الموضوع: الحجاج اللساني
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-09-2022, 01:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحجاج اللساني

وتُبيِّن الأمثلةُ الآتية الفرقَ:
أ - قال زيد: إنه سيأتي غدًا.
ب - إذًا أنت سعيد.
فالمتكلم (ب) في الحوار محقِّقٌ لاستدلالٍ، ويستند إلى الحدَث المذكور في قول المتكلم (أ)؛ أي: حدَث مجيء زيد غدًا؛ فهذا ليس حجاجًا.

أما في القول:
أ - أنا متردِّد في اقتناء هذه الموسوعة.
ب - فهل مَبلغها قليل؟
فيقع الترابطُ بين القول الإثباتي والاستفهام الثاني على أساس حِجاجي؛ فقدم الاستفهام (ب) على أنَّه حجَّةٌ لفائدة النتيجة (أ)، وهذه النتيجة لا تَستند إلى أيِّ حدَثٍ سابق أو لاحِق، وبما أنَّ (أ) استفهام، فالحجَّةُ ليست هي الاستفهام، بل هي التعبير عن عدَم اليقين الملازم لبِنية الجملة الاستفهامية[25].

غاية الحِجاج هي الإفحام والتأثير وإقناع المتلقِّي، بصَرْف النَّظَر عن صِدْق الحجَّة وصحَّتِها، فليست غايتُه البرهنةَ القطعيَّة الصَّارمة، ولا الحُكمَ بالصِّدق والكذب، وبخلاف ذلك؛ فالبرهانُ قد يكون سليمًا، غير أنَّ المتلقِّيَ لا يقتنع به، ولا يدفعه للعمل بمقتضاه[26].
فالآليَّات الحجاجيَّة تتميَّز بفعالية جدليَّة تتجاوز البرهانَ الصارم وآليَّته الحسابية؛ حيث يؤخذ بالتراتُب والتفاضُل، وفي أحيان أخرى بالتناقُض، الذي يستسيغه العقلُ، ويقود للإقناع، بخِلاف البرهانِ الذي يمكن أن يكون دليله مستويًا ولا يقتنع به المخاطب[27].

وقد قابَل (مايير) بين المنطق والحِجاج عندما قال بأنَّ المنطِق لا يسمَحُ بأيِّ غموض؛ فأُحاديَّة المعنى المشكلة لقاعدته ليست نتاجًا لأوضاع واقعيَّة ترتبط بالاستعمال؛ ففي الأوضاع الواقعيَّة لا يتمُّ التصريح بكلِّ المعلومات، فنحن نترك للمخاطَب مجالًا لاتِّخاذ القرار بشأن المفاهيم المستعمَلَة؛ بل وفرصة جَعْلها أحاديَّة المعنى، وهذا اللَّبسُ الذي يميِّز اللغةَ الطبيعيَّةَ هو سببُ السمعة غير المحمودة للحِجاج، فلا شيء يَمنع من اللَّعب على تعدُّدية المعنى، والتلاعب بموافقة المستمع عن طريق الغموض والضبابيَّة، إذا ما كانت ألفاظ رسالةٍ ما ملتبسةً، وهذا اللبس هو ما يشكِّل غِنى اللُّغات الطبيعيَّة، فبإتاحتها إمكانيَّة مَنْح المستمع وسائلَ الحَسْم للسياق، باتِّجاه معنى معيَّن، ستتوفَّر اللُّغةُ الطبيعية على مرونة كبيرة؛ وذلك بالنَّظر إلى كلِّ وضعية ممكنة للاستعمال[28]،ولا يعود الالتباسُ الذي يَنطوي عليه الحِجاج دون غيره مِن طرق الاستدلال - إلى المعاني المتعدِّدة للَّفظ الواحدِ في الدليل، ولا لغموض تركيبِ الجملة الواحدة في الدليل؛ بحيث تَقبل هذه الجملةُ تحليلينِ نحويَّين متباينين فأكثر[29].

بل الأساس في الالتباس الحِجاجي هو أنَّ الحِجاج لا يُرجع فيه إلى أحداثٍ واقعيَّة، ولا يعتمد على ترابطات منطقيَّة ضرورية، بالإضافة إلى أنَّ قيمة الحجَّةِ وقوَّتها يختلفان وفق السياقات التي تردان فيها.

والحِجاج يتميَّز بخمسة ملامح محوريَّة:
أن يتوجَّه لمستمعٍ - أن يعبِّر عنه بلُغة طبيعيَّة - مسلَّماته لا تَعدو أن تكون احتماليَّةً - لا يفتقر تقدُّمه إلى ضرورة منطقية بمعنى الكلمة - ليست نتائجه ملزمة.

كما حدَّد بيرلمان لوظائف الحِجاج سُلَّمًا يتكوَّن من ثلاث درجات، وهي:
الإقناع الفكري الخالص.
الإعداد لقَبول أطروحة ما.
الدفع للفعل[30].

وقد اعتبر (بيرلمان) عنصرَ "القصد والمقام" أساسين لكلِّ حِجاج خِطابي؛ فالقصد حاسِمٌ في تحديد مجال التخاطُب، وهو محدِّدٌ لطبيعة المخاطبين المستهدفين بالتأثير عبرَ الاحتجاج؛ لذلك قد يتَّسع مجال المخاطبين، فينطلق من إقناع المتكلِّم نفسه بقضيَّةٍ ما إلى إقناع الناس جميعًا[31].

ووفق (بيرلمان) يَنبغي التركيزُ على معايير الأولوية في ما يتعلَّق بعلاقة المخاطبين مع المقام والموضوع معًا، فكلَّما استُثمِرتْ حقائق فعليَّة وأحداثٌ محدَّدة يثِق المخاطَبون في ثبوتها، كان التأثير أكبرَ.
والخِطابُ الحجاجيُّ تقف وراءه ذاتٌ متكلِّمة؛ أي: إنَّ له مصدرًا، وكثيرٌ مِن أفعال القول - حسب ديكرو - تملك وظيفةً حجاجيَّة، عندما تستهدف توجيهَ المتلقي، لكي يَفعل أو يترك؛ ولذلك يصطلح (ديكرو وأنسكومبر) على هذا الحِجاج الخِطابي "الحِجاج داخل اللغة"؛ فالأمر يتعلَّق بالحِجاج أو منطق الكلام؛ أي: القواعد الداخليَّة للخطاب، والتي تشكِّل ترابطه وتسلسله[32].

ونظريَّةُ الحِجاج امتدادٌ وتطوير لنظريَّة الأفعال اللغوية، فـ (ديكرو) يعُدُّ الحِجاجَ فعلًا لغويًّا خاصًّا، والحِجاج بالنِّسبة لنظريَّة الأفعال اللغوية هو إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخِطاب؛ أي: متواليات مِن الأقوال والجمَلِ، بعضها بمنزلة الحُجَج، والبعض الآخر بمنزلة النتائج المستنتجة منها.
والحِجاجُ علاقةٌ دلالية بين الأقوال في الخِطاب، تنتج عن عمَل المحاجَّة؛ وهذا عملٌ مَحكوم بقيود لغويَّة، كما أنَّ القيمة الأساسيَّة للقول ترجِعُ في جزء مهمٍّ للاستعمال الحِجاجي، رغم أنَّ الحِجاج مسجَّل في بنية اللغة ذاتها[33].

ويتمثَّل (الغرض الحجاجي) في جَعْل موضوع الخِطاب ممكنًا بالرجوع إلى العقل، وهو غرَضٌ ممكِنُ التحقُّق، بواسطة "الحجة المادية"، غير الصناعيَّة المعتمدة على الوقائع الموضوعيَّة (العقود والشهادات)، وعلى الخلفيَّة العامَّةِ المشكَّلة من آراء المجتمع (ما يهم الأخلاق مثلًا)، ويتحقَّق هذا الغرض مِن ناحية أخرى بـ "الحجة المنطقية" و"شبه المنطقية" (الصناعية) التي تتَّجه مِن الخاصِّ إلى العام (الاستقراء)، أو مِن العامِّ إلى الخاص (الاستنباط)، والقصد من ذلك جعْلُ غير المحتمل محتملًا، وغير الأكيد أكيدًا، ويمتدُّ مجالُ هذا النشاط إلى الجانب البرهانيِّ للخطاب (الاحتجاج)، كما يمتدُّ إلى أيِّ شكلٍ مِن النصوص الاحتجاجيَّة؛ (مثل العرض السياسي)[34]، كما أنَّ غايته هي جَعْل العقول تذعِنُ أو تزيد في مستوى الإذعان؛ ولذلك فأنجَعُه هو الموفق لتقوية حدَّة الإذعان عند السَّامِع؛ بحيث يحثُّه على الإنجاز أو العدول، أو ما وفق لتهييء السَّامعين للعمل في الوقت المناسِبِ[35].

ورغم تعدُّد نظريات الحِجاج واتجاهاته، فإنه يُعدُّ من الأبواب الأساسيَّة في التداولية، فهو أحد الأركان فيها، ومجال غَنيٌّ يَنبثق من تيارَي المنطِقِ والبلاغة الفلسفية، كما أنه يغطِّي كلَّ مَجالات الخِطاب الاجتماعي والسياسي والقانوني والإشهاري، والذي يروم إقناعَ المتلقِّي وإفهامه، بصَرْف النظر عن الطريقة المتَّبَعة وطبيعة الموضوع المناقَش.

وقد عولِج الحِجاجُ في التداولية، باعتباره فعلًا تداوليًّا، يفسر بإبراز مراتب المتكلِّمين وما يقومون به مِن أدوارٍ في الفعل الكلامي وبيان أهميَّة السياق التخاطبي، كما اعتُبرتِ الروابط الحجاجيَّة في التداولية أدواتٍ مساهمةً في تحديد العلاقة الخِطابية بين المتكلمين من جِهة، وبين أطراف النصِّ مِن جهة أخرى، كما اهتمَّتْ بـ (السلالم الحجاجية) في الأقوال؛ ولهذا اتَّخذ التحليلُ التداولي للحجاج النصوصَ وطرائق إنتاجها موضوعَه المحوريَّ؛ وذلك للمساهمة في تحديد أسُس قراءة النصوص الحجاجية[36].

وقد "أصبحتِ التداولية في إطار الحِجاج أقربَ إلى الإبداع منها إلى الاتباع، تَسعى إلى معرفةٍ عميقة للعالم والإنسان واللُّغة، وإلى مَعرفة الماضي والحاضِر، ومعرفة العلوم والثَّقافات، والوقائع والأحداث، والتوقُّعاتِ والملابسات؛ بل معرفة النوايا، وبذلك أصبحت تشتغل على قضايا اجتماعية وسياسية، ناهيك عن بُعدها المعرفي"[37]، بخلاف المنطِق الصوريِّ الذي يَعتمد لتحصيل معنى القول (إيجابًا أو سلبًا) على تَحليل القولِ الخبريِّ، خصوصًا الحملي؛ بإعطاء أسبقيَّة منطقيَّة ونظرية لمعاني مُفرداته، معتمِدًا في تقويم الأقوال وتحديد دلالتها على أصولٍ برهانية، معتبرًا القولَ تركيبًا لمفردات تدلُّ في تآلُفها على معنى كلِّيٍّ، مستغنية في شكلها وترتيبِها عن اعتبار مضامينها القصديَّة، معتبرًا أن القول يفيد معناه بمقتضى "الاستلزام الصناعي"، انطلاقًا مِن أنَّ مدلول القول يقوم بناءً على تركيب مدلولات أجزائه (مفرداته)، وليس على أساس كونه تابعًا للمعنى المراد تبليغه، ممَّا يَعني التقيُّد بمبدأ عام هو "تفرُّع المعنى الكلِّي على معنى الجزء"، وهذا ما يخالف المبدأَ الأساسي في "نظرية النظم" القائمة على أساس "الكلام النفسي"؛ أي: وجود المعنى والقصد والفِكرة في الذِّهن قبلَ استوائها في الملفوظ؛ أي: انتقالها مِن القوَّة إلى الفعلِ.

ولهذا؛ فالتدليلُ الحِجاجيُّ الذي يمارَس في الخِطابات الطبيعية ذو فِعلٍ تداوليٍّ، أمَّا التحليل المعتمِد على القواعد الصوريَّة، فطبيعتُه آليَّة صوريَّة، في التصديق والتصوُّر، وهو مرتبط بلغة اصطناعية، ولا يَكترث باللغة الطبيعيةِ؛ لذلك لا يُعير أيَّ اهتمامٍ لمقام القول ولا للقائل؛ أي: إنَّه مستقلٌّ عن كلِّ فِعل تداوليٍّ.


[1] ينظر: ابن منظور: "لسان العرب"، إعداد وتصنيف: يوسف خياط، تقديم: الشيخ عبدالله العلايلي، دار لسان العرب، بيروت، مادة حجج.
[2] ينظر: طه عبدالرحمن (2000) "اللسانيات والمنطق والفلسفة" المركز الثقافي العربي ص 121.
[3] Voir: Anscombre et ducrot " L ’argumantation dans la langue" Piere Mardaga. Editeur, 2ed p 15 et 16.
[4] ينظر: رضوان الرقبي (2 أكتوبر ديسمبر 2011) "الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله"، مجلة عالم الفكر، المجلد 40، ص 88.
[5] ينظر: عبدالسلام عشير (2010) "تطور التفكير اللغوي من النحو إلى اللسانيات إلى التواصل"، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، ص (152، 153).
[6] ينظر: رضوان الرقبي "الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله" ص (83).
[7] ينظر: عبدالسلام عشير "تطور التفكير اللغوي من النحو إلى اللسانيات إلى التواصل" ص (3).
[8] ينظر: محمد نظيف (2010) "الحوار وخصائص التفاعل التواصلي: دراسة تطبيقية في اللسانيات التداولية"، إفريقيا الشرق ص (9).
[9]محمد الولي (2 أكتوبر ديسمبر 2011) "مدخل إلى الحجاج أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان"، مجلة عالم الفكر، المجلد 40، ص 11.
[10] Voir: Michel Meyer)1982" (Logique langage et Argumentation" Classique Hachette,P13.
[12] ينظر: محمد الولي "مدخل إلى الحجاج أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان" ص (12).
[13] ينظر: محمد الولي "المرجع نفسه" ص (13).
[14] ينظر: محمد الولي "المرجع نفسه" ص (14).
[15] ينظر: هشام بلخير (2011/ 2012) "آليات الإقناع في الخطاب القرآني" (سورة الشعراء نموذجًا) "دراسة حجاجية"، مذكرة مكملة لنيل درجة الماجستير في اللسانيات العامة، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر ص 46.
[16] ينظر: محمد نظيف "الحوار وخصائص التفاعل التواصلي" ص (7).
[17] ينظر: طه عبدالرحمن "التواصل والحجاج" مطبعة المعارف الجديدة، كلية الآداب، أكادير ص (6).
[18] ينظر: رشيد الراضي (1 يوليو سبتمبر 2005) "الحجاجيات اللسانية عند أنسكومبر وديكرو" عالم الفكر، المجلد 34، ص 225.
[19] Voir:J c Anscombre" dynamique du sens et scalarite , " (art) "logue de cerizy p 126.
[20] Voir:Ibid , p 126.
[21] Voir:Oswald ducrot)1989 (" Les échelle argumantatives " Editions de Mimuit Paris p 18.
[22] ينظر: رضوان الرقبي: "الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله" مجلة عالم الفكر، ص (90).
[23] ينظر: رضوان الرقبي "المرجع نفسه" ص (81).
[24] ينظر: أبو بكر العزاوي، (2006) "الحجاج والمعنى الحجاجي" سلسلة ندوات ومناظرات، تنسيق حمو النقاري، "التحاجج طبيعته ومجالاته ووظائفه وضوابطه" منشورات كلية الآداب الرباط، مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء، ص (57).
[25] ينظر: رضوان الرقبي "الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله" ص (91).
[26] ينظر: رضوان الرقبي "المرجع نفسه" ص (82).
[27] ينظر: طه عبدالرحمن "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" ص (65).
[28]Voir: Michel Meyer" Logique , langage et Argumentation" P 113.
[29] ينظر: طه عبدالرحمن (1987) "اللسان والميزان أو التكوثر العقلي" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ص 230.
[30] ينظر: محمد العمري (1997) "المقام الخطابي والمقام الشعري في الدرس البلاغي" المجلة العربية للثقافة: السنة 16، عدد 32 مارس، ص (19 و20).
[31] ينظر: محمد العمري "المرجع نفسه" ص (19).
[32] Voir:Oswald ducrot" Les échelle argumantatives" p 12.
[33] Voir:Ibid , p16.
[34] ينظر: هنري بليت (1999) "البلاغة والأسلوبية: نحو نموذج سيميائي لتحليل النص" ترجمة وتقديم وتعليق: محمد العمري، إفريقيا الشرق، ص (25).
[35] ينظر: رضوان الرقبي "الاستدلال الحجاجي التداولي وآليات اشتغاله" ص (83).
[36] ينظر: رضوان الرقبي "المرجع نفسه" ص (87).
[37] ينظر: عبدالسلام عشير "تطور التفكير اللغوي من النحو إلى اللسانيات إلى التواصل" ص (145).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.83 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.06%)]