الموضوع: كأنك غريب
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 28-08-2022, 09:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كأنك غريب


عيوب الدنيا بادية، ملأت الحاضرة والبادية، وهي بذلك في كل نادٍ منادية، لو تَفْهَم النداءَ الوجوهُ النَّادية:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا
لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ بِالْعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ
وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ


فيا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرِك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك؛ هلَّا تزوَّدْتَ لمقرِّك؟!

الدُّنيا إذاحلَتأوْحلت، وإذا كسَت أوْكست، وإذا جلت أوْجلت، وكم من ملكٍ رُفعت له علاماتٌ؛ فلما عَلا مات.
فيومٌ علينا، ويومٌ لنا
ويومٌ نُساءُ، ويوم نُسَرّ




الأمر جد وهو غيرُ مِزَاحِ
فاعملْ لنفسك صالحًا يا صاحِ
كيف البقاءُ مع اختلاف طبائعٍ
وكرورِ ليلٍ دائمٍ وصباحِ
تجري بنا الدُّنيا على خطرٍ كما
تجري عليه سفينةُ المَلاحِ
تجري بنا في لُجِّ بحرٍ مالهُ
من ساحلٍ أبدًا ولا ضَحْضَاحِ


فاقضوا مَآربكم عجَالى إنَّما
أعمارُكم سفر من الأسفارِ
وتراكضوا خيل الشبابِ وبادرُوا
أن تُستردَّ فإنهنَّ عوارِ



أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرع لنا الدين فأكمله، وحذرنا من سبيل الغواية فبينه، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه على ما أولانا من كرمه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه ولا مثيل، فما أعظمه! وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، أحبَّه ربُّه مِن بين البرية فاصطفاه وأكرمه، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
أيها المسلمون، الدنيا سُوقُ النفوس، والناس يتَّجِرون فيها بأنفسهم، فمنهم معليها فمعتقُها، ومنهم مُغْويها فموبقُها؛ فالأول: يغدو في فكاكها بكسب الحسنات، والثاني: يغدو في هلاكها باكتساب السيئات؛ ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))[7].
يا خاطِبَ الدُّنيا الدَّنِيَّةَ إنَّها
شَرَكُ الرَّدَى وقَرارَةُ الأكدارِ
دارٌ متى ما أضْحَكَتْ في يومِها
أبْكَتْ غدًا بُعْدًا لها منْ دارِ


فبادِروا -رحمكم الله- بالصحةِ قَبْلَ سقمِكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، فاقنَعوا بالكَفاف، وصُونوا أنفسَكم بالعفاف، وقِفوا عند حدودِ ربكم وأوامره؛ فالمؤمنُ وقَّاف.

واعلموا- حفظكم الله- أن القناعةَ كنزٌ لا يفنَى، وراحةَ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةَ النفس في قلَّة الآثام، وراحة القلب في قلَّة الاهتمام، وراحة اللسان في قلَّة الكلام، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، والعملَ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةَ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة:﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].

وتيقنوا أنه من اعتمد على الله كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن استغنى به أغناه، وقليل يكفي خير من كثير يُلهي، والبر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديَّان لا يموت، والحر الكريم يخرج من الدنيا قبل أن يُخرج منها.

فخذوا من صحتكم لمرضكم، ومن حياتكم لموتكم، ومن غناكم لفقركم، ومن قوتكم لضعفكم، ونعم المالُ الصالح في الرجل الصالح، والغنى غنى النفس لا عن كثرة العرض.

ثم أكثروا من الصلاة والسلام على سيد الأنام في جميع الأوقات والأيام، واعلموا أن للصلاة والسلام عليه في هذا اليوم مزيةً وحكمةً، فكلُّ خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده؛ فأعظم كرامةٍ تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة؛ فإن فيه بعثَهم إلى منازلهم وحضورَهم مساكنهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ولا يرد فيه سائلُهم، وهذا كله إنما عُرِف وتحصَّل بسببه وعلى يده عليه الصلاة والسلام[8]؛ فمن الشكر وأداء الحق أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، وذاك من دلائل حبِّه والشوق إليه، كيف وقد أمرنا ربُّنا ومليكنا قائلًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخَلق الأكمل، والخُلُق الأنبل، وعلى آل بيته الصالحين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نسألك حسن العمل، وحسن الخاتمة، وأصلح لنا الحال والمآل، اللهم اجعلنا ممن يورثون الجنان، ويبشرون برَوح وريحان، وربٍّ غير غضبان.

[1] رواه البخاري في صحيحه، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) (8/ 98).

[2] فيض القدير (5/ 51).

[3] الفتح المبين بشرح الأربعين (ص617).

[4] صحيح البخاري (8/ 66).

[5] شعب الإيمان (13/ 173)، وأورد البخاري بعضه في الصحيح (8/ 89).

[6] المجالسة وجواهر العلم (4/ 51)

[7] رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، باب فضل الوضوء (1/ 203).

[8] زاد المعاد(1/ 364).







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.12 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.03%)]