عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 25-08-2022, 06:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,416
الدولة : Egypt
افتراضي سيميوطيقا الثقافة ( يوري لوتمان نموذجا )

سيميوطيقا الثقافة ( يوري لوتمان نموذجا )


د. جميل حمداوي



المقدمة:

تناولت السيميوطيقا (La Sémiotique) مجموعة من المواضيع بالتفكيك والتركيب، ودراسة الدوال والعلامات والسيميوزيس، بغية بناء المعنى العميق، وتحصيل الدلالة الثاوية وراء السطح، ومن أهم هذه المواضيع: الفعل، والذات، والوجدان، والتوتر، والثقافة، والفضاء، والزمان، والشخصية، والصورة، والإشهار، والأسلوب، والنص، والفن، والتأويل، ووسائل الإعلام...



وما يهمنا في هذه الدراسة هو التوقف عند سيميوطيقا الثقافة التي تعنى بدراسة الأنظمة الثقافية الخاصة والكونية، واستجلاء مظاهر المثقافة والتهجين والتعددية، ورصد أنظمة التواصل عند الشعوب البدائية والمتحضرة.



إذاً، ما سيميوطيقا الثقافة أو الثقافات؟ وما أهم المراحل التي عرفتها الدراسات الثقافية؟ وما أسس سيميوطيقا الثقافة مع يوري لوتمان (Yori Lotman) نظرية وتطبيقا ومنهجية؟ هذا ما سوف نتعرفه عبر العناصر التالية:



مفهوم سيميوطيقا الثقافة أو الثقافات:

نعني بسيميوطيقا الثقافة أو الثقافات (Sémiotique de la culture) دراسة الأنظمة الثقافية باعتبارها دوالا وعلامات وأيقونات وإشارات رمزية لغوية وبصرية، بغية استكناه المعنى الثقافي الحقيقي داخل المجتمعي، ورصد الدلالات الرمزية والأنتروبولوجية والفلسفية والأخلاقية. ولا تقتصر هذه السيميوطيقا على ثقافة واحدة أو خاصة، بل تتعدى ذلك إلى ثقافات كونية تتسم بطابع عام، قوامها: الانفتاح، والتعايش، والتواصل، والتكامل، والتعددية، والتهجين، والاختلاف، والتنوع، والتسامح، والتعاون، والمثاقفة، وتداخل النصوص (التناص)، وتعدد اللغات والثقافات...



ومن جهة أخرى، تهتم سيميوطيقا الثقافة بخصوصيات كل ثقافة مستقلة داخل نظام سيميائي كوني. وتعنى أيضا بالعوالم والأقطاب الثقافية الصغرى والكبرى ضمن ثنائية المركز والهامش، والاهتمام بالحوار في علاقته بالصراع الثقافي. ومن ثم، تقدم لنا سيميوطيقا الثقافة و الثقافات المبادئ النظرية والأدوات المنهجية لمقاربة الظواهر والأنظمة الثقافية، بغية البحث عن مبدأ الكفاءة، والبعد التواصلي، والخاصية الإبداعية. علاوة على دراسة مبدإ التبادل في الأوساط الثقافية، مثل: تبادل المعارف الأكاديمية والمهارات الاحترافية والممارسات المهنية..



وهناك قضايا مهمة شتى يمكن أن تشتغل عليها سيميوطيقا الثقافة، مثل: الإبداع، والآداب، واللغة، والفن، والفلكلور، والترجمة، والأدب المقارن، والتواصل، وعلاقة الأنا بالآخر، وأدب الصورة، وأدب الرحلة...



دراسات حول الثقافة:

يمكن الحديث عن أنواع ثلاثة من المقاربات التي تناولت موضوع الثقافة بالدرس والتحليل والاستكشاف، ويمكن حصرها في ما يلي:



• المقاربة الفلسفية:

لقد كانت الدراسات الثقافية، في بداية أمرها، خاضعة للتصورات الفلسفية؛ و الدليل على ذلك التقابلات الأنتروبولوجية بين العناصر، مثل: التقابل بين الطبيعة والثقافة، حيث تتميز الطبيعة بمجموعة من السمات، مثل: الحرية، والفوضى، والبدائية، والتوحش، والعنف، والعدوان... في حين، تتسم الثقافة بمجموعة من الخصائص المميزة، مثل: القانون، والعقل، والمنطق، والمجتمع، والحضارة، والمدنية، والتعاقد، والانضباط، والالتزام...



هذا، ويعد كلود ليفي شتروس (Claude Lévi- Strauss) من الأنتروبولوجيين الأوائل الذين درسوا علاقة الثقافة بالطبيعة، ضمن أنظمة الأبوة وإنتاج الأساطير[1]. وكان هدفه هو البحث عن الانسجام الدلالي لأنظمة الأبوة، مستلهما في ذلك كثيرا من الأعمال الأنتروبولوجية الأنگلوسكسونية وأبحاث المدرسة السوسيولوجية الفرنسية، سيما دراسات مارسيل موس (Marcel Mauss) ومارسيل كراني (Marcel Granet). ومن ثم، فقد بين كلود ليفي شتروس كيف انتقل الإنسان من الطبيعي نحو المجتمعي والثقافي. كما درس البنيات المعقدة والمركبة لظاهرة الأبوة. كما خصص أربعة أجزاء، من كتابه (الميثولوجيات )، لدراسة الحكايات الأسطورية في ضوء المنهج البنيوي، على غرار الشكلاني الروسي فلاديمير بروب (Vladimir Propp). وعلى العموم، لقد انصبت أعمال كلود ليفي شتروس على رصد الثوابت والمتغيرات والتحولات في بنية الأساطير. وبالتالي، تندرج هذه الدراسة التحليلية ضمن المنهج المقارن، مادام هذا البحث يقارن الأساطير التي تتضمنها العينة التي يشتغل عليها، من خلال البحث عن المشترك والمختلف. ويرجع تأسيس الدراسة المقارنة، في مجال الأسطورة، إلى ماكس مولر(MAX MÜLLER) الذي كان رائدا في هذا الميدان بكتابه (مدخل إلى الميثولوجيا المقارنة) سنة 1859م، وقد طورها جورج دوميزيل (Georges Dumézil)، وبالضبط في أعماله المنجزة حول الأساطير القديمة (1942-1947)، وحول إيديولوجيا الشعوب الهندية -الأوروبية القديمة (1958م).



• المقاربة اللسانية:

انتقلت الدراسات الثقافية من طابعها الفلسفي المبني على التقابلات الأنتروبولوجية إلى الطابع العلمي الموضوعي، من خلال تحويل المعطيات الثقافية إلى مواضيع للدراسة العلمية. ويعني هذا الانتقال الثقافي، مما هو فلسفي وفكري إلى ما هو علمي موضوعي، أن الدراسات الثقافية قد حققت تقدما كبيرا على مستوى المنهج والتصورات النظرية والتطبيقية. وقد استفادت، بشكل خاص، من المناهج الوصفية ذات الطابع العلمي الدقيق. ومن ثم، فلقد أصبحت النصوص الأسطورية، والملحمية، والفلكلورية، وغيرها من النصوص الثقافية، ميدانا للتحليل اللساني والبنيوي والشعري والمورفولوجي، كما يؤكد ذلك الباحث الفرنسي فرانسوا راستيي [2]، (François Rastier) وبالضبط مع مجموعة من الباحثين، مثل: فرديناند دوسوسير(F. DE. Saussure)، وشتاينال(Steinthal)، وبريال(Bréal)، ودوميزيل(Dumézil)، ورودولف إنجلر (Rudolf Engler)..



وإذا كانت اللسانيات هي بمثابة سيميولوجيا عامة للغات والنصوص والخطابات، فإن سيميوطيقا الثقافة هي جزء من تلك اللسانيات أو السيميولوجيا العامة.



• المقاربة السيميوطيقية:

لم تتبلور سيميوطيقا الثقافة أو الثقافات بشكل جلي إلا مع مدرسة تارتو (Tartu) - موسكو التي كان يمثلها كل من: إيفانوف (Ivanov)، وأوسبنسكي(Ouspenski)، ولوكموتسيف(lekomcev)، ولوتمان(Lotman)، وغيرهم...



ويعد يوري لوتمان (Youri Lotman) من أهم الشكلانيين الروس الذين اهتموا بسيميوطيقا الثقافة، علاوة على عنايته ببنية النص الفني، خاصة أنه كان عضوا مهما في مدرسة تارتو (Tartu) بموسكو، ومن أهم كتبه: (سيمياء الكون)[3]، و(انفجار الثقافة)[4]، و(بنية النص الفني).. [5].



ومن هنا، فقد اقترن اسمه بسيمياء الكون (La Sémiosphère) (1999م). ويعني هذا المفهوم الفضاء السيميويطقي المعقد والمركب الذي تشغله ثقافة ما. وبالتالي، يمكن التعامل مع مجموع الثقافة مثل نص أو خطاب ما. كما يتفرع هذا النص المركب إلى نصوص فرعية متناسلة ومنقسمة بطريقة تراتبية وطبقية. بمعنى أن كل نص ثقافي ينقسم إلى نصوص، ويتفرع كل نص بدوره إلى نصوص أخرى، وهكذا دواليك... ومن ثم، تأبى الديناميكية الثقافية الانعزالية، والانغلاق، والسلبية في تلقي التأثيرات الخارجية، دون المساهمة في التفاعل والعطاء والتبادل الثقافي. ومن ثم، فالسيميوطيقا الثقافية هي سيموطيقا مقارنة واختلافية وتعددية. ويعني هذا أن لوتمان قد تأثر كثيرا بفلسفات مابعد الحداثة، سيما فلسفة الاختلاف لدى جاك ديريدا (Jacques Derrida). ويعني هذا أن الثقافة لا يمكن فهمها إلا ضمن نطاق فضاء المثاقفة الكونية أو العالمية، وضمن مسار الثقافات القديمة والمعاصرة على حد سواء.



وثمة دراسات سيميوطيقية معاصرة أخرى تندرج ضمن سيميوطيقا الثقافة كتلك التي أشرف عليها كل من: فرانسوا راستيي (F. Rastier) وسيمون بوكيه (Simon Bouquet) تحت عنوان (مدخل إلى علوم الثقافة)، وقد قدمت منظورا جديدا حول البرامج المعاصرة المتعددة الاختصاصات، خاصة تلك التي تهتم بالعلوم المعرفية والعلوم الثقافية، ضمن أنتروبولوجيا سيميوطيقية تعنى بالمواضيع الثقافية من وجهة علاماتية.



وعليه، تستفيد سيمياء الكون، عند يوري لوتمان، من علوم الثقافة والأنتروبولوجيا، والإثنولوجيا، وعلم الحفريات، واللسانيات التاريخية والمقارنة، وعلم الأخلاق الإنسانية... ومن ناحية أخرى، تستفيد هذه السيميويطقا من لسانيات فرديناند دي سوسير (F. De Saussure). ومن ثم، ترتبط بخاصتين أساسيتين هما: الاستقلالية والتداخل، وهما المولدتان لمختلف الأنظمة الثقافية داخل النظام الكوني. ويعني هذا أن نقل التراث الثقافي السيميوطيقي يتميز بالتداخل أو بالاستقلالية، ودراسة مختلف التطبيقات العملية والتقنية في نقل الموروث الثقافي. ومن ثم، لايعيش الإنسان في محيط مادي فقط، بل يعيش في فضاء ثقافي رمزي، يتكون من اللغة، والأدب، والفن، والدين، والأسطورة، والمخيال... وكلما تطورت الوظيفة الثقافية الرمزية تراجعت الوظيفة المادية. ومن ثم، يتوسط العالم السيميوطيقي عالمين متقابلين: عالما فيزيائيا (الواقع)، وعالما خياليا رمزيا (الإبداع).



هذا، ولاتنتج دلالة النص الثقافية إلا حين التقاء الإنتاج مع التلقي والتأويل. وبالتالي، تعد النصوص المؤسسة الثقافية الأولى. وبالتالي، تساهم اللسانيات والمقاربات التأويلية الدلالية في تفكيك هذه النصوص بنية ودلالة ومقصدية. ومن ثم، يرتبط كل نص باللغة والمجتمع ومؤسسة الجنس الأدبي.



سيمياء الكون بين النظرية والتطبيق:

تنبني سيمياء الكون أو سيمياء الثقافة أو الثقافات، عند يوري لوتمان، على مجموعة من المفاهيم النظرية والتصورات المنهجية والمصطلحات الإجرائية التي يمكن حصرها في ما يلي:



مفهوم سيمياء الكون:

يتكون مفهوم سيمياء الكون (La Sémiosphère) من مصطلح السيميوطيقا الذي يعني علم العلامات والإشارات، ومصطلح (Sphère) الذي يعني الكون أو المجال الواسع. ومن ثم، يمكن ترجمة المفهوم بالسيميوطيقا المجالية أو الفضائية أو الكونية، ويترجمه الباحث المغربي عبد المجيد النوسي بسيمياء الكون[6].



وتستوجب هذه السيميوطيقا وجود فضاء كوني عام، يتضمن عدة لغات وثقافات مختلفة متفاعلة فيما بينها إيجابا وسلبا. ومن ثم، فالبنيتان الزمانية والمكانية هما أساس حياتنا الثقافية ضمن سيمياء الكون. بمعنى أن سيمياء الكون تنبني على وجود لغات ثقافية متعددة ومختلفة، تنقسم بدورها إلى محورين: محور أفقي يمثل الزمنية (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، ومحور عمودي يمثل الفضاء (الداخل، والخارج، والحدود). وتشكل هذه اللغات أساس السيميوطيقا الكونية لدى لوتمان. ومن ثم، تتميز السيميوطيقا الكونية بتداخل اللغات وتواصلها وتفاعلها، على الرغم من استقلالية كل لغة على حدة بمكوناتها اللسانية والثقافية الخاصة. وأكثر من هذا، فلا وجود للوحدة الكونية إلا بالاختلاف البناء، وتمثل حوار الحضارات، والإيمان بتعدد اللغات والثقافات.



فإذا أخذنا صالة المتحف - مثلا-، فإنها تشتمل على مجموعة من اللوحات الفنية التي تعبر عن عصور وسياقات واتجاهات فنية متنوعة، وتتكلم بلغات شتى، كما تخضع زيارة المتحف لأنساق سلوكية مختلفة. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فهناك وحدة ما تجمع بين هذه العناصر والمظاهر تتمثل في وحدة المكان، وهي صالة المتحف.



ومن هنا، يتأسس الانسجام، في سيميوطيقا الكون، على وجود قانون الثنائيات البنيوية المتعارضة (يمين ويسار، وأسفل وأعلى)، وقانون اللاتماثل. ويعني هذا أن سيميوطيقا الكون قائمة على مبدأي الاختلاف واللاتماثل في مظهرهما العام. كما تتضمن هذه السيميوطيقا مجموعة من العناصر البنيوية المتعارضة الدالة.



وعليه، تشبه السيميوطيقا الكونية ما يسمى بالكون الحيوي الذي تحدث عنه الفيزيائي الروسي فيرنادسكي(Vernadsky). بمعنى أن الكون السيميائي يضم مجموعة من اللغات والأنساق التواصلية المختلفة القائمة على التفاعل والتحاور والتناص. ومن ثم، فالكون السيميائي هو فضاء لذلك الالتقاء والتفاعل والتواصل الدائم. ويرى لوتمان أن السيميوطيقا مبنية على التواصل والسيميوزيس والتجارب السيميائية للذوات. ومن ثم، فالكون السميائي هو الفضاء الوحيد للتواصل والتفاعل بين اللغات، وفي مظانه يتحقق الإخبار والإعلام والتواصل. ومن ثم، يمكن الحديث عن ثقافة بشرية مشتركة وكونية. علاوة على ذلك، تقوم السيميوطيقا الكونية على الثنائيات البنيوية واللاتماثل اللذين يحققان التماسك السيميوطيقي. ومن ثم، تنقسم اللغات والثقافات - بنيويا - إلى ثنائيات غير متماثلة. وهناك أيضا تعدد الأنساق الثقافية ضمن نسق سيميوطيقي معين، وتعدد للغات التي تتطور وتتفرع مركزا وهامشا. وبالتالي، لا يمكن للغة أن تشتغل إلا في فضاء ثقافي سيميائي معين. وفي هذا الصدد، يرى لوتمان بأن " كل لغة تجد نفسها غارقة داخل فضاء سيميوطيقي خاص، ولا يمكن أن تشتغل إلا بالتفاعل مع هذا الفضاء... هذا هو الفضاء الذي نصطلح عليه "بسيمياء الكون". [7].



إذا، يتحدث لوتمان عن الفضاء الثقافي الكوني الذي يرفض الانعزال والانغلاق والأحادية. فالكون هو الفضاء الحيوي الملائم لتطور الثقافة واستمرار حياة الذوات والأغيار. وقد كتب فيرنادسكي:" كل المجموعات الحية تعد مرتبطة، حميميا، البعض بالآخر. لايمكن للواحدة أن توجد بدون الأخريات. هذه العلاقة الثابتة بين مختلف المجموعات وطبقات الحياة، تعد أحد المظاهر التي لاتطمس للآلية الفاعلة داخل القشرة الأرضية، والتي تمظهرت على طول الزمن الجيولوجي. "[8].



تثبت هذه القولة وجود ترابط حميم بين الكائنات الحية، وأن هذه الكائنات لايمكن أن تعيش في معزل عن الأخرى. ويعني هذا أن التفاعل هو أساس الكائنات العضوية، وأن الانعزال صفة مشينة في هذا الكون الحيوي. وقد يتجاوز هذا التفاعل الحيوي والاجتماعي والطبقي الإنسان والكائن الحي إلى ماهو جيولوجي على صعيد القشرة الأرضية. بمعنى أن الإنسان بنية جزئية توجد داخل الطبيعة أو الكون الطبيعي، وتنتمي إلى هذا المجموع، وتتحرك فيه ضمن علاقة عضوية حيوية مع مختلف العناصر والبنيات التي توجد في النسق الكلي نفسه. أما عن العلاقات التي توجد بين الإنسان وباقي المجال الحيوي، فهي علاقات تفاعلية وتواصلية متنوعة، قد تكون موجبة أو سالبة. وتتحدد هذه العلاقات في الزمان والمكان معا. ومن هنا، فالإنسان لا يمكن أن يعيش إلا في فضاء كوني حيوي مع الكائنات الأخرى، سواء أكانت بشرية أم غير بشرية. وبالتالي، لا يمكن للإنسان الطبيعي أن ينعزل عن هذا الفضاء الثقافي الكوني العام الذي ينصهر فيه الجميع تفاعلا وتعايشا وإبداعا وتواصلا.



• مبدأ اللاتجانس:

يوحي اللاتجانس بالتعددية والاختلاف وعدم التماثل والتوازي. بمعنى أن هذا الكون يتضمن لغات وأنساقا ثقافية مختلفة، تترابط فيما بينها، وتتعدد بنية ودلالة ووظيفة. وبالتالي، يشتمل هذا الكون على تجارب سيميائية مختلفة وبنيات لغوية متعددة. وعلى الرغم من هذا التعدد، فهناك ترابط وأواصر جامعة بين هذه اللغات، وخير دليل على هذا الترابط ما تقوم به الترجمة من نقل للمعاني والتجارب السيميائية من لغة إلى أخرى. وفي الآن نفسه، تصبح هذه الترجمة عاجزة عن نقل ذلك بأمانة؛ بسبب اختلاف النسق السيميائي واللساني والثقافي من لغة إلى أخرى. وفي هذا الصدد، يقول يوري لوتمان:" سيمياء الكون موسومة باللاتجانس. تعد اللغات التي تملأ الفضاء السيميوطيقي متنوعة ومترابطة ببعضها البعض على طول طيف يذهب من إمكانية كاملة ومتبادلة للترجمة إلى استحالة كاملة ومتبادلة أيضا للترجمة. يتحدد اللاتجانس، في ذات الحين، بتعدد العناصر التي تكون سيمياء الكون وباختلاف الوظائف التي تنجزها هذه العناصر. هكذا، إذا قمنا بتجربة ذهنية نتخيل من خلالها نموذجا لفضاء سيميوطيقي رأت فيه كل اللغات النور في اللحظة ذاتها ونفسها، وتحت تأثير الاندفاعات نفسها، لا نحصل دائما على بنية ذات سنن موحد، ولكن على مجموعة من الأنساق المترابطة والمختلفة. "[9].



ومن ثم، تتعرض اللغات، مثل الموضات، للتغير والتطور والتجديد. فإذا كان التطور البيولوجي والتقني يتعرض للمحو والانقراض، وسيطرة الجديد، فإن الأشكال الثقافية تموت وتتجدد حسب العصور. بمعنى أن موضة ما قد تنقرض في زمن ما، لكن يمكن أن تظهر من جديد في فترة أخرى، لتتخذ صفة الحداثة والتميز. وفي هذا، يقول لوتمان:" يتضمن التطور البيولوجي انقراض بعض الأنواع والانتقاء الطبيعي: لا يرى الباحث سوى الكائنات الحية التي تعاصره. ظاهرة مماثلة تقع في تاريخ التكنولوجيا: حينما تصبح أداة ما متجاوزة وباطلة بفعل التقدم التقني، فإنها تدخل مرحلة " التقاعد" داخل متحف مثل قطعة أثرية. لقد توقفت، إذا أردنا القول، عن الحياة. في تاريخ الفن، على العكس من ذلك، الآثار الفنية التي تصلنا من حقب ثقافية غارقة في القدم تستمر في لعب دور داخل تطورنا الثقافي الخاص مثل عوامل حية. أثر فني ما يمكن أن يموت ثم يعود إلى الحياة؛ بعدما أن تم الحكم عليه بأنه متجاوز، يمكن أن يعود ليصبح متسما بالراهنية، بل تنبؤياً حينما يتحدث عن المستقبل. إن ما هو وظيفي ليس الطبقة الزمنية الأكثر حداثة، ولكن كلية التاريخ التي تحتويها النصوص الثقافية. "[10].



وتأسيسا على ما سبق، تتميز سيمياء الكون بالاختلاف العام على مستوى اللغات والنصوص والخطابات والأفضية والثقافات. بيد أن هذا الاختلاف قد يساهم في تحقيق البعد التواصلي والديناميكية الثقافية التي لاتقبل الانعزال والانغلاق والتطرف والانطواء على الذات.



مبدأ الثنائيات الضدية:

تتأسس سيميوطيقا الفضاء الكوني، عند يوري لوتمان، على مجموعة من الثنائيات البنيوية المتعارضة والمتقابلة، مثل: يمين/يسار، وأمام/خلف، وأعلى /أسفل...وتحمل هذه التقابلات أبعاداً ثقافية وعقدية وقيمية واجتماعية...



وعلى العموم، هناك تقابلات ثقافية بين اليمين واليسار، بين الأموات والأحياء، بين المذكر والمؤنث، بين الأعلى والأسفل...وفي هذا المنحى، يقول لوتمان:" يعد لاتناظر الجسم البشري القاعدة الأنتروبولوجية لعملية منحه بعدا سيميائيا: سيميوطيقا اليمين وسيميوطيقا اليسار يمكن أن توجد كونيا في الثقافات البشرية كما هو الأمر بالنسبة لتقابل الأعلى والأسفل. اللاتناظرات العميقة للمذكر والمؤنث، للأموات والأحياء، هي أيضا منتشرة. التقابل حي/ميت يتضمن تقابل شيء ما يتحرك، شيء ساخن، يتنفس، بشيء غير متحرك، أو بارد لا يتنفس. "[11].



ومن هنا، تتأسس سيمياء الفضاء الكوني على وضع تيبولوجية لمختلف التعارضات البنيوية على مستوى الفضاء، وهي المسؤولة عن توليد الدلالة من جهة، وتحقيق السيميوزيس من جهة أخرى.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.62 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]