
27-06-2022, 08:21 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,125
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1121 الى صـ 1127
الحلقة (199)
[ ص: 1121 ] وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء في الآية الأولى لعموم الأمة، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصا بالعادلين منهم، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم.
والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع، كما أسلفنا، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ، بمجرد تعدد الزوجات، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطا أو منحطين، وإن كان أبوهم راقيا، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل.
بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات؛ ليكون أولادهم مثلهم نبوغا أو أنبغ منهم، بحكم سنة الوراثة، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج، فنكحوا ما طاب لهم، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه، إلى حسن رائع، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه، ولذلك قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولم يقل: (وانكحوا من النساء) وفي قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث، فكأنه أراد أن لا يتجاوز الذي قل نبوغه الاقتران باثنتين، وأن لا يتجاوز الذي نبوغه متوسط الاقتران بثلاث، وأن يحل للذي نبوغه أعلى من الأولين الاقتران بأربع.
وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة؛ لأنهم أناس لن يستطيعوا - مع كل حرصهم - أن يعدلوا بين النساء؛ لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ، هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولا منه إلى البشر، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن.
وأظنك - بعد قراءة ما أوردت - تعترف - إن كنت من المنصفين - أن الإسلام جاء [ ص: 1122 ] قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام بسنة للزواج، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضون عليه، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي، وهو إباحة تعدد الزوجات، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن لأفراد نابغين من المسلمين، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين، للخائفين أن لا يعدلوا ولغير الخائفين، ففسد النسل، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت - بحكم الجهل - منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب، فكثر نسل الظالمين، وقل نسل العادلين من أهل العقل الراجح، انتهى كلامه، وهو استنباط بديع.
القول في تأويل قوله تعالى:
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [4]
وآتوا أي: أعطوا النساء أي: اللاتي أمر بنكاحهن صدقاتهن أي: مهورهن (جمع صدقة كسمرة) وهي المهر نحلة أي: عطاء غير مسترد بحيلة تلجئهن إلى الرد، والنحلة (بكسر النون وضمها، على ما رواه ابن دريد) اسم مصدر لـ (نحل) والمصدر النحل (بالضم) وهو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة - مع كونها واجبة على الأزواج - لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر.
فائدتان:
الأولى: هذا الخطاب إما للأزواج، كما روي عن علقمة والنخعي وقتادة ، واختاره الزجاج ، فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج، وإما لأولياء النساء، وذلك لأن العرب [ ص: 1123 ] كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا.
ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي: تعظمه.
وقال ابن الأعرابي : النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح ، واختيار الفراء وابن قتيبة .
الثانية: قال القفال - رحمه الله تعالى -: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد [التوبة: من الآية 29]، والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم، سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموهوبة.
ثم قال رحمه الله: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا، والله أعلم.
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الضمير للصدقات، وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك، أي: فإن أحللن لكم من المهر شيئا بطيبة نفس؛ جلبا لمودتكم، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم.
فكلوه هنيئا مريئا أي: فخذوه وتصرفوا فيه تملكا، وتخصيص الأكل بالذكر؛ لأنه معظم وجوه التصرفات المالية.
وهنيئا مريئا: صفتان من (هنؤ الطعام ومرؤ) إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء حميد المغبة، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة؛ لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات.
[ ص: 1124 ] تنبيه:
قال بعض المفسرين: للآية ثمرات:
منها: أنه لا بد في النكاح من صداق.
ومنها: أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون.
ومنها: أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا، ولذا قال بعض الفقهاء: لها بيع مهرها قبل قبضه، ولبعضهم: لا تبيعه حتى تقبضه، كالملك بالشراء.
ومنها: أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها، وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت، واحتج بالآية.
روى الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب الرجوع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء ؟ فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقبله؛ لأنهن يخدعن.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، نقله الرازي .
أقول: ما رآه شريح وروي عن عمر هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع، إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بني الشرط على طيب النفس، ولم يقل: فإن وهبن لكم؛ إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها، وذلك بين.
القول في تأويل قوله تعالى:
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا [5]
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا اعلم أن في الآية وجوها يحتملها النظم الكريم:
[ ص: 1125 ] الأول: أن يراد بالسفهاء اليتامى، كما روي عن سعيد بن جبير ، والخطاب حينئذ للأولياء، نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم؛ لأن السفيه هو الخفيف الحلم.، وإنما أضيفت للأولياء - وهي لليتامى - تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء، فكأن أموالهم عين أموالهم؛ لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي؛ مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، كما قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: من الآية 29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضا حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم؛ مبالغة في زجرهم عن قتلهم، فكأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، بقوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما أي: جعلها الله شيئا تقومون وتنتعشون، فلو ضيعتموها لضعتم.
وقوله تعالى: وارزقوهم فيها واكسوهم أي: اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا وتتربحوا؛ حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال.
وقوله سبحانه: وقولوا لهم قولا معروفا أي: كلاما لينا تطيب به نفوسهم، ومنه أن يعدهم عدة جميلة، بأن يقول وليهم: إذا صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم.
الوجه الثاني: أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان، روي ذلك عن ابن عباس ، وابن مسعود، وغيرهما، فالخطاب عام، والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء؛ استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لا تعمد إلى مالك خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو ابنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم.
الوجه الثالث: أن [ ص: 1126 ] يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة.
قال الرازي : وهذا القول أولى؛ لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز.
قال السيوطي في: "الإكليل": في هذه الآية الحجر على السفيه ، وأنه لا يمكن من ماله، وأنه ينفق عليه منه ويكسى، ولا ينفق في التبرعات، وأنه يقال له معروف كـ: (إن رشدت دفعنا إليك مالك، وإنما يحتاط لنفعك).
واستدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ ، سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ، ومن قال بالحجر على من يخدع في البيوع، ومن قال بأن من يتصدق على محجور، وشرط أن يترك في يده لا يسمع منه في ذلك.
لطيفة:
في قوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها.
قال الزمخشري : كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس.
وعن سفيان - وكانت له بضاعة يقلبها -: لولاها لتمندل بي بنو العباس.
وعن غيره (وقيل له: إنها تدنيك من الدنيا): لإن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها.
وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلا في جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا [6]
[ ص: 1127 ] وابتلوا اليتامى أي: اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف حتى إذا بلغوا النكاح أي: بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة؛ لما في الصحيحين عن ابن عمر قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني .
قال نافع : فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة.
وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة؛ لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت فيمن لم ينبت، فخلى سبيلي قال الترمذي : حسن صحيح.
فإن آنستم أي: شاهدتم وتبينتم منهم رشدا أي: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، قاله سعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة فادفعوا إليهم أموالهم أي: من غير تأخير .
وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق، لا يسلم إليه ماله؛ لأنها مفسدة للمال.
ولا تأكلوها أيها الأولياء إسرافا وبدارا أن يكبروا أي: مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.
ومن كان من الأولياء غنيا فليستعفف أي: يتنزه عن أكل مال اليتيم، فإنه عليه كالميتة والدم، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الزرق ومن كان فقيرا يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب، وإهماله يفضي إلى تلفه عليه فليأكل بالمعروف بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|