عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 19-09-2022, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,455
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ابن المقفع والثالوث القديم

ابن المقفع والثالوث القديم


د. أسعد بن أحمد السعود



ثانيًا- أمة الروم:
اتخذَت عناصر غلَبِها على الفرس عناوينَ دائمة، وأصبحَت لها نهجًا، وظنَّت أنها أسباب نصر دائم، وظنَّته حقًّا لها في التوسع والظلم في كل اتجاه، وبالتالي أبقتها، وأعدتها أركان قيامها واستمرار وجودها، وهي:


العقل (الوثني بعد إنكارِها نبوَّةَ محمد)، واتخاذها دين الثالوث (الأب والابن والروح)- القوة- والعِرق (الرومي).

ثالثًا: لقد عُمِّم نهج الثالوث هذا فيما بعد، واتخذَته الأمم دستورًا لها؛ كإطار للتفوُّق والاستعلاء والاستمرار.
ونُلخِّصه في شكل مثلَّث أو هرم، رأسه العقل أو المعتقد المقدَّس، وقاعدته رُكنا القوَّة والعِرق.

رابعًا: في عصرنا الراهن يتلخص الثالوث في الأركان الثلاثة التالية:
العَلمانيَّة رأس المثلث- والقوة- والعولَمة بدل العِرق.

خامسًا: بعد كل هذه الدلائل: ما علاقة ابن المقفَّع وكتابِه (كليلة ودمنة) بالثالوث القديم؟
يقول ابن المقفع على لسان (بيدبا) الفيلسوف الذي ادَّعى أنه صاحب كتاب كليلة ودمنة الأصلي، مخاطِبًا وواعظًا عظيمَ زمانه (دبشليم) ملك أمة الهند:
"إني وجدتُ الأمور التي يختص بها الإنسانُ من بين سائر الحيوان أربعة: الحكمة- والعفة- والعقل- والعدل؛ فالعلم والأدب والرَّوِية في باب الحكمة، والحلم والصبر والوقار في باب العقل، والحياء والكرم والصيانة والأنَفة في باب العفَّة، والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق في باب العدل".

ويتابع: "متى كملت هذه في واحد، لم يُخرِجه النقصُ في نعمته إلى سوء، ولا إلى نَقصٍ في عُقباه، ولم يتأسَّف على ما لم يُعنَ التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تَجري به المقادير في ملكه، ولم يدهش عند مكروه؛ فالحكمة كنزٌ لا يفنى على الإنفاق، وذخيرة لا يُضرب بها بالإملاق، وحلَّة لا تخلَق جِدَّتها، ولذة لا تصرم مدتها".

وقال ابن المقفَّع أيضًا في موضع تقديمه وتعريفه لكتابه هذا: (كتاب الجِدِّ والهزل واللهو والحكمة والفلسفة)، وله فيه أغراض:
الأول: ما قصد فيه إلى وضعه (على ألسنة البهائم غير الناطقة!).
الثاني: إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان.
الثالث: على هذه الصفة (كتاب للتداول في البيع والشراء ليس إلاَّ).
الرابع: هو الأقصى، مخصوص بالفيلسوف خاصة.

وقال ابن المقفع في موضع على لسان (بهنود بن سحوان) ويعرف بـ(علي بن الشاه الفارسي)
كاتب مقدمة الكتاب للفارسيَّة بعدما أنفذ كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز ملكُ الفُرس
(برزويه) رأسَ أطباء فارس إلى بلاد الهند؛ لأجل استحضار كتاب كليلة ودمنة بطريقة الحيلة والسرقة إلى بلاده؛ قال الآتي:
ذكر السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة، وجعله على ألسنة البهائم والطير؛ (صيانة لغرَضه) فيه من العوام، وضنًّا بما ضمَّنه عن (الطَّغام)، ويُعنِّي الأرذال الأدنياء، وتنزيهًا للحكمة وفنونها ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي (أي: الحكمة) للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة، ولمحبِّيها تثقيف، ولطالبيها تشريف، وأضاف: وخص كسرى برزويه ما يلزم مطالعه من إتقان قراءته، والقيام بدراسته، والنظر إلى باطن كلامه، وأنه إن لم يكن كذلك، لم يحصل على الغاية منه.

كيف لنا (نحن العوامَّ) فهمُ ما اختص به (الفيلسوف) من الحكمة، بعد أن شَبِعنا من اللهو واكتفينا من الهزل، من جرَّاء تكرار القراءة- من قبل أجيال- لأحداثِ شُخوص الكتاب، على مدى عشَرات ومئات السنين، ولا يَغيب عن الذِّكر أنه كذلك أدرج لسنوات عديدة في المناهج التعليميَّة الإلزامية الأساسية لكثيرٍ من الدول العربية والإسلامية، وكان يعتبر مصدرًا ملهمًا في دروس اللغة العربية، في قسم الإنشاء والتعبير، والذي يحزُّ في النفس أنه كان مُحاطًا بهالةٍ منفردة ذات مرجعيَّة سُلطوية، لا تَسمح بالتعرُّض له أبدًا، سواء كان نقدًا أدبيًّا ظاهرًا أم باطنًا، وتَرفض أي تهمةٍ تلقى عليه، وتدَّعي أنه كتاب جادٌّ كلَّ الجِد، ليس فيه هزلٌ ولا تعريضٌ بأيٍّ من القيم الخالدة لديننا الإسلاميِّ الحنيف.

فكيف يكون؟! ومن أيِّ مدخل ندخل عليه من دون أن نُتَّهم بتلك التهم الجاهزة سلفًا والتي ذكَرها مؤلف الكتاب؛ سواء كان الفارسي (ابن المقفع) الذي كتَبه بالعربية، أو الهندي (بيدبا) الذي كتبه بلغته الميتة المندثِرة التي لا نَعرفها، وإن كانت الفارسية هي التي ادَّعى ابن المقفع أنه ترجمها إلى العربية؟!

إنَّ أول الغيث يكون بذِكْر الله عز وجل ومَنِّه وبه نتوكَّل عليه، والحمد لله رب العالمين:
كلمة (عقل): هي أول مدخل ندخل بواسطتها على ابن المقفَّع في كتابه.
سوف نجد أن كلمة (عقل) هي التي قصد بها في مقدمته أنَّها تشكل (مندوحةً) للفيلسوف الذي اشتهر عادة وعُرف- بنِتاج فلسفته- بأنه استَعمل عقله، فخرجَت منه حكمته، وهي الباطن المعنيُّ مِن فهم الكتاب وأبعادِه ومراميه البعيدة، وهي الحاجز الذي عبَّر عنه بعبارة (صيانة لغرضه) مِن العوامِّ والطَّغام؛ ذلك لأدنى وصفٍ يعم هؤلاء، أو يعرفون بأن لا عقل لهم، أو لا يَستخدمون عقولهم في تدبير شؤون حياتهم اليومية في أقلِّ تقدير؛ فلذلك اقتضى منه التنبيه والتحذير منهم مقدمًا.

بدايةً نتناول أسماء لأشخاصٍ تَقابل أيٌّ منهم مع الآخر في حدثٍ ما، في زمن واحد، وفي مكان واحد، كان العقل بينهما شاهدًا ومؤرِّخًا ومصوِّرًا، جمع التضادَّ والتناقض، فنتج عنه جزءٌ مهمٌّ من كتاب كليلة ودمنة:
أولاً: الإسكندر المقدوني وملوك الهند، ومن وراء كل منهما شعوبهما.
ثانيًا: بيدبا الفيلسوف رأس البراهمة الهنود، وتلامذته من البراهميين.
ثالثًا: بيدبا الفيلسوف وملك أمة الهنود.
رابعًا: كسرى أنو شروان ملك الفرس، ورأس أطبائهم برزويه.
خامسًا: الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وابن المقفع.
سادسًا: ابن المقفع والعرب قاطبة.
سابعًا: العرب قاطبة والدين الاسلامي.

هذه الأولويات السبع وما يُضادُّها كما قلنا من السُّهولة فَهمُ كلِّ رابط يربطهم بالبُعدَين الزَّماني والمكاني، إذا حلَلْنا لغز مفهوم (العقل) الذي استهدفَه ابن المقفع بلسان فيلسوفه بيدبا الهندي، والذي وقع في فخِّه فيما بعدُ ابن المقفع نفسُه!

مفهوم العقل في الفلسفة الوجودية:
لنرَ ما كتب ابن المقفع في الباب الثاني على لسان (بُزُرْجُمِهرَ) عن العقل:
"أمَّا بعدُ، فإنَّ الله تبارك وتعالى خلَق خلقه أطوارًا برحمته، ومنَّ على عباده بفضله ورزَقَهم ما يَقدرون به على إصلاح مَعايشهم في الدنيا، وما يُدركون به استنقاذَ أرواحهم من أليمِ العذاب؛ فأفضل ما رزقهم ومنَّ عليهم به العقل الذي هو قوَّةٌ لجميع الأحياء، فما يَقدر أحدٌ منهم على إصلاح معيشة، ولا إحراز منفعة ولا دفع ضر إلاَّ به، وكذلك طالب الآخرة المجتهد على استنقاذَ روحه من الهلَكة.

فالعقل هو سببُ كلِّ خير، ومِفتاحُ كلِّ رغبة، وليس لأحد غنًى عنه، وهو مكتسَبٌ بالتَّجارِب والآداب، وغريزةٌ مكنونة في الإنسان، كامنة ككُمون النَّار في الحجر والعود، لا تُرى حتى يَقدَحها قادحٌ مِن غيرها، فإذا قدَحَها ظهرت بضوئها وحريقها! كذلك العقلُ كامنٌ في الانسان، لا يَظهر حتى يُظهِرَه الأدبُ، وتقوِّيَه التجارِب، فإذا استحكم كان هو السابقَ إلى الخير والممتنِع عن الضر، فلا شيءَ أفضل من العقل والأدب، فمَن منَّ عليه خالقُه بالعقل وأعان هو على نفسه بالمثابرة على الأدب، والحرص عليه سعد جدُّه، وأدرك أملَه في الدنيا والآخرة"...

ويتابع:
"وقد رزَق الله ملِكَنا هذا السعيدَ الجَدِّ (الحظِّ والطَّالع) أنوشروان من العقل أفضلَ الرِّزق، ومن النصيب أجزله، وأعانه على ما رُزق من ذلك بحُسن الأدب والبحث عن العلم، وطلب التفسير لجميع علوم الفلسفة، والاستنباط عما غاب، والتخيُّر للصواب مما ظهر، فبلغ في ذلك ما لم يبلغه ملِكٌ قطُّ ممن كان قبله من الملوك".

استدراك:
من الجدير بالذِّكر والمهم جدًّا، في مقارنة الأحداث التاريخيَّة ووقائعها أن كسرى أنوشروان هذا بعدَما حصل على الكتاب (كليلة ودمنة)، واستعمل عقله وأدبه على أوسع قدراته، سار به (عقلُه) هذا لِمُقارعة هرقل قيصر الروم؛ باستلهام أنه أصبح يمتلك كتابًا مثلَ كتاب أهل الروم (الكتاب المقدَّس)، وأنَّ فيه من الآداب والحكمة والعفَّةِ مثلَ ما في كتاب أهل الروم واليمَن، وأن له آلهة (النَّيروز) مثلَ ما لهم كذلك، وأعدَّ جنده بأفضل قوة، وسار له إلى أرض الشام (أدنى الأرض) غور الأردن، و(تغلَّب عليهم).

ثم إن كسرى هذا لما جاءته أنباء من جزيرة العرب أنه قد ظهَر فيهم مَن لديه (كتاب) فيه من الحكمة والأدب والأخلاق والعلوم ما يَفوق كتابَه ويتغلَّب عليه، وأنه منزل من السماء، ويقول عن نفسه: إنه نبي مرسَل من الإله الأوحد، استثار واستشاط وهدَّد وقال ما قال في ذلك العربي، ثم بعَث إلى عامله في اليمن (بادان)، وأمره بأن يَستقصيَ الخبر، وأن يأتيَه بذلك النبي، ويُحضره إليه في المدائن، والقصة إلى آخرها معروفة في السيرة النبويَّة الصادقة العَطِرة؛ على صاحبها أزكى الصلاة وأتمُّ التسليم.

وقبل أن نعود ونستطرِد في الحديث عن العقل في الفلسفة الوجودية، لا بد من ذِكْر بعض ما دلَّس به ابنُ المقفع في ترجمته لمقدمة بزرجمهر تلك لِمَلِكه كِسرى، وإن كان هذا الكلام من تأليف ابن المقفَّع كما أثبتَ كثيرٌ من النقَّاد والمفكرين والمعجَبين والمؤيِّدين له، فالمآل واحدٌ باتِّجاه الكذب والافتراء البائن، وهذا- بحمد الله ومَنِّه- يُساعدنا في تيسير مهمة حديثنا؛ لنقول:
إن أول التَّدليس كان قولَه: "أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى" فهذا قولٌ يقوله عامَّة المسلمين من أمَّة محمد، ومنهم المؤمنون خاصَّة من الدُّعاة والوُلاة والقرَّاء.. إلى آخره، ولا يتلفَّظ بهذه العبارة القوية الصادقة إلاَّ رجلٌ مؤمن بكتاب النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن الكريم)، فكيف – فجأةً- نقرؤها وقد جاءت على لسان فيلسوفِ كسرى بزرجمهر، وهو يُلقيها وجهًا لوجه وهم جميعًا في ذاك الزمان والمكان لا يعرفون مَن هو الله؟ ومن هو تبارك؟ ومن هو تعالى؟!

وثاني التدليس: جاء بذِكر عبارة "خلَق خلقه أطوارًا برحمته"؛ إن بزرجمهر بمقولته هذه وأمام كِسرى أنوشروان يدلُّ على كونِهما كانا سابِقَين للنبيِّ محمد بالإيمان بالله إله الإنسان، وإله كلِّ من يدبُّ على وجه الأرض، وكلمة "أطوارًا" اقتبَسها من سورة نوح التي نزلَت بعد زمَن هذه الحادثة بسِنين! فكيف لابن المقفَّع أن يحمل هذه، ويدخلها في هذه؟! إنها الحنكة والدهاء.


وثالث التدليس: كان في قوله: "وأدرك أمَله في الدنيا والآخرة"! وتركها عبارة مطلَقة؛ ليمرِّرها بسهولة على قارئها من العوامِّ كما قال، وتكون خاصة للفيلسوف مندوحة يفسِّرها على هواه ومِن باطن تفكير عقلِه الغامض! ونعلَم أن (الأمل)- بكلِّ اشتقاقات مَعانيه- فيه لبسٌ في القصد، ولا يجتمع في الدنيا والآخرة إلاَّ لمؤمنٍ إيمانُه لا لبسَ فيه، بالله وملائكته وكتبه ورسلِه، والقضاء والقدَرِ، بمفهومه الكامل؛ كما جاء في دينِ محمَّد، وهذا كله في الدنيا، ثم يأتي الإيمان بالآخرة بما وُعِدنا فيها؛ مِن بعثٍ ونشور للموتى، وحسابٍ وجنةٍ ونار.

يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]