
29-06-2022, 07:33 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,210
الدولة :
|
|
أخطاء في فهم الرضا بالله تعالى أو تطبيقه
أخطاء في فهم الرضا بالله تعالى أو تطبيقه (1)
إبراهيم الدميجي
الحمد لله، وبعد:
فإنَّ الرضا بابٌ عظيم من أبواب الدين، وهو من أعمال القلوب الكبار، وداخلٌ في لُبابِ الإسلام؛ إذ أصلُ الإسلامِ تسليمٌ واستسلام لله تعالى بتوحيده وطاعته، وعينُ الاستسلام الرضا، فالرضا هو محض التسليم، وكهف السكينة، وإكسير الانقياد، ومُوقدُ الهمّة للعبادة، ولَمَّا كان الرضا بهذه الأهمية، كان حتمًا على كل موفَّق فهم حدوده للوصول لغاياته، دون روغان عن جادَّتِه، ولا زيغ عن مَحجَّتِه، والخطأ فيه إما صادرٌ من باب التصوُّر والعلم والفهم والتنظير، أو من باب العمل والسلوك والتطبيق، والهُدى أن يأخذ الله بيد عملك وعين بصيرتك فيُنيرك بالعلم والإيمان، فاللهم اهدنا الصراط المستقيم.
فمن الأخطاء في باب الرضا:
الأول: نقص الفقه في معانيه الشرعية:
ذلك أن ميدان الرضا خصيبٌ بالمعاني التي تحتملها المفردات المترادفة والمتباينة، فيلزم من أراد فهم الرضا أن يتفقَّه في مقاصد ألفاظ الشرع، حتى لا يقع التباسٌ يُحيل الباطل في عينه لحقٍّ يتوهَّمه؛ فيَضِلّ ويُضَلّ، قال ابن القيم رحمه الله: "وكثيرًا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص، ومن ذلك: اشتباه الرضا عن الله بكل ما يفعل بعبده مما يحبه ويكرهه بالعزم على ذلك وحديث النفس به، وذلك شيء والحقيقة شيء آخر"، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ليس في الوجود شيء أشرف من العلم، كيف لا وهو الدليل؟! فإذا عُدِم وقع الضلال"[1].
ومن الأخطاء: ترك معونة الناس بحجَّة الرضا بالقضاء، فمن المهمات معرفة أن الرضا مُحرِّك إيجابي، ودافع لإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وإغناء المسكين، ونصر المظلوم، وفكِّ العاني، والقيام لله في ذلك كله، وليس معناه الإعراض عنهم، والتولِّي عند حاجتهم، والإدبار عن نفعهم بحجة الرضا:
صَمْتُ الفقير بكاءٌ لا يُحِسُّ بهِ 
في ضجَّةِ الكَوْنِ إلا مَنْ يُعانيهِ
يَبْكي بُكاءً مريرًا لا دُمُوعَ لهُ 
إذ إنَّهُ عن عُيونِ الناسِ يُخْفيهِ
لأنَّهُ مُعْدِمٌ لا مالَ في يَدهِ 
سوى التَّعَفُّفِ في أسْمَى مَعانيهِ
لا يَسْأل النَّاسَ إلْحافًا ولا طَمَعًا 
وفيهِ مِنْ حَسْرةِ الإمْلاقِ ما فِيهِ
ذاكَ الَّذي يستحقُّ العَوْنَ فانْتَبِهُوا 
ولا تَقُولوا غناءُ النَّفْسِ يَكْفيهِ
ففتِّشُوا الآنَ في الأحياءِ عنهُ ولا 
يَسْتَصْغِر الأجْرَ عند اللهِ مُعْطِيهِ
ومن الأخطاء في باب الرضا: تمني البلاء، فيتمنى العبد بلاءً كي يرضى به، وهو منه أصلًا في عافية، ولا يدري عاقبته في نفسه، ولا مدى احتماله له، ولا يدري عن توفيق الله له بتثبيت عزمه على الرضا، فكم انفسخت في الناس من عزيمة، وبطلت من همَّة، واضمحلَّت من إرادة! وليس من سنة الرسل تمنِّي البلاء وإن التذُّوا به حين يقع؛ لعظيم إيمانهم، وقوَّة علمهم، وعصمة الله تعالى لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربَّه العافية، ويُوصي أمَّتَه بذلك، وكلُّ الهدى في سُنَّته، والسلامة لا يعدلها شيء.
قال المباركفوري رحمه الله تعالى: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتلاهُم))[2]، المقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه، لا الترغيب في طلبه للنهي عنه"[3]، ومما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((أيُّها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللهَ العافيةَ، فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبرُوا))[4]، فنهانا عليه الصلاة والسلام عن تمنِّي البلاء، وأمرنا أن نسأل الله أن يُعافيَنا منه كذلك، كما أمرنا بالصبر عند وقوعه.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ))[5]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء"[6]، وفي صحيح مسلم[7] عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ رجلًا من المسلمين قد خَفَتَ[8] فصار مثل الفَرْخ[9]، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟))، قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت مُعاقِبِي به في الآخرة فَعَجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سُبْحانَ الله، لا تُطيقُه، أو لا تستطيعه[10]، أفلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟))، قال: "فدعا الله له فشفاه"، ففي هذه الأحاديث وأمثالها استحبابُ التعوُّذ من البلاء، وكراهة تمنِّيه، والخطأ ليس في سؤال الله العافية وتمنِّي عدم البلاء، بل الخطأ في سؤال الله إيَّاه وقد عافاه، وتمنِّيه وقد نهاه، ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ﴾ [النساء: 147].
وتأمل تفسير الحسن البصري لآية الحسنة فقد قال في قوله تعالى: "﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ [البقرة: 201] هي العلم والعبادة، ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ [البقرة: 201] هي الجنَّة"[11]، نسأل الله الكريم من فضله، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "هذا من أحسن التفسير؛ فإنَّ أجلَّ حسنات الدنيا العلم النافع والعمل الصالح"[12]، وهذا تفسير للشيء ببعض معناه، أو بالمهمِّ من تأويله، وإلا فحسنات الدنيا الشرعية والدنيوية المباحة لا تُحصى بفضل الله وكرمه.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من الأخطاء في فهم الرضا بالقضاء: اشتراط عدم الإحساس بالألم، فليس من شرط الرضا فقد الإحساس بالمؤلم، فهذا ممتنع على الطبيعة، بل إن الكمال أن يكون الرضا مع الألم حتى يتجرَّد ذلك العمل القلبي الجميل من حظوظ النفس، وقد مضى الكلام على هذا.
ومن الأخطاء: تركُ الأسباب بحُجّة الرضا بالقضاء، يا عباد الله، إنَّ العبدَ دائرٌ في عبوديّته بين مأمور بفعله، ومحظور بتركه، فوظيفتُه فعل المأمور واجتناب المنهي، وهو بهذا يفعل الأسباب المأمور بها، ويترك المنهيّ عنها.
ومن الأسباب التي لا بد له من فعلها- أي هو مأمور بها -: ما يحفظ حياته؛ من الطعام، والشراب، واللباس، والمسكن، وكذلك الأسباب الموجبة لبقاء نوع الإنسان من النكاح، وما يحافظ على عقله، وماله، وغير ذلك من ضرورات الحياة، وإن تعطيل شيء مِمَّا أمر الله به، أو الوقوع فيما نهى الله عنه يفسد حياته وآخرته، وفعل الأسباب ليس مانعًا من الرضا، بل ذلك من الرضا بقضاء الله وقدره، ولا يتحقق الرضا بالقضاء إلا بفعل الأسباب المأمور بها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 7، 8] وقال سبحانه: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]، وغيرهما من الآيات الكثيرة التي تدل على أن فعل الأسباب من الإيمان والعمل الصالح بكل أنواعه وكيفياته، ومنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحب في الله، والبغض فيه وله، والجهاد في سبيل الله، وابتغاء الرزق الحلال من غير جشع أو طمع، والإنفاق في وجوه الخير، وغير ذلك من العبادات الواجبات والمسنونات والمستحبات، وكما قيل: "من أراد أن يبلغ محلَّ الرِّضَا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه"[13].
ومن قال أو ظن أو فهم أن الرضا ترك التدبير أو ترك الأسباب، فقد طعن في الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فالله عزّ وجل يقول: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [الملك: 15]، وقال: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]، وقال: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ [الأنفال: 69]، والغنيمة: اكتساب، وقال تعالى: ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12]، فهذا عمل، وقد هاجر صلى الله عليه وسلم مستخفيًا، كما ظاهر في الحرب بين درعين وهو أرضى الخلق طرًّا بربهم صلى الله عليه وسلم.
فالرضا والتسليم لله والإيقان بأنَّ قضاءَ الله ماضٍ نافذ، واتِّباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب؛ من مطعم ومشرب، وتحرُّز من عدو، وإعداد الأسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة- هو الحق والصواب، والخير والفلاح للعبد في ذلك[14].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.
[1] تلبيس إبليس (284 - 291) مختصرًا.
[2] البخاري 7/ 109 (5470)، ومسلم 6/ 174 (2144) (23).
[3] تحفة الأحوذي (7 / 66).
[4] البخاري 4/ 62 (2966)، ومسلم 5/ 143 (1742).
[5] البخاري 8/ 157 (6616) ومسلم 8/ 76 (2707) (53).
[6] البخاري (8/ 93) ومسلم (8/ 76).
[7] مسلم (2688).
[8] أي: ضَعُف جدًّا، ويقال: خَفَتَ الصوت: إذا ضعف وسكن.
[9] أي: في ضعف ولد الطير.
[10] وهذا من رفقه ورحمته وشفقته ونصحه صلى الله عليه وسلم.
[11] الطبري في التفسير (4/ 205)، وابن عبدالبر في الجامع (1/ 229)، وغيرهما.
[12] مفتاح دار السعادة (1/ 339).
[13] نقلها القشيري في "الرضا" عن النصر آبادي.
[14] وانظر: المنهاج (3/ 91) وإكمال المعلم (2 / 903- 30904) والبحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج لمحمد آدم الأثيوبي (5/ 536).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|