عرض مشاركة واحدة
  #265  
قديم 20-09-2022, 01:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1629 الى صـ 1636
الحلقة (265)






وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة، قال الشعبي : يعجبني الرجل إذا سيم [ ص: 1629 ] هونا دعته الأنفة إلى المكافأة، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فبلغ كلامه الحجاج فقال: لله دره! أي رجل بين جنبيه! وتمثل:


ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه


وقال أعرابي لابن عباس - رضي الله عنهما -: أتخاف علي جناحا إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل

وقال المتنبي:


من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم


لطيفة:

الاستثناء في قوله تعالى: إلا من ظلم إما متصل أو منقطع، فعلى الأول فيه وجهان:

الأول: قول أبي عبيدة : هذا من باب حذف المضاف، أي: إلا جهر من ظلم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

والثاني: قول الزجاج : المصدر ههنا بمعنى الفاعل، أي: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم، وعلى أنه منقطع فالمعنى: لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.

[ ص: 1630 ] وقوله تعالى: وكان الله سميعا عليما فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون [إبراهيم: 42] ووعيد له أيضا بأن يتعدى في الجهر المأذون فيه، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك.

ثم حث سبحانه على العفو بعدما جوز الجهر بالسوء وجعله محبوبا حثا على الأحب إليه والأفضل عنده، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [149]

إن تبدوا خيرا أي: طاعة وبرا أو تخفوه أي: تعملوه سرا أو تعفوا أي: تتجاوزوا عن سوء أي: ظلم فإن الله كان عفوا قديرا أي: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة، فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، وإن كان على وجه الانتصار؛ حملا على مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العفو؛ لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى السياق: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم، فإن عفا المظلوم عنه ولم يدع على ظالمه ويتظلم منه - فإن الله عفو قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء؛ لأنه يعلم من مدح حالي الخير: السر والعلانية أن السوء ليس كذلك جهرا وإخفاء، فينبغي العفو عنه وتركه، وإنما عطف (العفو) بـ(أو) مع دخوله في الخير بقسميه للاعتداد به، والتنبيه على منزلته، وكونه من الخير بمكان مرتفع، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل: وملائكته ورسله وجبريل [البقرة: 98] لأن مثله يعطف بالواو لا بـ(أو) ولذا حمل الخير [ ص: 1631 ] على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية؛ لتغاير العفو، فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه، كذا في "العناية".

قال ابن كثير : ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك .

وفي الحديث الصحيح: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .

وقال الرازي : اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله: إن تبدوا خيرا أو تخفوه إشارة إلى إيصال النفع إليهم.

وقوله: أو تعفوا إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.

ثم نزل في اليهود إلى أواخر السورة قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا [150]

إن الذين يكفرون بالله ورسله قال ابن عباس : يعني كعبا وأصحابه ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي: في الإيمان ويقولون نؤمن ببعض من الرسل ونكفر ببعض منهم، كما قالوا: نؤمن بموسى والتوراة، ونكفر بما وراء ذلك، وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله، وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان؛ لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبي يأتي مصدقا لما معهم، ونصره، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى من حيث لا يحتسب؛ لأنهم لما تساووا في المعجزات والدعوة إلى الحق، والقيام بالخيرات في أنفسهم - كان الكفر بواحد منهم كفرا بالكل، بل وبالله [ ص: 1632 ] إذ يعتقدون فيه أنه صدق الكاذب بخلق المعجزات، كذا في "التبصير".

ويريدون بقولهم ذلك: أن يتخذوا بين ذلك أي: بين الإيمان ببعض والكفر ببعض سبيلا دينا يسلكونه، مع أنه لا واسطة بينهم قطعا.
القول في تأويل قوله تعالى:

أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [151]

أولئك هم الكافرون حقا أي: الذين كفروا كفرا ثابتا لا ريب فيه، فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيا؛ إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه.

وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا يهانون به، وهو عذاب جهنم، أي: كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبارهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - حيث حسدوه على ما أتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما [152]

والذين آمنوا بالله ورسله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم يعني بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يؤمنون بكل نبي بعثه الله، ولا يفرقون بين أحد منهم - بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين - كما فعله الكفرة.

أولئك سوف يؤتيهم أي: يعطيهم أجورهم [ ص: 1633 ] ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة وكان الله غفورا أي: لما فرط منهم رحيما مبالغا في الرحمة عليهم، بتضعيف حسناتهم.

ثم بين تعالى ما جبل عليه اليهود من اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق بقوله.
القول في تأويل قوله تعالى:

يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا [153]

يسألك أهل الكتاب قال ابن عباس : كعب وأصحابه أن تنـزل عليهم كتابا من السماء أي: كما نزلت التوراة على موسى جملة في الألواح، مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعدما وضحت البراهين على نبوتك، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان، إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر، كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء: 90] الآيات.

ولهذا قال تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك أي: مما سألوك فقالوا أرنا الله جهرة أي: رؤية ظاهرة فأخذتهم الصاعقة أي: النار النازلة من السماء بظلمهم أي: جراءتهم على الله وعتوهم وعنادهم؛ إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها، حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان، بحيث لا يفيد الإيمان معها، فلا يكادون يؤمنون إيمانا يفيدهم أصلا، ولا يبعد منهم الكفر - بعد رؤية الآيات، فإنهم رأوا آيات موسى .

ثم اتخذوا العجل أي: إلها وعبدوه [ ص: 1634 ] من بعد ما جاءتهم البينات أي: الدلائل القاطعة على نفي الشرك، ثم تابوا عنه.

فعفونا عن ذلك أي: تركناهم ولم نستأصلهم وآتينا موسى سلطانا مبينا أي حجة بينة وتسلطا ظاهرا على إهلاك من خالفه، وفي ذلك بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنصره، وإن بالغوا في العناد والإلحاد، ثم أشار إلى أنهم مع رؤيتهم الآيات لم ينقادوا لأوامر موسى ، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [154]

ورفعنا فوقهم الطور أي: الجبل ليتحملوا التكليف بميثاقهم أي: بسبب أخذ ميثاقهم؛ ليخافوا فلا ينقضوه.

قال ابن كثير : وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء على ما جاءهم به موسى - عليه الصلاة والسلام- رفع الله على رءوسهم جبلا، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رءوسهم؛ خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة [الأعراف: 171] الآية.

وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا أي: ادخلوا باب إيلياء مطأطئين - عند الدخول - رءوسكم، فخالفوا ما أمروا به، وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلا.

وقلنا لهم لا تعدوا في السبت أي: وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم مادام مشروعا لهم.

وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي: عهدا شديدا، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر [الأعراف: 163] [ ص: 1635 ] الآيات.

ثم بين تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا [155]

فبما نقضهم ميثاقهم (ما) مزيدة للتأكيد، أو نكرة تامة، و(نقضهم) بدل منها، والباء متعلقة بفعل محذوف، أي: فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم، أو على أعقابهم.

وكفرهم بآيات الله أي: حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء - عليهم السلام - وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام.

قال العلامة البقاعي : وهو أعظم من مطلق كفرهم؛ لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم؛ لأن الأنبياء سبب الإيمان، ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل رزية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه - قال تعالى: بغير حق أي: كبير ولا صغير أصلا، وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن - الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عمران؛ لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقا وصفة راسخة، بخلاف ما مضى فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض.

ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال: وقولهم قلوبنا غلف جمع (أغلف) أي: هي مغشاة [ ص: 1636 ] بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه [فصلت: 5] أي: فلا ذنب لنا؛ لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ويشهدون له بالرسالة، وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله - عطفا على ما تقديره (وقد كذبوا) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفا - بل طبع الله عليها بكفرهم أي: ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة - بل الأمر بالعكس؛ حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم؛ لأنه خلقها أولا على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم - طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة، ولذا سبب عنه قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، أو: إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به؛ لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان.
القول في تأويل قوله تعالى:

وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [156]

وبكفرهم أي: بعيسى عليه السلام، وهو عطف على (قولهم) وإعادة الجار لطول ما بينهما، وقد جوز عطفه على (بكفرهم) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع، وقيل: هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله، وتكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم؛ حيث كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد - عليهم الصلاة والسلام - كذا في أبي السعود .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 53.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 53.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.17%)]