
20-08-2022, 06:19 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,158
الدولة :
|
|
رد: القرآن وأمية بن أبي الصلت .. أيهما أخذ من الآخر ؟!
فصدِّقوا بلقاء الله ربكمُ
ولا يصدَّنكم عن ذكْره البطرُ  ••••
وقد ظنَّت طوائف المبشِّرين ممن فقَدوا رُشدهم وحياءهم أن بمستطاعهم الإجلاب على الإسلام ورسوله وكتابه بالباطل، فأخذوا يزعمون أن القرآن مسروق من شعر أمية بن أبي الصلت لهذه المشابهات، والواقع أن عددًا من كِبار دارسي الأدب الجاهلي، من المستشرقين قبل العرب والمسلمين، قد رأوا عكس هذا الذي يزعمه المبشرون، إذ قالوا بأن هذه الأشعار التي تُنسَب لأمية مما يتشابه مع ما ورد في القرآن عن خلْق الكون والسموات والأرض، وعن العالم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار، وعن الأنبياء السابقين وأقوامهم وما إلى ذلك، هي أشعار منحولة عليه، قال ذلك - على سبيل المثال - تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، و د. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود. عمر فروخ ود. شوقي ضيف ود. جواد علي وبهجة الحديثي من العلماء العرب، وإن كان من المستشرقين مع ذلك مَن يدَّعي أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قد أخذ بعض قرآنه من شعر هذا المتحنِّف؛ كالمستشرق الفرنسي كليمان هوار، ومنهم من قال: إن الرسول وورقة قد استمدَّا كلاهما من مصدر واحد.
وإلى القارئ تفصيلاً بهذا: فالمستشرِق الألماني كارل بروكلمان يؤكِّد أن أكثر ما يُروى من شعر أمية هو في الواقع منحول عليه، ما عدا مرثيَّته في قتلى المشركين ببدر، وأنه إذا كان كليمن هوار المستشرق الفرنسي قد زعم أن شعره كان مصدرًا من مصادر القرآن، فإن الحق ما قال تور أندريه من أن الأشعار التي نظَر إليها هوار في اتِّهامه هذا إنما هي نَظْمٌ جَمَع القصاص فيه ما استخرَجه المفسِّرون من مواد القصص القرآني، وأن هذه الأشعار لا بدَّ أن تكون قد نُحلت لأمية منذ عهد مبكِّر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، فقد سماه الأصمعي: "شاعر الآخرة"، كما أراد محمد بن داود الأنطاكي أن يفتتح القسم الثاني في الدينيات من كتابه: "الزهرة بأشعار أمية" (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربي/ ترجمة د. عبدالحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1/113)، يريد بروكلمان أن يقول: لولا أنه كان هناك شعر يدور حول الموضوعات الدينية التي ذكرناها قبلاً منسوب لأمية منذ ذلك الوقت المبكر لما أطلَق عليه الأصمعي هذه التسمية، ولما فكَّر الأنطاكي أن يورِد له أشعارًا دينية في كتابه المذكور، ويقول المستشرق براو كاتب مادة "أمية بن أبي الصلت" ب: الطبعة الأولى من "دائرة المعارف الإسلامية"، تعليقًا على اتِّهام هوار للقرآن بأنه قد استمدَّ بعض مواده من أشعار أمية: إن صحة القصائد المنسوبة لهذا الشاعر أمرٌ مشكوك فيه، شأنها شأن أشعار الجاهليين بوجه عام، وإن القول بأن محمدًا قد اقتبَس شيئًا من قصائد أمية هو زعم بعيد الاحتمال لسبب بسيط، هو أن أمية كان على معرفة أوسَع بالأساطير التي نحن بصددها، كما كانت أساطيره تختلف في تفصيلاتها عما ورد في القرآن، ثم أضاف أنه - وإن استبعَد أن يكون أمية قد اقتبَس شيئًا من القرآن - لا يرى ذلك أمرًا مستحيلاً، وهو يعلِّل التشابُه بين أشعار أمية وما جاء في القرآن الكريم بالقول بأنه قد انتشَرت في أيام البعثة وقبلها بقليل نزعاتٌ فكرية شبيهة بآراء الحنفاء استهوت الكثيرين من أهل المدن؛ كمكة والطائف، وغذتها ونشَّطتها كل من تفاسير اليهود للتوراة وأساطير المسلمين، ثم يخبِرنا براو بما توصَّل إليه تور أندريه من أنه ليس في قصائد أمية الدينية ما هو صحيح النسبة إليه، وأن هذا اللون من شعره هو من انتحال المفسِّرين (دائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 4/463 - 464)، وعند طه حسين أن "هذا الشعر الذي يُضاف إلى أمية بن أبي الصلت وإلى غيره من المتحنِّفين الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاؤوا قبله إنما نُحل نحلاً، نحله المسلمون ليُثبِتوا أن للإسلام قُدْمةً وسابقة في البلاد"؛ (في الأدب الجاهلي، دار المعارف، 1958م، 145)، ويرى الشيخ محمد عرفة أنه لو كانت هناك مشابهةٌ فعلاً بين شعر أمية والقرآن الكريم لقال المشركون، الذين تحدَّاهم الرسول بأن يأتوا بآية من مثله: إن أمَيَّة قد سبَق أن قال في شعره ما أورده هو في القرآن زاعمًا أنه من لدن الله، لكنهم لم يقولوا هذا، بل اتَّهموه بأنه إنما يعلِّمه عبد أعجمي في مكة، كذلك يؤكِّد أن شعر أمية لا يُشبه في نسيجه شعر الجاهلية القوي المحكَم؛ إذ هو شعر بيِّن الصَّنعة والضَّعف على غِرار شعر المولدين، ومن هنا كان هذا الشعر المنسوب لذلك المتحنِّف الطائفي هو شعر منحول عليه ومنسوب زورًا إليه (من تعليق الشيخ محمد عرفة على مادة "أمية بن أبي الصلت" في "دائرة المعارف الإسلامية: / 4/465).
أما د. عمر فروخ فيؤكِّد أن القِسم الأوفر من شعر أمية قد ضاع، وأنه لم يثبُت له على سبيل القطع سوى قصيدته في رثاء قتلى بدر من المشركين.
وبالمِثل نراه يؤكِّد أن كثيرًا من الشعر الديني المنسوب لذلك الشاعر هو شعر ضعيف النَّسج لا رونق له؛ (د. عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، ط (5)، دار العلم للملايين، 1948م/ 1/217 - 218)، ويرى د. شوقي ضيف أن المعاني التي يتضمَّنها شعر أمية مستمدَّة من القرآن بصورة واضحة، إلا أنه لا يرتِّب على ذلك أن يكون أمية قد تأثَّر بالقرآن، بل يؤكِّد أن الشعر الذي يحمِل اسمه هو شعر ركِيك مصنوع، نَظَمه بعض القصَّاص والوعاظ في عصور متأخِّرة عن الجاهلية، وردًّا على دعوى هوار بأن القرآن قد استمدَّ بعض مادته من أشعار أمية يقول الأستاذ الدكتور: إن ذلك المستشرِق لا عِلم له بالعربية وأساليب الجاهليين، وإلا لتبيَّن له أنها أشعار منحولة بيِّنة النحل، ولما وقَع في هذا الحكم الخاطئ؛ (د. شوقي ضيف، العصر الجاهلي: ط10، دار المعارف، 395 - 396).
ويؤكِّد د. جواد علي في كتابه "المفصَّل في تاريخ العرب" أن بعض أشعار أمية الدينية مدسوسة عليه، ومن ثم لا يمكن أن يكون أمية قد اقتبَس شيئًا من القرآن، وإلا لقام النبي - عليه الصلاة والسلام - والمسلمون بفضحه، وعلى هذا فهو أيضًا يرى أن شعره الذي يوافِق فيه القرآن إنما صُنع بعد الإسلام صُنعًا؛ لأنه ليس موجودًا في التوراة ولا في الإنجيل ولا غيرهما من الكتب الدينية، اللهم إلا القرآن الكريم، وأن أكثَرَه قد وُضع في عهد الحجاج تقرُّبًا إليه، وبخاصة أن شعره الديني يختلف عن شعره المدحي والرثائي وغيره، إذ يقترِب من أسلوب الفقهاء والمتصوِّفة ونُسَّاك النصارى، كما تكرَّرت إشارات الرواة إلى أن هذا الشعر أو ذاك مما يُعزى له قد نُسِب لغيره من الشعراء، ثم إنه قد مدَح الرسول - عليه السلام - كما أن في الشعر المنسوب له ما يدل على أنه قد آمن به، فكيف يتَّسِق هذا مع رثائه لقتلى بدر من المشركين؟ (المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/491 - 496)، أما بهجة عبدالغفور الحديثي فإنه يقسِّم شعر أمية الديني إلى قسمين: قِسم يظهر عليه أثرُ الحنيفيَّة وكتُب اليهود والنصارى، وقِسم يظهر عليه أثر القرآن، وهو يميل إلى أن يكون القسم الأول له؛ كما يظهَر من أسلوبه ومعانيه، أما الثاني فمنحول عليه؛ بدليل ما يبدو عليه من ركَاكة لغته وضعْف صياغته، ومن أسلوبه المستمدِّ من القرآن؛ (أمية بن أبي الصلت - حياته وشعره/ 127).
وقد بحثت عن طريق المشباك (النت) في كتب الأحاديث النبوية الشريفة عن روايات تذكر شيئًا من شعر أمية فلم أجد إلا ثلاثة أبيات له في مسند أحمد يتحدَّث فيها عن الشمس وعرش الله بما لم يأتِ شيء منه في القرآن، وأن الرسول - عليه السلام - قد صدَّقه فيها، وهذا نصها:
رجُل وثور تحت رجل يَمينه
والنسر لليسرى، وليثٌ مُرصَد
والشمس تطلُع كل آخر ليلة
حمراء يُصبِح لونها يتورَّد
تأبى فلا تبدو لنا في رَسْلها
إلا مُعذَّبة وإلا تُجلدُ 
كما جاء أيضًا في مسندي ابن ماجه وأحمد أن الشريد بن الصامت قد أنَشد النبي ذات مرة مائة بيت من شعر أمية، وكان كلما انتهى من إنشاد بيت قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((هيه))، يستحثُّه على الاستمرار في الإنشاد، ثم عقَّب - صلى الله عليه وسلم - في النهاية قائلاً: ((كاد أن يُسلِم))، وفي رواية أخرى في مسند أحمد أن النبي لم يعلِّق في نهاية الإنشاد بشيء، بل سكَت فسكت الشريد بدوره، وهذا كل ما هنالك، فلم نعرف من الحديث ما هي الأبيات التي أنشدها الصحابي الكريم على مسامع رسول الله، ولا مدى مشابهتها للقرآن، على أن ها هنا نقطة لا بدَّ من تَجْلِيتها قبل الانتقال إلى شيء آخر؛ إذ لا أظن الصحابي الجليل قد قصَد عدد المائة تحديدًا، فليس من المعقول أنه كان يعدُّ الأبيات التي كان يُنشِدها على مسامع النبي أولاً بأول وهو يتلوها، ذلك أمر غير متخيَّل، والأرجح بل الصواب الذي لا أستطيع أن أفكِّر في غيره أنه أراد الإشارة إلى أنه قد أَنشَد سيد الأنبياء عددًا غير قليل من الأبيات.
• كذلك رجعتُ إلى تخريجات القصائد المشابهة للقرآن الكريم التي قام بها بهجة الحديثي في رسالته عن أمية، فلفت انتباهي أن هذه القصائد، أو على الأقل الأبيات التي يوجد فيها ذلك التشابه، لم ترِد في أي من كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتبَرة؛ ككتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي، أو "طبقات الشعراء" لابن سلام، أو "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، أو "الأغاني" للأصفهاني، أو "تاريخ الرسل والملوك" أو "جامع البيان في تفسير القرآن" للطبري مثلاً، بل إن كثيرًا من هذه الأشعار لم ترِد في طبعة الديوان الأولى، فضلاً عن أن بعضها قد نُسب في ذات الوقت إلى غيره من الشعراء، ونقطة أخرى مهمَّة جدًّا: لماذا لم يُثِر علماؤنا المتقدِّمون قضية التشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم باستثناء محمد بن داود الأنطاكي، الذي كان يَردُّ - فيما يبدو - على من اتَّهم القرآن بالأخذ عن أمية بأن ذلك غير صحيح؛ لأنه - عليه السلام - لا يمكن أن يستعين في كتابه بشعر رجل أقرَّ بنبوَّته وصدَّق بدعوته، وأنه لو كان صحيحًا رغم ذلك لسارَع أمية إلى اتهام الرسول بالسرقة من شعره، وبذلك تسقُط دعوته - صلى الله عليه وسلم - بأيسر مجهود وأقلِّه؟ (الزهرة/ تحقيق د. إبراهيم السامرائي ود. نور حمود القيسي، ط2، مكتبة المنار، الزرقاء، 1406ه - 1985م/ 2/503)، لقد كان ابن داود الأنطاكي من أهل القرن الثالث الهجري، في حين أن صاحب "الأغاني" قد جاء بعده بقرن، فكيف اطمأن المتقدِّم وشكَّ المتأخر، أو فلنقل: كيف أورد المتقدِّمُ الشعر المنسوب لأمية، بينما لم يورِده الأصفهاني، الذي جاء بعده بقرن كما قلنا؟ والأحرى أن يكون الوضع بالعكس؛ حيث يكون المتقدِّم أقرب زمنًا إلى صاحب الشعر فيستطيع من ثم أن يَحسِم الحكم في مسألة نِسْبة الشعر إليه، على الأقل قبل تراكُم الروايات وازدياد صعوبة غرْبلتها وإصدار حُكْم بشأنها، بيد أن مِثل هذا الوضع لا غرابة فيه، فعندنا مثلاً ابن إسحاق وابن هشام اللذان اشتركا في كتابة " سيرة رسول الله": تأليفًا بالنسبة لابن إسحاق، ومراجعةً وتعليقًا وتنقية بالنسبة لابن هشام، وجاء الأول قبل الثاني بزمن غير قصير كما هو معروف، ومع هذا لم يمنعِ ابنَ هشام تأخُّرُ زمنه عن النظر في السيرة التي كتبها سلفُه، وإجالة قلمه فيما يرى أنه لا بدَّ من تغييره أو تصحيحه أو التعليق عليه بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للحق، مثلما فعَل عندما أنكَر على ابن إسحاق مثلاً إيراد أشعار لآدم وثمود والجن، بل لأفراد من قريش ذاتها ممن قال: إن أهل العلم لا يعرفون لهم شعرًا أصلاً، أو ينكرون ما يُنسَب إليهم من شعر، والمسألة بعدُ هي مسألة اختلاف في شخصية الباحث ما بين مطمئن يقبَل ما يروى له، ومدقِّق لا يقبل إلا بعد تمحيص وتقليب، وهكذا، ومعروف أن ابن سلام وابن قتيبة وأبا الفرج الأصفهاني هم من النُّقاد ومؤرِّخي الأدب القدماء المشهود لهم بالتمحيص والتنقيب وعدم قَبُول أي شيء على عِلَّاته، بينما لا يَزيد ما فعَله ابن داود الأنطاكي في كتابه" الزهرة" عن جمْع الأشعار وتنسيقها، إلا حين يعلِّق بكلمة هنا أو هناك تدور عادةً على شرح لفظة صعبة أو تحليل جانب من جوانب عاطفة الحب التي ألَّف كتابه عنها، إن هذا كله من شأنه أن يعضِّد القول الذي سمعنا كبار دارسي الأدب العربي من مستشرقين وعرب يردِّدونه من أن القصائد التي تتشابه مع القرآن من الشعر المنسوب لأمية هي في الواقع قصائد منحولة، ولقد نبَّهني هذا الاكتشاف إلى ما أحسَستُ به عند مراجعتي لديوان أمية مؤخَّرًا من أني لا أستطيع أن أتذكَّر قراءتي لأي من هذه الأشعار في الكتب التي أومأتُ إليها لتوِّي، وهذا هو السبب في أنني قد استبدَّ بي الاستغراب أثناء مُطالعتي لذلك النوع من قصائد أمية حين فكَّرتُ في الكتابة عن هذه القضية بالرغم من كثرة ما قرأتُ عن الرجل من قبل في "الأغاني" و"طبقات الشعراء" و"الشعر والشعراء" مثلاً، وكذلك في كتب تاريخ الأدب العربي التي ألَّفها باحثون معاصرون ممن تكلَّموا في هذه القضية، لكنهم لم يوردوا شيئًا من الأشعار محل الخلاف والمناقشة مكتفين بالكلام النظري فيها، وبالمِثل كان الانطباع الذي شعرتُ به بمجرَّد قراءة تلك الأشعار هو أنها أقرب إلى النَّظم الذي وضَع صاحبُه أمام عينيه آيات القرآن الكريم، وأخذ يجتهِد في تضمينها ما يَنظِم من أبيات: فالكلام مهلهل وغير مستوٍ، وفيه فجوات يملؤها الناظم بما يكمِّل البيت بأي طريقة والسلام، على عكس شعر أمية في رثاء قتلى المشركين ببدر مثلاً، أو مدائحه لعبدالله بن جدْعان، وغنيٌّ عن القول ألا وجْه لمقارنة هذا الشعر بأسلوب القرآن، وما يتَّسِم به من فُحولة وجلال وشدة أَسْر وسحر ينفُذ إلى القلوب نفوذًا غلابًا قاهرًا، وهو ما يجعل القول بتأثُّر شعر أمية بالقرآن لا العكس هو ما يُمليه المنطق، وتهَشُّ له العقول والضمائر إذا صحَّت نسبة هذه الأشعار له، ومع ذلك كله فلسوف أسلُك الطريق الصعب، فأفترِض أن تلك الأشعار محَل الخلاف هي أشعار صحيحة قالها أمية فعلاً، وأن الأحداث التي رافقت نَظْم هذه القصائد هي بالتالي أحداث صحيحة وقعت هي أيضًا.
• والآن لو تتبَّعنا أهم الأحداث في حياة المصطفى وأميَّةَ مما يتِّصِل بهذه القضية، فماذا نجد؟ أول كل شيء أن شاعرنا كان - كما جاء في الروايات التي تحدَّثت عنه - يتوقَّع أن يكون هو النبي المنتظَر، وأنه حين علِم أن النبوة تجاوزتْه لم يستطع صبرًا على المقام بالطائف على مقربة من الرجل الذي كان حُكم القدر أن ينزِل عليه وحي السماء، فأخذ ابنتَيه، وهرب إلى اليمن، ومعنى ذلك أنه هو الذي كان مشغولاً بمحمد لا العكس، وهذا أحرى أن يجعله متنبِّهًا لكل ما يتعلَّق بمحمد، وعلى رأسه القرآن، الذي كان يتمنَّى بخلع الضرس بل بفَقْء العين أن يكون هو النبي الذي يتلقَّاه ويُبلِّغه للناس، حرصًا منه على الشهرة والسمعة والمكانة بين قومه، جاهلاً في غمرة حماقته وحسَده الأسود العقيم أنَّ اللهَ - سبحانه وتعالى -: ï´؟ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ï´¾ [الأنعام: 124]، ومن المنطقي جدًّا - كما أومأنا - القول بأنه لم يستطِع أن يتجاهَل الرسول رُغم غيظه، بل قل: بسبب غيظه من عدم اختياره هو نبيًّا للعرب، وأنه كان يتصيَّد الآيات والسور التي تنزِل على الرسول، ويضَعها نُصْب عينَيه وهو يَنظِم شعره، جريًا على المَثل الشعبي القائل: "إن فاتك الميري تَمرَّغ في ترابه"، إنه" عبده مشتاق" الجاهلي، الذي يمكن أن نرى فيه رائدًا لنظيره في كاريكاتير جريدة "الأخبار" القاهرية، مع بعض التلوينات المختلفة هنا وهناك تبِعًا لاختلاف طبيعة الدور الذي يريد كل من هذين العبدَين أن يؤدِّيه والظروف التي يتحرَّك في نِطاقها! ولقد فاتته النبوَّة، فليُضمِّن نصوص وحيها إذًا شعره، فهذه أفضل من أن "يخرج من المولد بلا حمّص"! وهو حين يصنع هذا إنما كان يجري على عادته قبل سطوع بدر الإسلام من العكوف على الكتب الدينية السابقة والاقتباس منها فيما يَنظِم من أشعار، فهو إذًا لا يفترع طريقًا جديدًا حين يقتبِس من القرآن، بل يستمر في سبيله القديم، والطبع غلاب كما يقولون! ولا أدري في الواقع لماذا، بدلاً من هذا الهروب غير المُجدي من الطائف، لم يواجِه محمدًا، ويقول له في وجهه: إنه قد سبَقه في شعره إلى ما يقوله هو في قرآنه، وإن هذا دليل على أنه ليس نبيًّا حقيقيًّا، ومن ثم فهو أفضل منه، على الأقل من ناحية العلم والحكمة، ألم يكن هذا هو ما يقتضيه المنطق لو كان عند أمية ذلك الدليل القاهر الذي يلوِّح به بعض المستشرقين ويُتابِعهم عليه، في غباء لا يَليق بمن عنده مسكة من عقل، مبشِّرو آخر الزمان، ومن خلْفهم ذيول المسلمين الذين فقدوا كل معنى من معاني الكرامة والرجولة؟ ومن الواضح أن الرجل كان يحب الظهور بمظهر العالم الحكيم، هذا الوصف الذي وصَفه به خطأً بعضُ من ترَجموا له من القدماء؛ إذ لو كانت الحكمة من صفاته حقَّا لما ترك الحسد يُطوِّحه ويُقلقِله في بلاد العرب جنوبًا وشمالاً وشرقًا وغربًا كراهية أن يكون على مَقربة من الرجل الذي آثرتْه السماء عليه في مسألة النبوَّة (وإن ذكرتْ بعضُ الروايات، حسبما رأينا، أنه وفد عليه في مكة واستمَع إلى ما تلاه عليه من قرآن وقال كلامًا طيبًا في حقِّه)، ولأقبَلَ بدلاً من ذلك عليه يجمع قلبه وإخلاصه ما دام يرى أنه على الحق، كما يُشير إلى ذلك الشعر الذي يتحدَّث فيه قبل البعثة النبوية، عن حاجة البلاد لنبي يأخذ بيدها في طريق الهداية، وكذلك القصيدة التي قالها في مدحه - عليه الصلاة والسلام - والدِّين الذي أتى به، بيد أنه - لحظِّه التعيس - لم يحزِم أمره، وظل متردِّدًا يقترب بقلبه حينًا بعد حين من الدِّين الجديد، لكنه سَرعان ما تثور به عقارب الحقد فيبتعِد عنه إلى أن أقبَل أخيرًا في نوبة قوية بعض الشيء من نوبات يقظته الخُلُقية والروحية ليُعلِن إسلامه رسميًّا، فوقفت قريش في طريقه، وأخبرتْه بأن المسلمين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة وغيرهما من رجالات الطائف ممن كانوا يمتُّون إليه بواشجة القرابة، فما كان منه إلا أن لوى عِنان فرسه مبتعِدًا عن طريق النور والسعادة، حاكمًا بذلك على نفسه ببؤس المصير إلى الأبد، وهو ما يدل بأجلى بيان على أنه لم يحزم أمره يومًا، وهذه هي مشكلته المزمنة مع نفسه، فأين الحكمة هنا إذًا؟ أما العلم فإن نصيبه منه لا يخرج، فيما هو واضح، عن نقل النصوص والقصص من كتب الأمم السابقة إلى شعره دون الانتفاع الحق بها، فهو إذًا كالحمار يحمل أسفارًا، وإلا فلماذا لم يستفد بها في اتِّباع الحق الذي كان يؤمن به في أعماق قلبه، وفضَّل عليه الانحياز إلى الوثنية ممثَّلة في أقاربه الذين رثاهم ومجَّدهم حين سقطوا وهم يحاربون تحت رايتها ضد التوحيد، وزاد فشقَّ جيوبه عليهم وبكى وجدَع أنف ناقته كما كان يفعل أهل الجاهلية الجهلاء - حسبما ذكرت كتب السيرة وتاريخ الأدب؛ (د. جواد علي، المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6/479)، وهو الذي طالما صدَّع أدمغتنا من قبل بالحديث عن الحنيفيَّة؟ ولنُقارن بين موقفه هذا وموقف النبي - عليه السلام - حين أسلَم وحشي قاتِل عمه الغالي وأخيه من الرَّضاع حمزة بن عبدالمطلب، وكذلك هندٌ آكلة الأكباد ومدبِّرة مقتله المأساوي - رضي الله عنه - لقد قَبِلهما النبي في دينه، وكأن شيئًا لم يكن، رُغم الجُرْح الغائر الذي خلَّفه موت سيد الشهداء في قلبه، وذلك نزولاً على مبدئه العظيم القائل بأن ((الإسلام يجُبُّ ما قبله))، أو لماذا لم يقُمْ هو بالدعوة إلى ما كان يؤمن به (حسبما نقرأ في الشعر المنسوب إليه)، ولو في أضيق نطاق بين قومه في الطائف فقط ما دام ادِّعاء النبوة سهلاً إلى هذا الحد كما فعَل محمد، الذي لم يكن قارئًا كاتبًا مثله؟ فانظر وقارن يتبيَّن لك الفرق بين النبوة والحسد الذي يأكل قلب صاحبه أكلاً فلا يتركه يهنأ بحياته أبدًا!
أما المحطة الثانية التي نحب أن نقف عندها فهي ذَهاب رسول الله إلى الطائف حين شعر أن مكة تستعصي على دعوته بغباء غريب ما عدا القليلين الذين دخلوا في دعوته رُغم التضييق والعَنَت الشديد والأذى المتواصِل، فحسب أن الطائف قد تكون أحسن استقبالاً للدين الجديد، لكن أهلها للأسف لم يكونوا أفضل حالاً من قومه في مكة، ترى لو كان أميَّةُ قد سبَق القرآن إلى تناول الموضوعات التي نقرؤها في ذلك الكتاب بنفس الألفاظ والعبارات في كثير من الأحيان، ومن ثم أخذ محمد بعض قرآنه من شعره، أكان يفكر مجرد تفكير في السفر إلى بلد ذلك الشاعر معرِّضًا نفسه للسخرية والاتهام من جانب أهلها بدلاً من إقبالهم عليه ودخولهم في دينه؟ إنه إذًا لـ: "كالمستجير من الرمضاء بالنار" كما جاء في أمثال العرب، أو كمن "جاء يكحلها فأعماها" كما يقول المثل الشعبي! ولم يكن الرسول يومًا بالشخص الذي يمكن أن يقع في مِثل هذا التصرف الأخرق العجيب، بل لم يتَّهِمه أحد من أعدى أعدائه بشيء من ذلك قط! ثم فلنفترِض بعد هذا أنه قد ارتكَب هذا التصرف الأحمق (وأستغفِر الله العظيم على هذا التعبير الذي اقترفتُه لأكون في غاية السماحة مع "الأنعام" الذين لهم قلوب لكن لا يعقلون بها، ولهم أعين لكن لا يُبصِرون بها، ولهم آذان لكن لا يسمعون بها!)، فكيف فات الطائفيين الأمر فلم يُجابِهوه ويجبهوه بهذه السرقة التي كانت كفيلة بقصم ظهر الدعوة التي أتى بها بدلاً من إغرائهم صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم بمطاردته بالحجارة في شوارع المدينة حتى أخرجوه منها منتهكِين بتصرُّفهم الوحشي هذا ما توجِبه التقاليد العربية الراسخة القاضية بإكرام الضيف الوافد، واضطرُّوه إلى اللجوء إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة حيث قابَل هناك خادمهما عداس، الذي قدَّم له قطفًا من العنب يتقوَّت به، ويُزيل عن نفسه التعب، ثم أقبَل عليه في حب وإجلال حين رآه يسمِّي الله قبل الطعام وعرَف شيئًا عن دينه على ما هو معروف لقارئي السيرة النبوية؟
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|