عرض مشاركة واحدة
  #170  
قديم 19-09-2022, 01:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,591
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 339الى صــ 346
الحلقة (170)






[ ص: 339 ] الخامسة : ويحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه . ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده . وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا .

السادسة : فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع ، فعلى المفلس ضمانه ، ودين الغرماء ثابت في ذمته . فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له ، كان عليهم ضمانه وقد برئ المفلس منه . وقال محمد بن عبد الحكم : ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء .

السابعة : العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة . والنظرة التأخير والميسرة مصدر بمعنى اليسر . وارتفع " ذو " بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث ، هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما . وأنشد سيبويه :


فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ويجوز النصب . وفي مصحف أبي بن كعب " وإن كان ذا عسرة " على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة . وقرأ الأعمش " وإن كان معسرا فنظرة " . قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب . قال النحاس ومكي والنقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين ، وقد تقدم . وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان " فإن كان - بالفاء - ذو عسرة " . وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال : في مصحف عثمان " وإن كان ذا عسرة " ذكره النحاس . وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء . وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن " فنظرة " بسكون الظاء ، وهي لغة تميمية وهم الذين يقولون : في كرم زيد بمعنى كرم زيد ، ويقولون كبد في كبد . وقرأ نافع ، وحده " ميسرة " بضم السين ، والجمهور بفتحها . وحكى النحاس عن مجاهد وعطاء " فناظره - على الأمر - إلى ميسرهي " بضم السين وكسر الراء وإثبات الياء في الإدراج . وقرئ " فناظرة " قال أبو حاتم لا يجوز فناظرة ، إنما ذلك في " النمل " لأنها امرأة تكلمت بهذا لنفسها ، من نظرت تنظر فهي ناظرة ، وما في " البقرة " فمن التأخير ، من قولك : أنظرتك بالدين ، أي أخرتك به . ومنه قوله : أنظرني إلى يوم يبعثون وأجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج وقال : هي من [ ص: 340 ] أسماء المصادر ، كقوله تعالى : ليس لوقعتها كاذبة . وكقوله تعالى : تظن أن يفعل بها فاقرة وك خائنة الأعين وغيره .

الثامنة : قوله تعالى : ( وأن تصدقوا ) ابتداء ، وخبره خير . ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك . وقال الطبري : وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم . والصحيح الأول ، وليس في الآية مدخل للغني .

التاسعة : روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة . ثم قلت : بكل يوم مثله صدقة ، قال فقال : بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة . وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه . وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسر . فقال : آلله ؟ قال : آلله . قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ، وفي حديث أبي اليسر الطويل - واسمه ، كعب بن عمرو - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله . ففي هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها . وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته ، وإن لم [ ص: 341 ] تثبت عسرته عند الحاكم . وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر . والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته . وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له : إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل .
قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

قيل : إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء ، قاله ابن جريج . وقال ابن جبير ومقاتل : بسبع ليال . وروي بثلاث ليال . وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه عليه السلام قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين . وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية .

قلت : وحكي عن أبي بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل : لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر الآية . والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر . ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ( يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة ) . ذكره أبو بكر الأنباري في " كتاب الرد " له ، وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل ، وأنه عليه السلام عاش بعدها أحدا وعشرين يوما ، على ما يأتي بيانه في آخر سورة إذا جاء نصر الله والفتح إن شاء تعالى . والآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان . و ( يوما ) منصوب على المفعول لا على الظرف . ترجعون فيه إلى الله من نعته . وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم ، مثل إن إلينا إيابهم واعتبارا بقراءة أبي " يوما تصيرون فيه إلى الله " . والباقون بضم التاء وفتح الجيم ، مثل ثم ردوا إلى الله [ ص: 342 ] . ولئن رددت إلى ربي واعتبارا بقراءة عبد الله " يوما تردون فيه إلى الله " وقرأ الحسن " يرجعون " بالياء ، على معنى يرجع جميع الناس . قال ابن جني : كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة ، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم : واتقوا يوما ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم . وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية . وقال قوم : هو يوم الموت . قال ابن عطية : والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية . وفي قوله ( إلى الله ) مضاف محذوف ، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه . ( وهم ) رد على معنى ( كل ) لا على اللفظ ، إلا على قراءة الحسن " يرجعون " فقوله " وهم " رد على ضمير الجماعة في " يرجعون " . وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال ، وهو رد على الجبرية ، وقد تقدم .
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم

[ ص: 343 ] فيه اثنتان وخمسون مسألة :

الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين قال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين . وقال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلم خاصة . معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا . وقال ابن خويزمنداد : إنها تضمنت ثلاثين حكما . وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض ، على ما قال مالك ، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات . وخالف في ذلك الشافعية وقالوا : الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون ، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه .

الثانية : قوله تعالى : ( بدين ) تأكيد مثل قوله ولا طائر يطير بجناحيه . فسجد الملائكة كلهم أجمعون . وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا ، قال الشاعر :


وعدتنا بدرهمينا طلاء وشواء معجلا غير دين
وقال آخر :


لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أوقدوا حطبا ونارا فذاك الموت نقدا غير دين
وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق ( إلى أجل مسمى ) .

الثالثة : قوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) قال ابن المنذر : دل قول الله ( إلى أجل مسمى ) على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز ، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى . ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم رواه ابن عباس . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما . وقال ابن عمر : كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة . وحبل الحبلة : أن تنتج الناقة ثم تحمل التي [ ص: 344 ] نتجت . فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف ، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها . بكيل معلوم ، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة ، يدفع ثمن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه ، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام . فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله .

قلت : وقال علماؤنا : إن السلم إلى الحصاد والجذاذ والنيروز والمهرجان جائز ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم .

الرابعة : حد علماؤنا رحمة الله عليهم السلم فقالوا : هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم . فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول ، ومن السلم في الأعيان المعينة ، مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي عليه السلام فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعيانها ، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر ، إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا . وقولهم ( محصور بالصفة ) تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل ، كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة .

وقولهم ( بعين حاضرة ) تحرز من الدين بالدين . وقولهم ( أو ما هو في حكمها ) تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه ، فإنه يجوز تأخيره عندنا ذلك القدر ، بشرط وبغير شرط لقرب ذلك ، ولا يجوز اشتراطه عليها . ولم يجز الشافعي ولا الكوفي تأخير رأس مال السلم عن العقد والافتراق ، ورأوا أنه كالصرف . ودليلنا أن البابين مختلفان بأخص أوصافهما ، فإن الصرف بابه ضيق كثرت فيه الشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر . والله أعلم .

وقولهم " إلى أجل معلوم " تحرز من السلم الحال فإنه لا يجوز على المشهور وسيأتي . ووصف الأجل بالمعلوم تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه .

الخامسة : السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد وقد جاءا في الحديث ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب ( السلم ) لأن السلف يقال على القرض . والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق ، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك . وأرخص في السلم ؛ لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة ، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها [ ص: 345 ] لينفقه عليها ، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية ، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج ، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة . والله أعلم .

السادسة : في شروط السلم المتفق عليها والمختلف فيها وهي تسعة : ستة في المسلم فيه ، وثلاثة في رأس مال السلم . أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة ، وأن يكون موصوفا ، وأن يكون مقدرا ، وأن يكون مؤجلا ، وأن يكون الأجل معلوما ، وأن يكون موجودا عند محل الأجل . وأما الثلاثة التي في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس ، مقدرا ، نقدا . وهذه الشروط الثلاثة التي في رأس المال متفق عليها إلا النقد حسب ما تقدم . قال ابن العربي : وأما الشرط الأول وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة ؛ لأنه مداينة ، ولولا ذلك لم يشرع دينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا . وعلى ذلك القول اتفق الناس . بيد أن مالكا قال : لا يجوز السلم في المعين إلا بشرطين : أحدهما أن يكون قرية مأمونة ، والثاني أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة ، ولم يقل ذلك أحد سواه . وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل ؛ لأن التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر ، لئلا يتعذر عند المحل . وإذا كان الموضع مأمونا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك ، إذ لا يتيقن ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه ، ولابد من احتمال الغرر اليسير ، وذلك كثير في مسائل الفروع ، تعدادها في كتب المسائل . وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة ، وهي مبنية على قاعدة المصلحة ؛ لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء ؛ لأن النقد قد لا يحضره ولأن السعر قد يختلف عليه ، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد ؛ لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له . فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح . وأما الشرط الثاني وهو أن يكون موصوفا فمتفق عليه ، وكذلك الشرط الثالث . والتقدير يكون من ثلاثة أوجه : الكيل ، والوزن ، والعدد ، وذلك ينبني على العرف ، وهو إما عرف الناس وإما عرف الشرع . وأما الشرط الرابع وهو أن يكون مؤجلا فاختلف فيه ، فقال الشافعي : يجوز السلم الحال ، ومنعه الأكثر من العلماء . قال ابن العربي : واضطربت المالكية في تقدير الأجل حتى ردوه إلى يوم ، حتى قال بعض علمائنا : السلم الحال جائز . والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه ؛ لأن المبيع على ضربين : معجل وهو العين ، ومؤجل . فإن كان حالا ولم يكن عند المسلم إليه فهو من باب : بيع ما ليس عندك ، فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد على صفته وعلى شروطه ، [ ص: 346 ] وتتنزل الأحكام الشرعية منازلها . وتحديده عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها . وقول الله تعالى ( إلى أجل مسمى ) وقوله عليه السلام : ( إلى أجل معلوم ) يغني عن قول كل قائل .

قلت : الذي أجازه علماؤنا من السلم الحال ما تختلف فيه البلدان من الأسعار ، فيجوز السلم فيما كان بينه وبينه يوم أو يومان أو ثلاثة . فأما في البلد الواحد فلا ؛ لأن سعره واحد ، والله أعلم . وأما الشرط الخامس وهو أن يكون الأجل معلوما فلا خلاف ، فيه بين الأمة ، لوصف الله تعالى ونبيه الأجل بذلك . وانفردمالك دون الفقهاء بالأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد ؛ لأنه رآه معلوما . وقد مضى القول في هذا عند قوله تعالى يسألونك عن الأهلة . وأما الشرط السادس وهو أن يكون موجودا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة أيضا ، فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء .

السابعة : ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه خلافا لبعض السلف ، لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال : بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى فقالا : سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ؟ فقال عبد الله : كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم . قلت : إلى من كان أصله عنده ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك . ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا ؟ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الأجل ، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا ، وخالفه سائر الفقهاء وقالوا : المراعى وجوده عند الأجل . وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومئونة وقالوا : السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض . وقال الأوزاعي : هو مكروه . وعندنا لو سكتوا عنه لم يفسد العقد ، ويتعين موضع القبض ، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث ، لحديث ابن عباس فإنه ليس فيه ذكر المكان الذي يقبض فيه السلم ، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والأجل ، ومثله حديث ابن أبي أوفى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]