إن من أهم أسباب بطء استقبال المثقف العربي للمنهج السيميائي، وترجمته بأسلوب لُغوي يصعب فهمه على جل القراء المثقفين: يعود لتأويلين - حسب ما قاله الجبوري -:
1- كون الناقد العربي - وخاصة المغاربي - يعاني من خلل في ملكته اللُّغوية الفصيحة، وهو أمر تجهضه بعض مؤلفات النقاد أنفسهم؛ إذ تتسم بجمال الأسلوب ورقة اللغة.
2- تقصُّد الناقد العربي - وخاصة المغاربي - الإرباك اللُّغوي؛ لإضفاء الضبابية على مفاهيمها، بقصد إظهار البراعة في توليد المصطلح، وإضفاء الضبابية على مفاهيمها لتكون حكرًا عليهم وعلى مَن يجتهدون في فهم دلالتها، وهؤلاء ثلة لا تشكل تيارًا؛ فالمشكل اللُّغوي هو اصطلاحي، أما دلالتها، فهي أيسر بكثير، والقارئ العربي أقوى على فهمها.
وعن مشكلات المصطلح نسوق مثالًا بسيطًا، فمصطلح "القصة" يتركز حول نقطة جوهرية هامة، فهل هو يعني السرد بشكل عام، أم هو تعبير عن جنس أدبي متوسط ما بين الأقصوصة والرواية؟!
ولسنا في معرض عما قاله النقاد حول ذلك سوى لفت النزر فقط هنا لمزيد من التخصيص، وقد عُنيت المنتديات العربية عبر النت بهذا المنحى، فخصصت لكل نمط روَّاده وأقسامه ودراساته حتى أشبعت.
من جهة أخرى يقول الدكتور إحسان النص: إننا نعيش في فوضى المصطلحات، وعلينا توحيدها وعدم التسليم بالترجمات المدرَجة اعتباطيًّا، هنا انقسم العرب لفريقين؛ فريق تابع للفَرنسيين، وهم أهل المغرب، وفريق الناطقين بالإنكليزية، فأراد أساتذة الجامعة السورية اتباع طريقة أوائل الكلمات؛ مثال: مرض الإيدز بالإنكليزية، والسيدا بالفَرنسية،، وهو يقابل مصطلح متلازمة عوز المناعة المكتسبة؛ لذا نجد أن إطلاق مصطلح فقد المناعة هو الأنسب[10].
ويشجع - بل يؤكد - على أهمية وضع معجم تاريخي للغة العربية، وقد باءت معظم الجهود بالتعطل؛ لقصور التمويل بين ألمانيا ومصر، وما تبقى منها، يدفع وبقوة الأمر لإعادة إحيائه[11].
من جهة أخرى قد يُخفي المصطلح مكيدة ما، وتخفَى على الدارس حتى لو كان حاذقًا؛ لأنه سم دُس في الدسم، وقد وضح لنا هذا الفيلسوف نيتشه عبر مصطلح الفلسفة والإيهام اللُّغوي، فيقول ما معناه: إن أتباع المذهب الطبيعي ليسوا واقعيين، إنما كان جهدهم مجرد تدبير إنساني ساذج وقلب للمعاني؛ "أيها الفيزيائيون، إن قانون الطبيعة الذي تتكلمون عنه لم يقم إلا بتأويلكم ورداءتكم...، إنها لَفكرة مهذبة يختبئ وراءها العداء السوقي...، وكل الألفاظ - بما فيها الطغيان أيضًا - هي نافلة ومجرد استعارة تزيينية...، ليس لأن ثمة قوانين فيه تسود؛ بل لأنه لا قوانين فيه على الإطلاق"[12].
لا يهمنا هنا، سواء كان نيتشه صائبًا في وجهة نظره أم مخطئًا، ما يصلنا من كلامه أنهم لم يضيفوا جديدًا، بل أولوا بمغالطات قد تصيب وقد تخيب، لكن ما يهمنا أن الخطأ يبدأ بمشوار التأويل الذي ينجر إليه مَن لا يدقِّق ولا يبحث.
وفي واقعنا الكثير من هذا؛ حيث نقبل ونلتهم، وبعدها نغص ونتقيأ، وقد لا نتقيأ عندما يمتلئ جوفنا بكل غث وسيئ، فتتراجع حساسيتنا تجاه تلك المغالطات.
♦ وعن المصطلح ودلالة المعنى، يقول الأستاذ محمد الشنقيطي عن علم المصطلحات:
"إن أول العلوم ظهورًا في الخلق هو علم المصطلح، ويعد الله عز وجل مخرجه من عالم الغيب ومما استأثر به عنده إلى عالم الخلق والشهادة، وتفضَّل بتعليمه لعباده دون غيرهم، قال تعالى: ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ﴾ [البقرة: 31]، فكل علم بعده كان سابقًا عليه، فلا تُعرف الأمور إلا بأسمائها، ولا تُدرك إلا بأوصافها المحمولة في رسومها التي وسمها الله بها وأعطى لها الموافقة الإلهية، فعندما خلق سمَّى الأشياء إما بأوصافها "كالسماء" لِما علا، وإما بأفعالها كقوله تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ [البقرة: 34]، فوُسم بهذا الاسم لفعله.
ومما يدل على أهمية علم المصطلح وفهم الألفاظ ومدلولاتها: قوله: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، فتعليمه السريع وفتحه الكبير على آدم في فهم مدلولات الأشياء، هو لحاجة آدم لفهم المطلوب منه والغاية من وجوده، ولو لم يرتكز ويتحقق هذا العلم في فهم آدم عليه السلام، ويدرك في قرارة نفسه مدلولات الأشياء، لَما كان لقوله تعالى لآدم: ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35]، وقوله: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36] معنى، فالعقوبة بالهبوط تقرير من الله عز وجل لإدراك آدم لمدلول ألفاظ النهي ومنعه من الشجرة، كما كان فعله عليه السلام مناسبة لتعليمه مصطلحات ذات مدلولات التوبة والرجاء، ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 37]، فالأمر كله متعلِّق بالمصطلح.
وكلما كان إدراك المرء للمصطلحات وضبط أصولها أكبر، كان له مزية الفهم والحكمة؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31]، والله أعلم، كتبته أنا الملقب نفسه بمحمد الشنقيطي، غفر الله له"[13].
ولعل مسألة التداخل اللُّغوي أثرت في عالم المصطلحات سلبًا وإيجابًا؛ كل لغة لها تأثير في اللغات الأخرى، وبطبيعة الحال فالحضارة الأقوى هي التي تفرض ثقافتها، وبالتالي لغتها، أو على الأقل جزءًا من لغتها على اللغات والثقافات الأخرى في كل العالم، وربما هذا ما أثَّر على انزياح المصطلحات وعدم التزامها الدقة القواعدية العربية مثلًا[14].
لكن الدكتور مازن مبارك لا يسمح بهذا الانزياح أبدًا، ولا يتقبل أي عذر حول ذلك، خاصة بالنسبة لقضية المصطلحات، (إن استعصى التعريب، فبالإمكان إبقاء الكلمة كما هي، ولكن لا نقبل الفوضى اللُّغوية)[15].
ولعل ما قاله الأستاذ محمود الشنقيطي عن أن اللغة العربية هي الأصل، مدار توقف وتأمل:
خرجتِ المؤلفة بالنتيجة القاطعة أن اللغة العربية كانت الأصل والمنبع، وأن جميع اللغات كانت قنوات وروافد منها.
أن السبب الأول هو سَعَة اللغة العربية وغناها، وضيق اللغات الأخرى وفقرها النسبي؛ فاللغة اللاتينية بها سبعمائة جذر لُغوي فقط، والساكسونية بها ألفا جذر، بينما العربية بها ستةَ عشرَ ألف جذر لُغوي، يضاف إلى هذه السَّعَة سَعَةٌ أخرى في التفعيل والاشتقاق والتركيب؛ ففي الإنجليزية مثلًا لفظ Tall بمعنى طويل، والتشابه بين الكلمتين في النطق واضح، ولكنا نجد أن اللفظة العربية تخرج منها مشتقات وتراكيب بلا عدد؛ (طال يطول، وطائل وطائلة، وطويل وطويلة، وذو الطول، ومستطيل...، إلخ، بينما اللفظ الإنجليزي Tall لا يخرج منه شيء[16].
من جهة أخرى، نجد فوضى في تثبيت مصطلحات الآلة، لذا فضلنا نشر واقتباس شذرة من دراسة هامة حول ذلك للأهمية:
توزن المصطلحات الخاصة بالآلة على وزن: (مفعل - مفعال - وفعَّال أو فعَّالة)، وهناك ما لا يقاس على هذه الأوزان، ومعظمه من حديث الألفاظ؛ لذا انقسم النَّحْويون لقسمين: قسم أيَّد اللفظ المعجم العربي، وفريق أراد تعريبه.
وكذلك هناك من تلك الألفاظ الموزونة ما خرج عن فِعلٍ: مبرد = برد.
ومنها ما خرج عن اسم: المُدُّ = مكيال.
لذا فنقول: منها ما هو سماعي، ومنها ما هو قياسي؛ لذا نرى بعضها يسبقه الميم إما من أصل الكلمة أو زائدة[17].
باختصار: علينا حصر الخيارات، ووضع نشرات شهرية لجديد المصطلح الآلي، ويعد حنين بن إسحاق أوَّل مَن استثمر الترجمة من خلال بيت الحكمة حينئذٍ، وعبر جولاته بين بلاد الشام والعراق والإسكندرية - في الإسهام في تطوير اللغة العربية، وجعلها لغة علوم وفهم، ولم يغنِ المصطلحات العلمية بإعطاء أشكال جديدة للكلمات أو باستعمال كلمات أجنبية فحسب، ولكنه أدخل طريقة التحليل والتركيب، التي جعلت من العربية أداة قادرة على التعبير عن أفكار مجردة ومعقدة[18].
ولعل المصطلحات التخصصية هي أهم ما يَلفِت نظر الباحث، ويعد أهم مَن اعتمدها أصولًا ابن أبي الإصبع في كتابه التحبير، وقد قسمها قسمين: نقدية بلاغية، ونقدية أدبية، اتخذت طريقة الموازنات الشعرية الشعرية، والشعرية النثرية، والشعرية القرآنية - أساس الانطلاق[19].
كان هذا في القرن السابع الهجري، وهذا يدحض ما قيل إن العرب لم يملكوا منهجية نقدية، بل إن ابن أبي الإصبع تملك النقد الموضوعي والذاتي؛ بحيث حكم المنطق العقلي والذوق الأدبي معًا.
ختامًا:
لقد قام السابقون باجتهاداتهم حول ما نبحث عنه بقدر وبمقدار واجبهم نحو اللغة العربية الشخصي، لكنها تستحق منا أكثر من هذا الجهد بكثير، خاصة في عصرنا الحالي، الذي أصابنا بالذهول من تجدده السريع وتطوره الأسرع؛ لذا نهيب بكل مَن له باع في هذا المجال أن يضيف للمكتبة العربية التي تحتاج منا متابعة وإضافة، ولو أن كل مَن لديه القدرة أضاف القليل، لاجتمع الكثير.
[1] لعل هذا موجود في اللغة الغربية، فالكلمة تدل على عدة معانٍ، وهذه ظاهرة عامة، بينما العربية تملك دقة في التعبير تفسح لنا المجال لتدقيق مصطلحاتنا:
مستقرة = stable.
اختبارية = testing.
غير مستقرة = unstable (sid).
تجريبية = experimental.
نهائية = stable.
قبل النهائية = testing.
تحضيرية = (unstable (sid.
مقترحة = experimental؛ موقع (مجتمع لينكس العربي).
[2] البحث الأصل تحت عنوان: إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد - تأليف يوسف وغليس - عرض أحمد إبراهيم الهواري - متاح.
[3] من بحث الأستاذ، بعنوان: إشكالية المصطلح في الفكر العربي المعاصر.
[4] وفي كتابه: الاتجاه السيميائي.
[5] في المركز الثقافي بدمشق، بحي الميدان، بتاريخ: الاثنين 16 - 12 - 2013، مناسبة اليوم العالَمي للغة العربية.
[6] انظر كتاب الباحث: إشكالية مصطلح النقد الأدبي المعاصر.
[7] انظر كتاب الباحث محمد فليح الجبوري: الاتجاه السيميائي.
[8] انظر كتاب الاتجاه السيميائي ص 150.
[9] لمزيد من الأمثلة، راجع كتاب: الاتجاه السيميائي؛ للدكتور الجبوري.
[10] تابع كتابه: قضايا ومواقف، ص471 - 473.
[11] المصدر السابق نفسه.
[12] ص 48 - 49 بتصرف.
[13] للمزيد: علم المصطلحات (منتديات فرسان الثقافة).
[14] للمزيد: التداخل اللغوي (منتديات فرسان الثقافة).
[15] للمزيد: ملخص /محاضرة التصحيح اللغوي ووحدة المناهج / د. مازن المبارك (منتديات فرسان الثقافة).
[16] مقالة من كتاب عالم الأسرار/ إسقاط محمود الشنقيطي، (منتديات فرسان الثقافة).
[17] انظر دراسة: اسم الآلة بين القياس والسماع؛ للدكتور: شوقي المعري - العدد 602 من مجلة المعرفة، تشرين الثاني، 2013،.
[18] انظر دراسة الأستاذ عيد الدرويش: مقابسات في الحضارة العربية، ص 20 5 - العدد 602 من مجلة المعرفة، تشرين الثاني، 2013.
[19] انظر كتاب النقد عند ابن أبي الإصبع؛ للدكتور حمود حسين يونس، ص 359.