
20-07-2022, 04:16 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة :
|
|
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد

شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 571الى صــ 580
(83)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، «عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: " سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ تَحِيضُ؟ قَالَ: لِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهَا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَقَالَ الْحَارِثُ: كَذَلِكَ أَفْتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَرِبْتَ عَنْ يَدَيْكَ، سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ سَأَلْتَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَيْمَا أُخَالِفُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
قِيلَ: الْحَارِثُ كَانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، ثُمَّ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْعُمُومِ، وَأَفْتَاهُ بِمَا يُطَابِقُ الْعُمُومَ، وَلَمْ يَعْلَمَا أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَارِثُ أَنَّهُ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَيْنِهَا، يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنِ الْحَارِثِ هَذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» فَبَلَغَ حَدِيثُهُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: خَرَرْتَ مِنْ يَدَيْكَ! سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تُخْبِرْنَا بِهِ؟ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
[بَابُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ] [مَسْأَلَةٌ أَرْكَانُ الْحَجِّ]
مَسْأَلَةٌ: (أَرْكَانُ الْحَجِّ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ هِيَ أَبْعَاضُهُ وَأَجْزَاؤُهُ الَّتِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، فَمَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا، بِخِلَافِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَتَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ: أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَمْكَنَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَإِنَّهُ لَا نِيَابَةَ فِيهَا.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فُصُولٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وَكَلِمَةُ " إِذَا " لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا كَقَوْلِهِمْ: إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي، وَلَا يُقَالُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ لِمَا يَسْتَقْبِلْ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَتَتَضَمَّنُ الشَّرْطَ فِي الْغَالِبِ، فَإِذَا جُوزِئَ بِهَا كَانَ مَعْنَاهُ إِيقَاعَ الْجَزَاءِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِلَّا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَالْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهَا يَكُونُ أَمْرًا حَتْمًا بِإِيجَادِهَا نَحْوَ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ النَّاسِ وَكُلُّهُمُ الْإِفَاضَةَ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ: إِذَا صَلَّيْتَ الظُّهْرَ فَافْعَلْ كَذَا.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] الْآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: " «كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ فَيَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضُ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]» " وَفِي لَفْظٍ: " «قَالَتْ: الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: لَا نُفِيضُ إِلَّا مِنَ الْحَرَمِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: " «أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَدُّ مِنَ الْحُمْسِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَتِ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أَبُو سَيَّارَةَ عَلَى حِمَارٍ عُرْيٍ، فَلَمَّا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لَمْ تَشُكَّ قُرَيْشٌ أَنَّهُ سَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ، فَأَجَازَ وَلَمْ يَعْرِضْ حَتَّى أَتَى عَرَفَاتٍ فَنَزَلَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قِيلَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] وَالْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
قِيلَ: قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ إِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ أَنْ تَذْكُرُوهُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَتَرْتِيبُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهَذَا بَعْدَ هَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْحَجِيجِ، وَالثَّانِي: أَمْرٌ لِلْحُمْسِ خَاصَّةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ} [البقرة: 197] إِلَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا. . . {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة: 199] وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فَمَنْ فَرَضَ الْحَجَّ فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَفْسُقُ، ثُمَّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ يُفِيضُ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمَفْرُوضَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ لَفْظَ الْإِفَاضَةِ دُونَ الْوُقُوفِ؟

قِيلَ: لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: ثُمَّ قِفُوا حَيْثُ وَقَفَ النَّاسُ لَظُنَّ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ يُجْزِئُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، وَأَمَّا الْإِفَاضَةُ فَإِنَّهَا الدَّفْعُ بَعْدَ تَمَامِ الْوُقُوفِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ وَقْتَ الدَّفْعِ هُوَ آخَرُ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِذَا أُمِرُوا بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا عُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَقِفُوا بِهَا إِلَى وَقْتِ الْإِفَاضَةِ، وَأَنَّهَا غَايَةُ السَّيْرِ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْحَاجُّ، فَلَا تُتَجَاوَزُ وَلَا يُقَصَّرُ عَنْهَا ; لِأَنَّ الْمُقَصِّرَ وَالْمُجَاوِزَ لَا يُفِيضَانِ مِنْهَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ: " «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، فَسَأَلُوهُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةً، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَأَرْدَفَ رَجُلًا خَلْفَهُ يُنَادِي بِهِنَّ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِسَعِيدٍ: «مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ».
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ الطَّائِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ صَحِيحَةٍ: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِسَعِيدٍ: «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَشَهِدَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ - يَعْنِي: صَلَاةَ الْفَجْرِ - أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا - فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «أَفْرِحْ رَوْعَكَ، مَنْ أَدْرَكَ إِفَاضَتَنَا هَذِهِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ. . .
(فَصْلٌ)
وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَكَانٌ وَزَمَانٌ، فَأَمَّا حُدُودُ عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا زَمَانُ الْوُقُوفِ: فَالْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَتُسَمَّى لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَلَيْلَةَ النَّحْرِ، وَلَيْلَةَ عَرَفَةَ. فَمَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَرَفَةَ: فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] وَإِذَا كَلِمَةُ تَوْقِيتٍ، وَتَحْدِيدٍ، فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِفَاضَةَ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ:. . .، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» "، وَهَذَا ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ تَحْدِيدِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ جَاءَهَا لَيْلًا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ لَمْ يُوَافِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا ...... ». وَالصَّلَاةُ بِالْمُزْدَلِفَةِ: هِيَ أَوَّلَ مَا يَبْزُغُ الْفَجْرُ. فَعُلِمَ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ قَبْلَ مِيقَاتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ. وَهَذَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ" رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.

وَمَنْ لَمْ يُوَافِ عَرَفَةَ إِلَّا لَيْلًا أَجْزَأَهُ الْوُقُوفُ وَلَوْ لَحْظَةً فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ»، وَقَوْلِهِ: «وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا».
وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَرَ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْحَجَّ، وَأَنَّهُ قَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا فِي حُكْمٍ عَظِيمٍ أَرْدَفَ خَلْفَهُ مَنْ يُنَادِي بِهِ فِي النَّاسِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَمَنْ وَافَاهَا نَهَارًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ إِلَى اللَّيْلِ - كَمَا سَيَأْتِي - لَكِنْ لَوْ لَمْ يَقِفْ إِلَى اللَّيْلِ إِمَّا بِأَنْ يَدْفَعَ مِنْهَا، أَوْ يَعْرِضَ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوُقُوفِ مِنْ إِغْمَاءٍ أَوْ مَوْتٍ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ إِنْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَأَمَّا إِنْ وَقَفَ قَبْلَ الزَّوَالِ: فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يُجْزِئُهُ الْوُقُوفُ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ كَانَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَلَيْلَتِهَا مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِهَا إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ مَرِيضًا أَهَلَّ مِنَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بِعَرَفَاتٍ فَلَمْ يَقِفْ حَتَّى أَصْبَحَ: فَلَا حَجَّ لَهُ، فَإِنْ أَفَاقَ وَلَوْ سَاعَةً إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ [مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَيُرْمَى عَنْهُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: إِذَا عَقَلَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ فَأَهَلَّ بِعَرَفَةَ سَاعَةً] قَالَ: قَدْ أَجْزَأَ عَنْهُ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلَوْ سَاعَةً، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي، وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا: لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَنَفَرَ مِنْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ: أَسَاءَ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بَطَّةِ، وَأَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيَّيْنِ، فَمَنْ لَمْ يَقِفْ - عِنْدَهُمْ - بَعْدَ الزَّوَالِ: فَحَجُّهُ بَاطِلٌ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الْحَارِثِ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَشْرُدُ بِهِ بِعِيرُهُ بِعَرَفَةَ - فَقَالَ: كُلُّ مَنْ وَطِئَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ بَعْدَ أَنْ يَقِفَ النَّاسُ: فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ إِذَا أَتَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَيَدْخُلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: يُجْزِئُهُ حَجُّهُ إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بِعَرَفَةَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى انْسَلَخَ عَنْهُ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَا يَقْضِي شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ.

فَقَدْ قُيِّدَ الْوُقُوفُ الْمُجْزِئُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُقُوفِ النَّاسِ بِهَا، وَأَوَّلُ وَقْتِ وُقُوفِ النَّاسِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْمُوَرَّثَةُ عَنْهُ الْمَنْقُولَةُ نَقْلًا عَامًّا، فَلَوْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتَ وُقُوفٍ لَوَقَفَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَمِرَةَ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعَرَّفِ، إِذِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنَ التَّأْخِيرِ.
وَلِأَنَّ مَوَاقِيتَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ قَوْلِهِ.
وَإِنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا رَمَى جِمَارَ أَيَّامِ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَمَا صَلَّى الظُّهْرَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَالْعِبَادَةُ الْمَفْعُولَةُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا تَصِحُّ بِخِلَافِ الْمَفْعُولَةِ بَعْدَ وَقْتِهَا.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ: " «إِذَا كَانَ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ بَاهَى اللَّهُ بِالْحَاجِّ» " فَمَنْ لَمْ يَقِفْ إِلَى الْعَشِيَّةِ لَمْ يُبَاهِ اللَّهُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْحَاجِّ.
وَلِأَنَّ الرَّمْيَ الْمَشْرُوعَ - بَعْدَ الزَّوَالِ -: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ، وَإِنْ جَازَ التَّأْخِيرُ عَنْهُ. فَالْوُقُوفُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ: عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ عَشِيَّةَ الْيَوْمِ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ: مَوَاقِيتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، فَجَازَ أَنْ يَجْعَلَهَا اللَّهُ مِيقَاتًا لِلْمَنَاسِكِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ صَدْرِ النَّهَارِ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ». وَقَضَاءُ التَّفَثِ بِالصَّلَاةِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَبِأَنْ يَقِفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ إِلَى جَمْعٍ فَوَقَفَ بِهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَقَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ. وَلَوْ كَانَ وَقْتُ الْإِجْزَاءِ بَعْدَ الزَّوَالِ لَقَالَ: "وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا، أَوْ نَهَارًا بَعْدَ الزَّوَالِ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|