شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (203)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه
[فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين.
وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور.
والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات.
ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل.
فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي : (من استحسن فقد شَرَّع).
وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم ) وبدليل قوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.
أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة.
وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد.
قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين.
والشهران لهما صورتان: الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا )فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة.
الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة.
بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: ( يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟! ) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم.
فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد.
لكن بقي
السؤال
لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟
الجواب
لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟ فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء.
فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم.
والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض.
لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟ وجهان للعلماء في ذلك: قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر.
وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته.
والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض.
قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين.
قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة : ( من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه ) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب.
إطعام ستين مسكيناً
قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً].
فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام.
(إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: ( أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا ).
فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به.
والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه.
حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به
قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت].
ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: ( يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا ).
اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد ، وفيها قول قيس الرُّقَّيات : فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.
لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم.
فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل.
أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي.
فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه.
الأسئلة
وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي
السؤال
في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به.
هناك مسلكان للأصوليين فيه: مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها.
وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه.
وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع.
ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء.
فإن قلت لهم: سكت.
يقولون: السكوت عفو.
والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم ) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها.
فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز.
وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع.
وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة .
لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال.
أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم.
يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع هذا معنى القاعدة.
ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة.
ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه.
فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك.
فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل.
هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح ( فدين الله أحق أن يقضى ) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل.
فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار.
وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة.
على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة.
فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه.
وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والله أعلم.
كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان
السؤال
هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة.
والله تعالى أعلم.
العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة
السؤال
من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟
الجواب
إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال.
فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: { فَكَاتِبُوهُمْ } [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر.
فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده.
وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده.
أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.