهذا كان المتكلمون يقولون: نحن نعلم بالاضطرار أن المخلوق: إما متحيز وإما قائم بالمتحيز، فكثير منهم يقول: بل نعلم أن كل موجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ويثبتون ما يذكره بعض الفلاسفة من إثبات المجردات المفارقات التي لا يشار إليها، بل هي معقولات مجردة، إنما تثبت في الأذهان لا في الأعيان.
وما يذكره الشهرستاني والرازي ونحوهما من أن متكلمي الإسلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه المجردات ليس كما زعموا، بل كتبهم مشحونة بما يبين انتفاءها (1) كما ذكر في غير هذا الموضع.
والرازي أورد في " محصله " سؤالا على الحيز فقال (2) : " أما الأكوان
_________
(1) في هامش نسخة (ع) نقل مستجي زاده العبارة التي أولها: " وما يذكره الشهرستاني. . " إلى كلمة " انتفاءها " ثم كتب التعليق التالي: " قلت: والإمام الغزالي ممن يروج هذا القول ويقيم براهين على تحقق المجردات، حتى ادعى في بعض منها الضرورة والبداهة، وأنى له ذلك لأن المطلب نظري ومحل نزاع بين أهل الشرع والفلاسفة. والفلاسفة أيضا يعترفون بنظرية المطلب، وظواهر النصوص من الكتاب والسنة تدل على نفي المجردات ".
(2) النص التالي من كلام الرازي موجود في كتابه " محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين " ص [0 - 9] 5.
**********************************
فقد اتفقوا على أن حصول الجوهر في حصول الحيز (1) أمر ثبوتي. فقيل: هذا الحيز إن كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم؟ وإن كان موجودا فلا شك أنه أمر يشار (2) إليه. فهو إما جوهر وإما عرض، فإن كان جوهرا كان الجوهر حاصلا في الجوهر، وهو قول بالتداخل، وهو محال اللهم إلا أن يفسر ذلك بالمماسة، ولا نزاع فيها. وإن كان عرضا فهو حاصل في الجوهر فكيف يعقل حصول الجوهر فيه؟ ".
وقد رد الطوسي هذا فقال (3) : " هذا غلط من جهة اشتراك اللفظ، فإن لفظة (4) " في " يدل في قولنا: الجسم في الجسم - بمعنى التداخل - والجسم في المكان، والعرض في الجسم، على معان مختلفة ; فإن الأول يدل على كون الجسم مع جسم آخر في مكان واحد، والثاني يدل على كون الجسم في المكان، والثالث يدل على كون العرض حالا في الجسم.
والمكان هو القابل للأبعاد القائم بذاته الذي لا يمانع الأجسام عند قوم، وعرض هو سطح الجسم [الحاوي] (5) المحيط بالجسم ذي المكان عند قوم وهو بديهي الأينية (6) خفي الحقيقة.
_________
(1) في " المحصل ": في الحيز.
(2) في " المحصل ": مشار.
(3) ما يلي من كلام نصير الدين الطوسي هو من كتابه " تلخيص المحصل " وقد طبع بذيل كتاب " المحصل ". ويوجد هذا النص في ذيل صفحتي 65 - 66.
(4) في " تلخيص المحصل ": لفظ.
(5) كلمة " الحاوي " ساقطة من نسخة (ع) وهي في " تلخيص المحصل ".
(6) في (ع) : الأبنية، والتصويب من " تلخيص المحصل ".
**************************************
والمكان إن كان عدميا لم يكن حصول الجوهر في الأمر العدمي (1) حصوله في المعدوم، بمعنى أنه في العدم وإن كان جوهرا، فالجوهر عند القوم الأول ينقسم إلى مقاوم للداخل عليه ممانع إياه، وهو الذي لا يجوز عليه التداخل، وإلى (2) غير مقاوم يمتنع عليه الانتقال وهو المكان والجوهر الممانع (3) يمكن أن يداخل غير الممانع، وذلك هو كون الجوهر في المكان.
وأما عند القوم الثاني فحصول الجوهر في المكان الذي هو عرض بمعنى غير المعنى (4) الذي يراد به في قولهم حصول العرض في الجوهر، بمعنى الحلول فيه ".
قلت: قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن ما ذكره الرازي من قوله: " قد اتفقوا على أن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي " ليس كما قاله ; بل يقال: إن أراد بقوله: إن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي، أنه صفة ثبوتية تقوم بالمحيز، فلم يتفقوا على هذا، بل ولا هذا قول محققيهم، بل التحيز عندهم لا يزيد على ذات المتحيز. قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني: " المتحيز هو الجرم، أو الذي له حظ من المساحة، والذي لا يوجد بحيث وجوده جوهر " (5) .
_________
(1) في (ع) : لم يكن حصول الجوهر إلا في الأمر العدمي، ورجحت أن يكون الصواب ما أثبته، وهو الذي في " تلخيص المحصل ".
(2) ع: إلى، والصواب من " تلخيص المحصل ".
(3) ع: المانع، والصواب من " تلخيص المحصل ".
(4) في " تلخيص المحصل ": غير العين، والصواب ما أثبته وهو الذي في (ع) .
(5) لم أجد هذا النص فيما بين يدي من كتب الباقلاني، ولكن الجويني نقله عنه في كتاب " الشامل في أصول الدين " 1/59 - 60 (ط. هلموت كلويفر، القاهرة، 1959) فقال: " والأصح في ذلك عبارات ارتضاها القاضي رضي الله عنه منها أنه قال: المتحيز هو الجرم، ولا معنى سواه. وقال: إنما هو الذي له حظ من المساحة، وقال أيضا: هو الذي لا يوجد بحيث وجوده جوهر ". وانظر: الإنصاف للباقلاني، ص 15، ط. عزت العطار، القاهرة، 1369/1950.
***********************************
وقال أبو إسحاق الإسفراييني (1) : " ما هو في تقدير مكان ما وما يشغل الحيز، ومعنى شغل الحيز أنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن أن يكون فراغا ".
وقال بعضهم: " الحيز تقدير مكان الجوهر ".
وقال أبو المعالي الجويني - الملقب بإمام الحرمين -: " الحيز هو المتحيز نفسه، ثم إضافة الحيز إلى الجوهر كإضافة الوجود إليه " (2) .
قال: " فإن قيل: فهلا قلتم: إن المتحيز متحيز بمعنى، كما أن الكائن كائن بمعنى. قلنا: تحيزه نفسه أو صفة نفسه - عند من يقول بالأحوال - وكونه متحيزا راجع إلى نفسه، وكذلك كونه جرما، وذلك لا يختلف وإن اختلفت أكوانه بأعراضه، ولو كان تحيزه حكما معللا لوجب أن يثبت له حكم الاختلاف عند اختلاف الأكوان، فلما لم يختلف كونه جرما دل على أنه ليس من موجبات الأكوان والاختصاص بالجهات، فما كان بمقتضى الأكوان كان في حكم الاختلاف ".
_________
(1) أبو إسحاق بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني، سبقت ترجمته 2/296 وانظر عنه أيضا: تبيين كذب المفتري، ص [0 - 9] 43 - 244.
(2) يقول الجويني (الشامل، ص [0 - 9] 56، تحقيق د. فيصل بدير عون، د. سهير محمد مختار، ط. المعارف، الإسكندرية، 1969) : " وأحسن ما يقال في الحيز أنه المتحيز بنفسه، وقد سبق معنى المتحيز، ثم لا تبعد إضافة الحيز إلى الجوهر، كما لا تبعد إضافة الوجود إليه ".
********************************
قال: " فإن قيل: الجوهر لا يخلو عن الأكوان كما لا يخلو عن وصف التحيز. قلنا: قد أوضحنا أن تحيزه صفة نفسه، فنقول: صفة النفس تلازم للنفس ولا تعقل النفس دونها، وكون الجوهر متحيزا بمثابة كونه ذاتا أو شيئا. والتحيز قضية واحدة يجب لزومها ما بقيت النفس، والكون اسم يقع على أجناس مختلفة " (1) . ثم بسط الكلام في ذلك.
وهذا يبين أن التحيز عندهم ليس قدرا زائدا على المتحيز، فضلا عن كونه وصفا ثبوتيا. وإن أراد بكونه ثبوتيا أنه أمر إضافي إلى الحيز فالأمور الإضافية عند أكثرهم عدمية إذا كانت بين موجودين، فكيف إذا كانت بين موجود ومعدوم! ؟ وقوله: " إن الحيز إذا كان معدوما، فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم؟ ".
فيقال: له: إنهم لم يريدوا بكونه في المعدوم إلا وجوده وحده من غير وجود آخر يحيط به، لم يريدوا أنه يكون معدوما مع كونه موجودا.
وأيضا، فمن لم يعرف مرادهم: هل الحيز عندهم وجود أو عدم، كيف يحكى عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله متحيز أو قائم بالمتحيز، مع علمه وحكايته عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله محدث، فيمتنع مع هذا أن يكون ما سواه إما متحيزا أو حالا في المتحيز، مع أن المتحيز هذا في حيز وجودي سوى الله، وهو محدث، فإن هذا تناقض ظاهر لأنه يستلزم أن يكون هنا ثلاثة موجودة محدثة:
_________
(1) أكثر هذا الكلام موجود بمعناه وإن لم يكن بلفظه في " الشامل " ص [0 - 9] 57.
***********************************