عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 22-09-2022, 11:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,138
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أضواء على (ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم) لعمر أبو ريشة

أضواء على (ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم) لعمر أبو ريشة
د. أحمد الخاني




الوحدة العضوية في الملحمة:
تبدأ الملحمة خطوتها الأولى بالاستفهام التعجبي:
أي نجوى مخضلة النعماءِ ♦♦♦ رددتها حناجر الصحراءِ

الصحراء اللاهبة العطشى تغدو ظليلة رطيبة منعمة ذات نجوى حبيبة تترنم الصحراء بتردادها.

أما قريش؛ فلم يرق لها هذا النغم الحبيب فطاش حلمها وتبذل ما وسعها البذل.. فلن تزيل السعادة التي حباها الله للبشرية؛ ذلك لأن إرادة الله تعالى شاءت أن تنبت النبوة بواد غير ذي زرع، وأن تنسخ شريعة بني إسرائيل.

ويهل اليتيم صلى الله عليه وسلم إلى الوجود مناراً ورحمة مهداة.. وتتلقاه أمه حليمة بالبشر، وترى اليمن في طلعته الكريمة....

ويشب صلى الله عليه وسلم مبرأ من أوضار الجاهلية فنشأ صافياً حتى لقد أطلقت عليه قريش اسم (الأمين).

ومع ذلك؛ فقد مشت إلى عمه أبي طالب تكلمه في شأن ابن أخيه ليكف عنها..

وآذن الله بالهجرة إلى المدينة المنورة.. وطاشت أحلام قريش، وماذا في المدينة المنورة؟ إنه التأييد والنصرة..

وجاءت قافلة أبي سفيان.. واستنفرت مكة لحماية القافلة.. ونجت، ولكن حماقة قريش أبت إلا أن تتابع مسيرة الكبرياء والغطرسة إلى مياه بدر.

وتقابل الفريقان: وتبدأ المعركة بالمبارزة... وكان الالتحام، وقتلت صناديد قريش وأبطالها، وفر الباقون.

غدت قريش ثكلى طيلة عام حتى أدركت ثأرها في أحد..

وبعد حين، لم تدر قريش إلا وجيش الرسول صلى الله عليه وسلم يحيط بمكة... ويعفو عن أهلها.ثم انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.

وانطلقت سرايا الإسلام تضرب في الأرض شرقاً وغرباً.

فيا مكة أعيدي ذلك المجد التليد الخالد، وما أدراك أن يعود.

أضواء على النص:
يقول الدكتور إحسان عباس (ليس الشاعر هو الذي يفسر شعره أو يحكم عليه، ومن النقص أن نسأله: ماذا تعني هنا؟ وماذا تعني هناك؟ إن الشاعر قد يكون غامضاً أحياناً، ولكن الغموض في الأغلب يكون في أنفسنا وفي الحواجز التي تقوم فيها دون تحقيق الوضوح)[3]

صحيح أن الشاعر لا يفسر شعره، ولا يحكم عليه، أما ان يقول كلاماً مستغلق المعنى ونسوغه له، والأكثر من ذلك، أن نتهم أنفسنا في الحواجز التي تقوم في أنفسنا دون تحقيق الوضوح؟ فهذا مبدأ ربما غدا ثغرة يتسلل منها المغرضون باسم الشعر واسم النقد، والدكتور لم يعلمنا؛ كيف ومتى نمحوا الحواجز من أنفسنا؛ حتى إذا كان الغموض من الشاعر ندرك ذلك؛ فلا نتهم أنفسنا، ولكن ربما يوحي الدكتور أنه يحلو له تبرئة ساحة الشاعر من الغموض وإن كان واقعاً فعلاً في طرحه الشعري، ونحن لو سألنا الشاعر نفسه عن مبدأ الدكتور إحسان، فربما لا يقر هذا المنطلق الذي يكاد يعطي الشاعر العصمة من الغموض، وهنا يتداعى إلى الخاطر سؤال: ما المعالم التي نستدل بها على الغموض؛ إن كان في أنفسنا أم في نفس الشاعر؟.

إن ناقداً كالدكتور إحسان، لو سلط الأضواء على نص شعري وقرر أن فيه غموضاً، ما أظن أن أحداً يتهمه بغموض كامن في نفسه عن فهم النص، ولا أظن أنه هو نفسه يتهم نفسه بغموض ناتج عن قصور في إدراك فهم الدلالة، كل ما في الأمر في نظرنا؛ أن فكر الشاعر كان غائماً في توصيل هذا المعنى أو ذاك بشكل واضح، فهذا غير مستحيل ولا مستبعد، بل ما أكثر النصوص التي نشكو من الغموض قي نقل الدلالة إلى المتلقي.

نحن هنا سنحلل، ونقوِّم، وطبعاً ليس لنا أن نسأل الشاعر في هذه الدراسة عن معنى لم يتضح لنا، وإنما سيكون فهمنا للعمل الشعري وحكمنا عليه من خلال الدلالة التي تشي بالمعنى.

نحاول ابتداءً نلقي الضوء على نقطة التفجير التي تم في لحظة تنويرها المخاض الفني، ثم التنامي الداخلي حتى اكتمال التجربة الشعورية وانعكاساتها في ظلال من القيم التعبيرية. فنقول:
عاطفة الشاعر هنا عاطفة الإنسان المدحور أمام القوة المادية الطاغية، عاطفة سليل المجد وحفيد أبطال الفتوح أمام المستعمر الغاشم. هذه هي أصول المشاعر المتصارعة في نفس الشاعر، فما الذي يقيم التوازن الداخلي في هذا الصراع؟ لا بد من معادل موضوعي ضخم لذلك، وهذا المعادل هو انبثاق الملحمة، ومصدر هذا الانبثاق هو: الصحراء.

هذا ابسط تعليل للأعماق اللاشعورية ومعطياتها، لقد انبثق التفجير بنقطة التنوير معتمداً على جدلية النور والظلام:
أي نجوى مخضلة النعماء
رددتها حناجر الصحراء

سمعتها قريش فانتفضت غض
بى وضجت مشبوبة الأهواء


ويبدو أن الشاعر كان مشبعاً بفكرة الملحمة، وكان جوه النفسي عامراً بمعانيها غني الإحساس بها.

نظم الشاعر هذه الملحمة عام 1941م حينما كانت بلاده تحت نير الاستعمار الفرنسي، إن العقل الباطن للشاعر يرسم هنا طريق الخلاص لشعبه من الكافر الظالم الذي سلب الشعب السوري الأبي حريته ودنس أرضه، فم على الشعب السوري المعروف بإبائه بين شعوب العالم، ما عليه إلا ان يتبع الأسوة الحسنة صاحب هذه الملحمة صلى الله عليه وسلم في مجابهة الظلم.

هذه هي خلفية المعاني التي ترمز إليها الملحمة في مسيرتها البطولية.

شرعت الريشة الداخلية في رسم أجواء قريش وآفاقها، وفي الوقت نفسه نرى نظيرتها تعبر عن هذه الأحاسيس التي غدت بمثابة الظل لعمل هذه الريشة إذ تترك آثارها على أرضية العمل الفني فينشأ الأساس الهيكلي للبناء، فتتكامل اللوحة في قيمة تعبيرية.

اللوحة ما زالت طرية التكوين، والحدث ينمو داخلياُ ن فيشكل جسم التجربة الشعورية وينمو بنموه جسم القيمة التعبيرية. إلى أن يصل المشهد إلى أرض المعركة:
وقف الحق وقفة عند بدر ♦♦♦ شحذت في الغيوب سيف القضاء

ثم يصور استهزاء قريش بالمسلمين.. ثم طلبوا الأكفاء للمبارزة:
بلغت منحنى القليب ولفت
من عليه ببسمة استهزاء

وأرادت أكفاءها فتلقا
ها علي ذؤابة الأكفاء

جز بالسيف عنق شيبة وارتد
إلى صحبه خضيب الرداء


يتساءل من قرأ السيرة النبوية الشريفة وفيها معركة بدر: أين بطل الإسلام حمزة، أسد الله ورسوله؟ ذلك الذي فعل بأبطال المشركين الأفاعيل؟ وهو الأول في المبارزة في معركة بدر، قتل الأسود المخزومي، وهو من هو في جيش قريش، لقد رشحته ليكون بطلها الذي يجندل أبطال المسلمين، ومن الذي برز لهذا التنين؟ لقد برز له حمزة فقتله بالحوض.

ويقول الشاعر: إن علياً هو الذي قتل شيبة، قال ابن هشام (وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، وأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله..)[4].

الفن التصويري في الملحمة:
الفن الشعري التصويري عند أبي ريشة محلق مبدع، لقد تأثر بفيرلين وبودلير من خلال قراءاته لهذين الشاعرين؛ وهذا ما لون شعره بأفواف الصور فالنجوى مخضلة النعماء، ترددها حناجر الصحراء.

وكأن الشاعر أراد أن يثبت براعته التصويرية، لذلك راح يزج بصور تترى:
أقيال هاشم يخلع البشر عليها مطارف الخيلاء.

ويحلق الشاعر بهذه الصورة (وأتى طوده الموشح بالنور).

وهذه صورة إيمانية رائعة، فلم يكن حراء في نظر الشاعر موشحاً بالسحب كما رآه ابن خفاجة في جبله الأرعن طماح الذؤابة:
يلوث عليه الغيم سود عمائم ♦♦♦ لها من وميض البرق حمر ذوائب

ولا ما رآه امرؤ القيس:
كأن ثبيراً في عرانين وبله ♦♦♦ كبير أناس في بجاد مزمل

فلكل مقام مقال.

وفي لحظة استغراق:
وإذا الأرض والسماء شفاه ♦♦♦ تتغنى بسيد الأنبياء

وربما لاحظ القارئ توافق الخواطر مع شوقي في همزيته:
ولد الهـدى فالكائنات ضياء ♦♦♦ وفم الزمان تبسم وثنـاء

الصور الإيمانية رائعة. أما الصور العقلية فجافة كهذه الصورة: (ذبيح عياء)

وصور معركة بدر يشكل عام أقل حظاً من الصور السابقة عليها.وقد صور الشاعر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ودع الحياة، فهل يكفي ترشيد الفاروق ليقصر عن الغلواء؟ إذا كانت الأرض والسماء شفاه تتغنى في المولد الشريف، فأبسط صور المقابلات الشعرية أن تكون الأرض والسماء عيوناً تدمع لوفاة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. أم يفطن شاعرنا إلى أقرب ما يمثل أمام المخيلة؟ صورة المسجد الباكي بكاء اليتيم اللطيم؟ أهكذا دفعة واحدة
كل حي رهن الفناء وتبقى ♦♦♦ آية الله فوق طوق الفناء

وهل يرثي شاعرنا الحكيم ديوجين أستاذ الإسكندر الأكبر؟.. أم هل تقمص شخصية المعري الرثائية؟.
وختام النص، فيه الكثير من التفاؤل.

البناء الخارجي:
الوحدة اللغوية: ألفاظ منتقاة، كأن الشاعر من أصحاب الحوليات.. من عبيد الشعر، ولكننا نعثر بهذا الفهر في قول الشاعر:
(وفي ثغرها افترار رضاء). دع توالي حرف الراء، إن شاعرنا شامي، معنى ذلك أنه في النحو على المذهب البصري، وهذا المذهب يجيز قصر الممدود، ولا يجيز مد المقصور، ولو تركنا القاعدة النحوية جانباً، ولو حاول القارئ أن يلفظ (رضاء) ألا يشعر بان جوفه تفرغ؟ وأن المد أكره إكراهاً؟ وعوامل جاذبية الحرف وخصائصه تتقلص وتنكمش لتمنع هذا المد غير الطبيعي، خلافاً لبقية القوافي المستقرة المتمكنة المرتاحة.

أما (الأظلال) فهي صحيحة معجمياً، وهي في الفن الجمالي غير سائغة، أليست لفظة (الظلال) أسلس منها؟ الأمر هنا ذوقي لا يتعلق بقاعدة، فيحسن أن نضحي بالإيقاعية التوافقية بين (الأظلال و الأنداء) ولاسيما أن فيها تأكيد الحرف اللثوي الثقيل الساكن (أظ) نضحي بهذه الإيقاعية النابية ونقدم كلمة (الظلال) فتكون ألطف نطقاً وانسيابية.

أما الوحدة اللغوية في تصوير المعركة، فيجب ان يكون لها مذاقها الخاص المتميز، لأن هذا المشهد هو متن الملحمة، وألفاظها بمثابة العضل في الجسم، في تصوير المعركة لا نرى التألق المأمول المتوقع، قياساً إلى بقية المشاهد.

ولكن الشاعر يعود إلى الأسلوب الإنشائي التساؤلي وهو بارع فيه فيقول في فتح مكة مخاطباً قريشاً: (أي ذل على جفونك يعوي).

وفي أواخر الملحمة نجد هذا التركيب: (يا نجي الخلود) فالياء المشددة تشد معها أوتار القلوب فتبعث في النفس موسيقا خاصة بها ذات إيقاع تأثري.

فماذا عن الموسيقا في هذا النص؟:
بدأ المطلع مصرعاً، وفيه إيقاعية داخلية وخارجية نامية مجلجلة، ولكن ما إن ينتقل إلى البيت الثاني حتى يفاجأ القارئ بانقطاع الوتر الداخلي لتركز الموسيقا على القافية، وهي قافية مريحة مع هذه المدود كأمواج رمال الصحراء وامتداد السماء، نجد في الملحمة ستين بيتاً قتل موسيقاها الداخلية التدوير، لا أدري علة هذا المنحى، فهل تأثر شاعرنا بمعلقة الحارث بن حلزة اليشكري ومطلعها:
آذنتنا ببينها أسماء ♦♦♦ رب ثاو يمل منه الثواء

فهي على وزنها، وثلاثة أرباع أبيات مدورة.

فإلى أي مدى حققت هذه الملحمة الوحدة العضوية؟:
إن الوحدة العضوية لا تعني مجرد الربط بين المشاهد، وإنما تعني أساساً ذلك النسيج الداخلي المتصل الذي يشمل أسلوب التفكير والتصوير والتعبير، وقد جاء البناء الداخلي في بناء مطرد تتخلله ثغرات في نسق تكامل اللوحة في مشاهد المعركة، و لهذا جاء البناء الخارجي مرآة لتلك المشاهد، فالاضطراب في الألفاظ أو في المشهد الخارجي، جاء وفقاً لما هو عليه في نفس الشاعر، كما يقول الإمام الجرجاني[5]: الاضطراب في المباني سببه الاضطراب في المعاني، وقد رأينا تعثر تكامل لوحة معركة بدر، وتشوهها ولو من بعض الوجوه.

ثمة أمر جوهري نلفت النظر إليه وهو أن الملحمة رسمت الأجواء الخارجية ولم تدخل على النفسيات، وهذا عنصر مهم جداً في العمل الملحمي؛ فالبعد الداخلي تحسن أن يتوازن مع البعد الخارجي، كالشجرة غاص منها في الأعماق من جذور بمقدار ما ظهر منها من جذوع وفروع وأغصان.

إن هذه الملحمة قصة شعرية لأنها نسجت على منوال قصصي، وكل ملحمة قصة ولا عكس لأن القصة الشعرية تدخل في كل فنون الشعر الغنائي.

وجدنا في هذه الملحمة بعض العناصر القصصية من موضوع وشخوص، أما بقية العناصر فإنا نفتقدها، وقد جاء الأسلوب سردياً أقرب ما يكون إلى السرد التاريخي المصور، فالنص فيه بعض الصفات الملحمية نسج على منوال القصة بأسلوب موضوعي، وفيه بعض الصفات القصصية.

[1] من كتاب: ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم. تحليل ونقد احمد الخاني.
[2] عاشق المجد. حيدر غدير ط1 مؤسسة الرسالة ص 480.
[3] في كتابه: فن الشعر ص 259، ط2.
[4] السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص 625 بتحقيق: مصطفى السقا وإخوانه.
[5] أسرار البلاغة للجرجاني. ص، 3.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.14%)]