
25-08-2022, 06:04 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,489
الدولة :
|
|
رد: سيميوطيقا الثقافة ( يوري لوتمان نموذجا )
سيميوطيقا الثقافة ( يوري لوتمان نموذجا )
د. جميل حمداوي
• مفهوم النص:
يتخذ النص، عند يوري لوتمان، بعداً سيميائياً وثقافياً قائماً على الحوارية وتداخل النصوص داخل كون سيميائي معين، أساسه التفاعل والانفتاح والتجاور والحوار. وفي هذا الصدد، يقول لوتمان: "يتم انتقال النصوص في الواقع في كل الاتجاهات، تيارات كبيرة وصغيرة تتقاطع وتترك آثارها الخاصة. بشكل متزامن، تجد النصوص نفسها موصولة ليس بواسطة واحد، ولكن بواسطة عدد كبير من مراكز سيمياء الكون، وسيمياء الكون الحقيقية تعد متحركة داخل حدودها الخاصة. تحدث هذه السيرورات نفسها في نهاية الأمر على مستويات متعددة: المراحل التي يغزو فيها الشعر النثر، تتناوب والمراحل التي يغزو فيها النثر الشعر؛ إنها مراحل توتر متبادل بين الدراما والرواية، بين الثقافة الشفوية والثقافة المكتوبة، بين الثقافة العالمة والثقافة الشفوية. مركز واحد، والمركز نفسه، لسيمياء الكون، يمكن في ذات الوقت أن يكون فاعلا ومتلقيا، فضاء واحد، الفضاء نفسه، لسيمياء الكون، يمكن أن يكون في الوقت نفسه المركز والهامش؛ تؤدي عناصر الجذب إلى الرفض، وتولد عناصر الدخيل أصالة سيمياء الكون. لا تتعامل سيمياء الكون (الفضاء الثقافي) وفق خطاطات مرسومة سلفا، ومحسوبة سلفا، إنها تشع مثل شمس، مراكز للنشاط تغلي على مستويات مختلفة، في العمق وعلى السطح، ناشرة الأشعة على مناطق هادئة نسبيا بطاقتها القوية. غير أن هذه الطاقة الخاصة بسيمياء الكون هي طاقة الإخبار، إنها طاقة الفكر. ""[12].
وعلى العموم، الثقافة عبارة عن نص متعدد ومركب ومعقد، تتداخل فيه النصوص والخطابات تناصا وحوارية وتفاعلا وامتصاصا.
• الفضاء الثقافي الكوني:
ترتبط سيميوطيقا الثقافة، عند يوري لوتمان، بالفضاء الكوني الذي تندرج فيه، فلكل ثقافة كونها السيميائي الخاص والعام، وقد يكون هذا الفضاء المتخيل واقعيا أو مجردا أو محتملا أو مفترضا أو ممكنا. ومن ثم، فسيميوطيقا الفضاء" لها أهمية استثنائية، وربما حاسمة في تمثيل العالم الخاص بثقافة معينة. وترتبط هذه اللوحة للعالم بخصوصيات الفضاء الواقعي. ليكون لثقافة ما تأثير في الحياة، يجب أن تتصور تمثلا عميقا للعالم، نموذجا مكانيا للكون. تعيد النمذجة المكانية بناء الشكل المكاني للعالم الواقعي. غير أن الصور المكانية يمكن أن تستعمل بصور مختلفة. [13]".
ومن ثم، يمكن الحديث عن فضاءات نصية وثقافية متعددة تنتمي إلى سيمياء الكون، مثل: الفضاء المجرد، والفضاء الواقعي، والفضاء الأسطوري، والفضاء الفانطازي، والفضاء الجغرافي...
• الفضاء الجغرافي:
تناول لوتمان أشكال الفضاء الثقافي، فقسمه إلى فضاء جغرافي، وفضاء ثقافي، وفضاء كوني.... ومن ثم، ينبني الفضاء الجغرافي، في العصر الوسيط، على التقابل بين الأرض والسماء، أو بين حياة الأرض و حياة العالم الآخر، أو بين الحياة الأرضية والحياة السماوية، أو بين البقاع الطاهرة والبقاع الآثمة، بل هناك تقابل بين الفضاء (الأرض) واللافضاء (الآخرة). ويعني هذا أن الفضاء الجغرافي يتخذ، في العصور الوسطى، بعدا دينيا وأخلاقيا وروحانيا، ويتسم الاتجاه القيمي لهذا الفضاء بكونه عموديا، يتحرك من الأسفل نحو الأعلى. ويعني هذا التحرك أن الروحاني يسمو على ماهو دنيوي وأرضي. وبالتالي، يعتبر رجال الدين أن ماهو سماوي هو الأسمى والأعلى، على الرغم من كونه يجري خارج الفضاء، ويتخذ طابعا مثاليا خالصا؛ لأن " التحرك داخل الفضاء الجغرافي يدل على التحرك على طول السلم العمودي للقيم الدينية والأخلاقية. تتكون قمة السلم من السماء، وتتكون قاعدته من الجحيم. [14]".
ومن هنا، ترتبط الأخلاق بالأمكنة، وتتخذ الأمكنة دلالات أخلاقية. " لذا، فقد "أصبحت الجغرافيا شكلا من أشكال الأخلاق". [15].
وفي العصور الوسطى، كثرت الكتب التي تعنى بتصوير الفضاء العلوي المقابل للفضاء السفلي. ومن هنا، فقد اتخذ الفضاء بعدا جغرافيا وأخلاقيا، فكثرت الأسفار من الأرض إلى الجنة والجحيم، مثل: (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، و(الكوميديا الإلهية) لدانتي،. وفي هذا الصدد، يقول لوتمان:" باتفاق مع هذه الأفكار، كان رجل العصور الوسطى يعتبر السفر داخل الفضاء الجغرافي مثل انتقال المعنى الديني والأخلاقي للكلمة:البلدان كانت تصنف مثل بلدان بدع وثنية أو بلدان قداسة. المثل الاجتماعية- كما هو الأمر بالنسبة لكل الأنساق الاجتماعية التي يمكن أن يتخيلها العقل الوسيطي- كانت تعتبر كما أنها تحقق داخل فضاء جغرافي محدد. كانت الجغرافيا والأدب الجغرافي مثاليين في الجوهر، و كان السفر يتخذ مظهر حج. "[16].
وأكثر من هذا فقد كان السفر ذا بعد جغرافي وأخلاقي وروحي، وقد ارتبطت الهجرة، في القرآن الكريم، بالعبادة والطهارة والقداسة والاستشهاد وحب الله، مصداقا لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [17].
وقد كانت هجرة الرسول من مكة إلى المدينة انتقالا من فضاء الكفر والوثنية والضلال إلى فضاء الإيمان والتوبة والتقوى، وتنطبق الدلالات نفسها على هجرة الصحابة إلى الحبشة في بداية الدعوة الإسلامية.
ونجد هذه الهجرة أيضا عند الفلاسفة ((حي بن يقظان) لابن طفيل)، وكذلك عند المتصوفة الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر (النفري مثلا)...
ومن هنا، " فالجغرافيا، في العصور الوسطى، لم تكن تعالج مثل تخصص علمي، ولكن بصفتها فرعا للأوطوبيا الدينية. هذه الطريقة في الرؤية يوافقها موقف خاص تجاه السفر والمسافر: السفر طويل يجعل المسافر أكثر قداسة، وبشكل متزامن، الطريق المفضي إلى القداسة يتضمن ضرورة فكرة التخلي عن حياة الرفاهية والإقبال على السفر. ويعني التحرر من الآثام السفر بعيدا. أي: التحرك داخل الفضاء. هكذا، كان الذهاب إل الدير يمثل انتقالا من مكان الإثم إلى مكان القداسة؛ إنه يتشابه مع رحلة حج ومع الموت، لأن الموت نفسها كانت تعتبر مثل انتقال داخل الفضاء. "[18].
وتتقابل البلدان جغرافيا وأخلاقيا، مثل: تقابل الهند الروحانية مع روسيا المادية. كما تقترن درجة المناخ بطيبوبة الناس، حيث يعبر المناخ في الجحيم عن فضاضة البشر وقسوتهم. في حين، يعبر مناخ الجنة عن طيبوبة الناس ودماثة أخلاقهم. علاوة على هذا، يتسم الفضاء الوسيطي بالانتقاء الذي يتمثل في اختيار أفضية فاضلة مقابل أفضية دنيئة، وتفضيل الأنا الطاهرة على الآخر المذنب.
هكذا، يتبين لنا بأن الفضاءات الجغرافية، في العصور الوسطى، هي فضاءات دينية وأخلاقية وقيمية وسلوكية. ومن ثم، لايمكن إدراك الأرض المباركة، على مستوى السفر، إلا بعد مسافة طويلة، كما هو شأن الحج الذي يستوجب قطع مسافة طويلة بالنسبة للحاج النائي.
وعليه، إذا كان الفضاء الجغرافي، في العصر الوسيط، فضاء ثقافيا دينيا وأخلاقيا، فإن الفضاء، في الفترة المعاصرة، هو فضاء واقعي ومادي ينبني على المدينة. وهنا، يتخذ المنزل أو المسكن بعدا سيميويطقيا ثقافيا. وفي هذا النطاق، يقول لوتمان " يوجد لدينا - هنا - مثال واضح لمبدأ مهم داخل الفكر الثقافي البشري: الفضاء الواقعي هو تمثيل أيقوني لسيمياء الكون، هو لغة يمكن أن يتم داخلها التعبير عن دلالات غير مكانية. في حين، تحول سيمياء الكون، بدورها، العالم الواقعي للفضاء الذي نعيش ضمنه إلى تمثيل يناسب صورتها. "[19].
وعليه، تعد المدينة فضاء كونيا رمزيا، وتأخذ موقعا متميزا داخل ثقافة ما، كأن تكون مركزا من جهة، أو هامشا من جهة أخرى، فالعاصمة هي مركز، ودون ذلك هامش. ومن ثم، لم تعد هناك مقابلة بين السماء والأرض، بل أصبحت بين الطبيعي والاصطناعي. وفي هذا الإطار، يقول لوتمان:" تعد المدينة آلية سيميائية مركبة، مولدا للثقافة، ولكنها لاتقوم بهذه الوظيفة إلا في الحالة التي تمثل فيها بوتقة لنصوص وسنن مختلفة وغير متجانسة، منتمية لكل أنواع اللغات والمستويات. التعدد الصوتي والسيميائي الضروري لكل مدينة، ما يجعل هذه الأخيرة أكثر إنتاجية من وجهة نظر التصادمات السيميوطيقية. وتعد المدينة، باعتبارها فضاء تتواجه فيه سنن ونصوص وطنية، واجتماعية، وأسلوبية، الواحد في علاقته بالآخر، فضاء للتهجين، ولإعادة التسنين، وللترجمات السيميويطقية، كل ما يجعل منها مولدا قويا لأخبار جديدة. تحدث هذه المواجهات -مثلا- بصفة دياكرونية، كما تقع أيضا بصفة سانكرونية: المجموعات المعمارية، والطقوس والاحتفالات، وتصميم المدينة نفسه، وأسماء أزقتها، وآلاف رفات العصور المكتملة تفعل بصفتها مجموعة من البرامج المسننة التي تجدد باستمرار نصوص الماضي. إن المدينة آلية تعيد خلق ماضيها باستمرار؛ هذا الماضي يمكن، إذاً، أن يتجاور سانكرونيا، مع الحاضر. بهذا المعنى، فإن المدينة، كما هو الأمر بالنسبة للثقافة، تعد آلية تتحدى الزمن. "[20].
ومن هنا، تكون المدينة فضاء مركزيا اقتصاديا، وفضاء تتعايش داخله لغات ثقافية متعددة. ويعني هذا أن التعدد السيميوطيقي هو القانون الذي يتحكم في هذا النوع من المدن. وبذلك، يخالف النسق السيميوطيقي الموحد. ومن هنا، تعد المدينة فضاء للتناقضات اللغوية والإثنية والثقافية والسيميوطيقية.
وتأسيسا على ما سبق، يتبين لنا بأن الإنسان لايمكن أن يعيش في معزل عن الكون، حيث لاتأخذ الذوات دلالاتها السيميائية إلا في ارتباط جدلي بالكون، وتمثل ثقافة هذا الكون. أي: لايمتلك الإنسان الدلالة الحقيقية والسيميوزيس إلا في الفضاء الحيوي الذي ينبنى على الثقافة أو الثقافات المتعددة. ومن ثم، تعرف سيمياء الكون بأنه ذلك الفضاء الذي تتداخل فيه الثقافات واللغات والحضارات. إنه فضاء سيميوطيقي للحوار والتعارض والاختلاف والتقابل. إنه فضاء التهجين والبوليفونية والتواصل والتعددية والتناص.
• الحبكة الثقافية:
تحيلنا الحبكة، عند لوتمان، على القصصية والأفعال والأحداث السردية التي تنجزها شخصيات مركزية ومحورية أساسية (الرواية البطولية الكلاسيكية)، أو شخصيات هامشية منبوذة، كما يظهر ذلك جليا في الرواية البوليفونية التي تحدث عنه ميخائيل باختين في كتابه (شعرية دويستفسكي)[21]. ومن هنا، فالحبكة السردية هي تلك الأفعال التي يقوم بها البطل، ويعجز عنها الآخرون، مثل: اقتحام الحدود البنيوية لفضائه الثقافي الخاص به نحو نطاقات ثقافية غيرية. أي: إنها سلسلة من الأفعال التي تؤديها الشخصيات المحورية، بتجاوز حدود نطاقها الثقافي الخاص نحو نطاقات ثقافية أخرى. ويعد كل اختراق فعلا، وتشكل سلسلة هذه الأفعال والاختراقات ما يسمى بالحبكة السردية الثقافية داخل النصوص الإبداعية، سيما الروايات منها.
• سيمياء الترجمة:
يعد يوري لوتمان من الرواد الأوائل الذين أسسوا سيمياء الترجمة من خلال التوقف عند مبدإ اللاتجانس. ومن المعروف أن الترجمة فعل ثقافي، بواسطته تتفاعل الثقافات وتتناص وتتواصل. وتعد الترجمة أيضا أس الفعل الثقافي، وأساس سيمياء الكون. وترتكز على مبدإ اللاتجانس على مستوى النسق اللغوي والثقافي والسيميوزيس. إذ لكل لغة بنيتها الثقافية واللسانية الخاصة بها، وما الترجمة إلا أداة إجرائية وثقافية لنقل المعاني من لغة إلى أخرى، أو بغية تقريب التجارب الإنسانية بفضل النقل والتحويل والتسنين.
وعليه، " فبنية سيمياء الكون تعد لاتناظرية. يجد اللاتناظر تعبيرا له في اتجاهات الترجمة الداخلية التي تجعل كثافة سيمياء الكون قابلة للاختراق. تعد الترجمة آلية للوعي الأولي. إن فعل التعبير عن مصطلح داخل لغة مغايرة للغة الأصل يعد سبيلا للوصول لفهم هذا المصطلح. ومادامت اللغات المختلفة لسيمياء الكون تعد لامتناظرة سيميوطيقيا، بمعنى أنها خالية من التطابق الدلالي المتبادل، فإن كلية سيمياء الكون يمكن أن تعتبر بمثابة مولدا للأخبار"[22].
ويعني هذا كله أن الترجمة خير دليل على ثراء سيمياء الكون؛ لأنها تعبر عن عمليات ثقافية، مثل: التواصل، والمثاقفة، والتبليغ، والتفاعل الثقافي، ومبدإ الاختلاف، وتبادل المعلومات والأخبار.
• آلية الحوار الثقافي:
يعد الحوار الثقافي -حسب لوتمان- من أهم الآليات الإجرائية التي تعتمد عليها سيمياء الكون، وهي أساس الفكر والترجمة. ويعني هذا أن النسق السيميائي الثقافي يستلزم فعل التواصل بين الملقي والمستمع أو بين الباث والمستمع. وعلى الرغم من وجود اللاتناظر السيميائي بين البنيات والعناصر، فإن الحوار أساس هذا اللاتناظر على صعيد اللغات والثقافات والطبقات والبنى الاجتماعية. وأكثر من هذا، فالترجمة هي بمثابة حوار متناوب بين اللغات المتشابهة أو المختلفة على مستوى الوضعية التواصلية أو التبادلية أو الثقافية. ويتحقق الحوار في سياق المحبة والصداقة والتعايش والتعاون والتكامل، ولا يتحقق حين وجود الإقصاء والنبذ والكراهية والتطرف. وفي هذا، يقول لوتمان: " لقد سبق أن أشرنا بأن الفعل الأولي للفكر هو الترجمة. يمكن الآن أن نذهب أبعد من ذلك ونقول: إن الآلية الأولية للترجمة هي الحوار. يفترض الحوار اللاتناظر، لاتناظر يجب، بادئ ذي بدء، أن يدرك من خلال الاختلافات الملازمة للبنيات السيميوطيقية (اللغات) التي يستعملها المشاركون في الحوار، وبعد ذلك، من خلال الاتجاهات التناوبية التي يسلكها تدفق الإرساليات. يشير هذا العنصر الأخير إلى أن المشاركين في حوار ما، يتحولون، بالتناوب، من وضعية البث إلى وضعية التلقي، وأن الخبر يتداول وفق قطائع لامتصلة منفصلة بمسافات.
بالمقابل، إذا كان هناك حوار خال من اختلافات سيميوطيقية، فإنه لامبرر لوجوده، وحين يكون الاختلاف مطلقا إلى حد أن المشاركين يلغون بعضهم البعض،فإن الحوار يصبح مستحيلا. اللاتناظر يجب -إذاً- أن يشمل درجة دنيا من الثبات.
ولكن هناك شرط آخر ضروري للحوار: هو الانخراط المتبادل للمشاركين في التواصل وقدرتهما على تجاوز الحواجز السيميوطيقية التي لايمكن تجنب انبثاقها. "[23].
وعليه، يستلزم الحوار الثقافي، ضمن سيمياء الكون، وجود لغة مشتركة من جهة أولى، واستحضار أطراف التواصل المحورية: الباث، والمتلقي، والرسالة، من جهة ثانية، ووجود علاقات إيجابية تجمع الطرفين من جهة ثالثة.
• ثنائية المركز والهامش:
تنبني سيمياء الكون، ضمن مبدأ اللاتجانس، على ثنائية المركز والهامش. ومن ثم، يتميز المركز بوجود ثقافة متميزة ومنتشرة كونيا، وذات لغة قوية منظمة ومتطورة بنيويا ولسانيا، متسمة بوحدة النسق السيميائي. ويعني هذا أن اللغة الطبيعية هي أساس الثقافة الكونية. وفي المقابل، توجد لغات ولهجات أخرى لا تتسم بالخصائص نفسها على مستوى التقنين والتقعيد والقوة والتطور، على الرغم من حمولاتها الثقافية والهوياتية. وفي هذا السياق، يقول يوري لوتمان: "يظهر اللاتجانس جليا في العلاقة بين مركز سيمياء الكون وهامشها. في مركز سيمياء الكون، تتكون اللغات الأكثر تطورا والمنظمة بنيويا، بالدرجة الأولى اللغة الطبيعية لهذه الثقافة.
نستطيع أن نقول: إنه إذا كانت أية لغة (بإدماج هذه اللغة الطبيعية) لاتستطيع الاشتغال إلا بشرط أن تكون غارقة داخل سيمياء الكون، إذاً لاتوجد سيمياء كون تستطيع،كما أشار إلى ذلك إميل بنفينست، أن توجد بدون لغة طبيعية تلعب دور المركز المنظم. "[24].
لكن قد تضمحل الأنساق اللغوية المركزية، وتحل محلها اللغات الفرعية، مع امتلاك قوة السيطرة داخل النسق السيميائي الكوني، مثل: لهجة فلورنسا التي صارت، خلال عصر النهضة، اللغة الأدبية الفضلى لإيطاليا، بعد أن كانت من قبل لغة مهمشة.
ومن ثم، لا يمكن للغة أو لثقافة معينة أن تمتد ضمن سيمياء الكون إلا باحترام القوانين المفروضة، وتمثل المعايير الأدبية والفنية والقيمية والسلوكية. ويمكن للمركز كذلك أن يتحول إلى هامش، والعكس صحيح أيضا.
وبناء على ما سبق، تتكون السيميوطيقا الكونية من مركز وهامش وحدود. ويعني هذا أن سيمياء الكون تضم مجموعة من اللغات التي تشكل المركز والهامش[25]. ومن ثم، يتسم المركز بالتنظيم والاتساق والانسجام والوحدة؛ مما يجعله أكثر رقيا وتمدنا وتحضرا؛ مادام يخضع للتقعيد والتقنين (لغة لها قواعد نحوية مثلا). وفي المقابل، هناك لغات فرعية أو هامشية أو مقابلة، تفتقد قوة المركز، وتعيش على الهامش، وتدخل في صراع تقابلي مع المركز المهيمن، كما هو شأن دول المركز ودول المحيط في مجال الاقتصاد.
لكن يمكن للأنظمة السيميوطيقية أن تتطور وتتحول داخل سيمياء الكون، حيث يصبح الهامش مركزا، والعكس صحيح أيضا. ومن باب التمثيل ليس إلا، فقد كانت اليونان مركز الحضارة والثقافة الإنسانيتين. في حين، كانت روما مركزا هامشيا. بيد أن هذا الهامش الجغرافي سرعان ما تطور ليصبح مركزا كونيا تشع منه الثقافة والحضارة والدين، بل تفرعت، عن لغته اللاتينية، لغات عالمية واكبت حضارات راقية ومتميزة، مثل: الحضارة الألمانية، والحضارة الفرنسية، والحضارة البريطانية...
• الفضاء الثلاثي: الداخل والخارج والحدود:
تنبني النظرية الفضائية، عند يوري لوتمان، على أبعاد ثلاثة هي[26]:الداخل والخارج والحدود. ومن ثم، تشكل الحدود فواصل وتخوما أساسية ين الداخل (الكوسموس/Cosmos)، والخارج (الكاوس/ Chaos). ومن هنا، ترد الحدود على أنها مفاصل أساسية بين الذات والغير، أو بين الأنا والآخر، أو بين نحن والآخرين. وتتحول هذه الفضاءات إلى قيم تتخذ أبعادا مادية في النصوص والخطابات. كما تفصل الحدود بين الأحياء والأموات، بين المدن والقرى، بين المركز والمحيط، بين المدنيين والقرويين، بين المتحضرين والمتخلفين...
وهناك أنواع من الحدود: حدود مكانية، مثل القبور والأسلاك والأنهار والوديان والجبال... وهناك حدود زمانية، مثل: الليل الذي يفصل الصباح عن المساء. ومن ثم، تتمثل وظيفة الحدود في تعيين العناصر التي تنتمي إلى الداخل أو الخارج، ورصد العناصر التي تتسرب إلى الداخل أو العكس. ومن هنا، يعد قاموس الترجمة عبارة عن حدود ثقافية التي تحدد نطاق ثقافة معينة. ومن ثم، تساهم الحدود في تحقيق التواصل الثقافي. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتحول إلى عائق للتواصل والتبادل الثقافي. فقد كان جدار برلين - مثلا- بمثابة حد عدائي إيديولوجي يعيق التواصل بين أفراد الأمة الجرمانية نفسها. ومن ثم، فالحدود هي أساس التبادل بين الحضارات أو أساس صراعها وانغلاقها، كما يحدث الآن في الكوريتين: الشمالية والجنوبية.
ويرى لوتمان أن الشفرة السيميائية تختلف من ثقافة إلى أخرى، والدليل على ذلك صور الآخر التي تختلف من جماعة إلى أخرى، أو من شعب إلى آخر، حسب المعتقد والوعي والسلوك. ومن هنا، يشتغل يوري لوتمان على ما هو ثقافي وحضاري واجتماعي، بل إنه يؤسس لسيميوطيقا ثقافية كونية من خلال مؤشرات الفضاء.
هذا، وينتج عن الداخل والخارج عدة ثنائيات متعارضة ومتقابلة، تترجم لنا مختلف العلاقات الموجودة بين الأنا والآخر على المستوى الثقافي.
وعلى العموم، تنبني سيميائية الكون على مفهوم الحدود. بمعنى أن الفضاء الداخلي يتسم بكونه لامتجانسا وغير منسجم وغير موحد. وبالتالي، تفصل الحدود بين الداخل والخارج، بين ضمير المتكلم وضمائر الآخر. ومن ثم، تشير الحدود إلى المجابهة بين الثقافات والذوات والضمائر، مجابهة بين المتكلم المثقف الراقي، والآخر العدواني والعدمي والهمجي. تحيلنا الحدود على ثنائية الأنا والغير، وتبين لنا طبيعة العلاقة التي تجمع بين الذات والغير، هل هي علاقة محبة وصداقة وتعاون وتكامل وتعايش أم هي علاقة عدوان وكراهية وتغريب وإقصاء؟
ويعني هذا أن آلية الحدود من أولى آليات التفريد السيميوطيقي. وبالتالي، تستند الثقافات البشرية إلى التقسيم الثنائي: ثقافة الأنا وثقافة الغير، ضمن نسق ثقافي بشري كوني وكلي. وفي هذا الإطار، يقول لوتمان:" تبدأ كل ثقافة بتقسيم العالم إلى الفضاء الداخلي الخاص " بي"، و فضا" ئهم" الخارجي. الطريقة التي يؤول بها هذا التقسيم الثنائي تتوقف على تيبولوجية الثقافة المعينة. غير أن التقسيم الحقيقي هو الذي ينبع من الكليات الثقافية البشرية. "[27].
بمعنى أن كل منظومة ثقافية بشرية تقدم صورا مخيالية عن المنظومات الثقافية البشرية الأخرى على مستوى المحظور والمكروه والمباح. وعلى سبيل المثال، يقدم أدب الرحلات صورا مرآوية حول الآخر، قد تكون هذه الصور موجبة أو سالبة.
وعليه، فالحدود هي سمة التوحيد أو التفريق، وسمة التعايش أو الاختلاف. وفي هذا السياق، يقول لوتمان: "غير أن النقط الأكثر حساسية لسيرورات العملية السيميائية هي حدود سيمياء الكون. يتسم مفهوم الحدود بالازدواجية: إنه يفرق ويوحد في الآن ذاته. تعد دائما حدا لشيء معين، وتنتمي بهذه الطريقة لثقافتين متجاورتين، لاثنين من سيمياء الكون متلاصقتين. الحد يتسم بالازدواجية اللغوية والتعدد اللغوي. إنه آلية موجهة لترجمة النصوص من سيميوطيقا أجنبية إلى " لغتنا"، الفضاء الذي يتحول فيه ما هو خارجي إلى ما هو داخلي؛ إنه غشاء يحول النصوص الأجنبية إلى حد أن هذه الأخيرة تصبح عناصر مكونة للنسق السيميوطيقي الداخلي لسيمياء الكون، مع الاحتفاظ بخصائصها التي تميزها. "[28].
ويمكن للداخل أن ينفتح على الخارج عبر الترجمة والحوار والتناص. كما يتأرجح الفضاء بين الانغلاق والانفتاح، وقد يكون ذلك الفضاء موحدا أو فضاء لتصارع الذوات وتطاحنها. وإذا كانت الشقة، في المدينة، مركزا فضائيا، فإن الحد الذي يفصل ين المنزل واللامنزل هو السلالم والأقفاص والممرات والشوارع التي تعبر عن طبقة المهمشين والضائعين والمدمنين على الخمور. وهذا ما يسميه ميخائيل باختين بفضاء العتبة[29]. وإذا كان الفضاء الداخلي يتسم بالوجود والألفة والحميمية، فإن الفضاء الخارجي يتميز بالعدم والخوف والعدوانية والوحشية...
ويتضح، مما سبق ذكره، بأن هناك فضاءات حدودية، وفضاءات داخلية، وفضاءات خارجية. وبالتالي، فالحد هو رمز للازدواجية اللغوية، والازدواجية الثقافية، والازدواجية السلوكية والقيمية...
الخاتمة
وخلاصة القول، لقد عرفت الدراسات الثقافية ثلاث مراحل في تطورها المعرفي: مرحلة الدراسات الفلسفية والأنتروبولوجية، ومرحلة الدراسات اللسانية، ومرحلة الدراسات السيميوطيقية.
هذا، وتعد مدرسة تارتو - موسكو مهدا لسيميوطيقا الثقافة أو الثقافات، إذ قاربت الأنظمة والظواهر الثقافية المادية والمعنوية في إطار تفكيك السيميوزيس، وتركيبه من جديد. ومن ثم، يعد يوري لوتمان من رواد السيميوطيقا الثقافية، وقد ركز على مجموعة من المفاهيم هي: سيمياء الكون، والمركز والهامش، والفضاء الثلاثي: الداخل والخارج والحدود، والفضاء الجغرافي في مقابل الفضاء الثقافي الكوني، و سيميوطيقا الثقافة، و سيمياء الترجمة، وسيمياء الحوار...
هذا، ويعتبر مشروعه (سيميوطيقا الثقافة) إطارا نظريا ومنهجيا متميزا، إذ يسعفنا في تحليل الكثير من النصوص والخطابات والأنظمة الثقافية، مثل: دراسة الفضاء العام والخاص، ودراسة محكيات السفر والرحلة، وتحليل النصوص السردية التي تضم مجموعة من الفضاءات المتنوعة والمختلفة، ودراسة أدب الهجرة، ودراسة بنيات المدينة، واستجلاء الأبعاد الثقافية في النصوص الأدبية وغيرها، ورصد الحبكات السردية التي تتلون بالأبعاد الثقافية بصفة عامة، وتمتح من مفاهيم سيمياء الكون بصفة خاصة.
[1] François Rastier et Carine Duteil-Mougel Sémiotique des cultures),Vocabulaire des études sémiotiques et sémiologiques, sous la direction de Driss Ablali et de Dominique Ducard,P. U. F, Paris, Besançon 2009, p : 89.
[2] François Rastier et Carine Duteil-Mougel Sémiotique des cultures(, p : 90.
[3] Youri Lotman : La Sémiosphère, Presses universitaires de Limoges, 1999.
[4] Youri Lotman : L'Explosion de la culture, Presses universitaires de Limoges, 2004
[5] Youri Lotman : La structure du texte artistique, traduit du russe par Anne Fournier, Bernard Kreise, Eve Malleret et Joëlle Young sous la direction d’Henri Meschonnic. Préface d’Henri Meschonnic. Gallimard,Paris,France,1975.
[6] يوري لوتمان: سيمياء الكون، ترجمة الدكتور عبد المجيد النوسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2014م.
[7] يوري لوتمان: سيمياء الكون، ص:17.
[8] يوري لوتمان: نفسه، ص:18.
[9] - يوري لوتمان: نفسه، ص:19.
[10] يوري لوتمان: نفسه، ص:23.
[11] يوري لوتمان: نفسه، ص:39.
[12] يوري لوتمان: نفسه، ص:80-81. يلاحظ أن ترجمة الدكتور عبد المجيد النوسي لكتاب لوتمان ركيكة جدا، على الرغم من مجهوده المشكور عليه، وكنت أتدخل، في كثير من الأحيان، لتعديل بعض صيغ الترجمة التي أثبتها في مقالي هذا. لذا، أنصح القراء بقراءة النص في لغته الأصلية. وينطبق هذا الحكم على ترجمات الدكتور سعيد بنكراد، سيما كتابه (سيميوطيقا الأهواء)؛ والسبب في ذلك هو اعتمادهما على الترجمة الحرفية، واستهلال الجملة بالاسم بدل الفعل.
[13] يوري لوتمان: نفسه، ص:81.
[14] يوري لوتمان: نفسه، ص:132.
[15] يوري لوتمان: نفسه، ص:133.
[16] يوري لوتمان: نفسه، ص:134.
[17] سورة النساء، القرآن الكريم، الآية 100.
[18] يوري لوتمان: نفسه، ص:135.
[19] يوري لوتمان: نفسه، 183.
[20] يوري لوتمان: نفسه، ص:194.
[21] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: د. جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م.
[22] يوري لوتمان: نفسه، ص:25.
[23] يوري لوتمان: نفسه، ص:64.
[24] يوري لوتمان: نفسه، ص:26.
[25] Isabelle Wenger Les notions de "sémiosphère" et de "frontière" selon Youri Lotman), Séminaire: L'histoire du signe dans la culture russe 22. 04. 2013.
[26] LOTMAN, Youri: ( l’espace sémiotique. La notion de frontière ). La sémiosphère. PULIM, Limoges, 1999, p. 9-41.
[27] يوري لوتمان: نفسه، ص:36.
[28] يوري لوتمان: نفسه، ص:49.
[29] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: د. جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|