الموضوع: قيود وأوهام
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-09-2022, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قيود وأوهام

قيود وأوهام


سعيد بن محمد آل ثابت








6- تقسيم الناس وفق هواه، واعتقاده نفعية الدعوة في صنف دون صنف، وقد عاتب الله نبيه في ذلك : ﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 8 - 10]، وهذا العتاب مفاده أن الاختيار ليس لك أيها الداعية، فمؤشرات لن تعدو أن تكون أوهام وربما بنيتها على ضعف تصور وقصور بشري ملازم لك، فلا عليك سوى البذل والدعوة والنتائج على الله تبارك وتعالى. إن أي دعوة تهمل شريحة من المجتمع تعتبر ناقصة ومآلها إلى الانحسار، وقد تميزت الدعوة الإسلامية باحتوائها جميع طبقات المجتمع، وتوظيفِ جميع طاقات، فليس في المجتمع المسلم عنصرٌ مهملٌ أو مبعد أو مركون مهما كان. وإن من كمال الدين وعالميته مخاطبته للجميع وتوظيف جميع أفراد الأمة فلا اعتبار للصور والهيئات والأشكال: عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضَعّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُل جوّاظ مستكبر متفق عليه[58].وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة متفق عليه.[59] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب أشعثَ مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره[60]. وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا[61].


7- الفهم السقيم لمقاصد الشريعة، والتعاطي الخاطئ مع مضمونها. قال تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما، ولكن في الآية فوائد عظيمة: أحدها: أن لا يخافَ المؤمنُ من الكفار والمنافقين، فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً. الثاني: أن لا يحزنَ عليهم ولا يجزعَ عليهم، فإن معاصيَهم لا تضره إذا اهتدى، والحزنُ على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَاصَبْرُكَ إِلا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾. الثالث: أن لا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله: ﴿ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم فيآية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألمُ عليهم ومنهم، إما راغباً وإما راهباً. الرابع: أن لا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرُّك من ضل إذا اهتديت، كما قال: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾ الآية، وقال: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ﴾، وقال: ﴿ فَإِنِ انْتهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاعَلَى الظَّالِمِينَ ﴾، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يعتدون حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكارُ على الكفار والمنافقين الفاسقين والعاصين. الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد، فإن ذلك داخلٌ في قوله: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، وفي قوله: ﴿ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾، فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيها المعنى الآخر، وهو: السادس: إقبال المرء على مصلحة نفسه علماً وعملاً، وإعراضه عما لا يعنيه،كما قال صاحب الشريعة: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه، ولاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة. وكذلك العمل فصاحبه إما معتدٍ ظالمٌ، وإما سفيهٌ عابثٌ، وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان. فتأملُ الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة: علماؤها وعبادها وأمراؤها ورؤساؤها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به، وهوالإسراف المذكور في قولهم: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ﴾. وإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق، أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في هذه الأمور كلها، فما أحسن ما قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: غلوٍّ أوتقصيرٍّ. فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تاركُ الإعانة على البر والتقوى، وفاعل المأمور به وزيادةٍ منهيٍّ عنها بإزائه تاركُ المنهي عنه وبعضِ المأمور به، والله يهدينا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله[62].


8- اعتقاد الخيرية في العزلة، والبعد عن العامة، وهذا وهم خطير يصيب فئاماً من الناس بأوهام كثيرة، فربما يحدث نفسه بضرورة العلم الذي يلزم للدعوة، أو ضرر الناس على عبادته وإصلاح أهل بيته، وربما أتته العبرات تناديه بضرورة الزهد والورع عن الدنيا وحظ النفس في قلوب الخلق، وكل هذا من لوازم الداعية، ومتطلباته الأساسية، و(إن اعتزال الناس بين الفينة والفينة يصقل الروح، ويجدد الرواء، ومن يفعل ذلك فربما يكون في وقت عزلته في خدمة الناس أكثر مما لو اختلط بهم؛ ومن الملاحظ أن الناس حين يصيبهم كرب أو أزمة فإنهم كثيراً ما يلجؤون إلى أولئك (المحتشمين) ينشدون لديهم الرأي والتعاطف والعون)[63]. فاجعل بينك وبين دعوتك مسافة ليكن تأثيرك أعظم؛ ولكن عادة ما تأخذ هذه العزلة في جسد القاعد وقتاً فترتاح وتابى الانصراف، وربما استرسل معها حتى ازدان قعوده وتجمل له في صورة الخلوة والورع. يروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي: أن رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريباً يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا:أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا[64]. قال ابن الجوزي: وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة وإتباع جنازة وعيادة مريض، إلا أنها حالةُ الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام[65].

حسبوا بأن الدين عزلةُ راهب
واستمرءوا الأوراد والأذكارا

عجباً أراهم يؤمنون ببعضه
وأرى القلوب ببعضه كفارا

والدين كان ولا يزال فرائضاً
ونوافلاً لله واستغفارا

والدين ميدان وصمصام وفر
سان تبيد الشر والأشرارا

والدين حكم باسم ربك قائم
بالعدل لا جوراً ولا استهتارا



9- الخوف على الوجاهة والمستوى الاجتماعي. وهذا عائق عند البعض، والحقيقة أنها فرصة للبذل والتقديم لدين الله، قالت فاطمة بنت عبد الملك تصف زوجَها عمرَ بن عبدالعزيز: كان قد فرغ للمسلمين نفسَهُ، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومَهُ بليلته[66].


10- اشتراط المؤهلات الأكاديمية والتجربة الطويلة والاعتداد بسنوات الخبرة، وهذا لاشك إن قلنا أننا نريدك مفتي الأمة وعالمها ومجددها، أما الاعتذار عن تعليم علم أو تذكير بخير، أو عمل ميداني لإغاثة المسلمين فهذا العائق لاشك أنه واهٍ ومردود، قال تعالى: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12]. عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: "أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"[67].


11- مجالسة الكسالى والقاعدين. فرّ منهم فرارك من المجذوم، ومن جالس الأجرب جرب معه، وهؤلاء لا تجدهم إلا في مستنقعات الفراغ وأوحال الأنانية. قال بعض أصحاب عمر بن عبد العزيز القدامى لعمر: لو تفرغت لنا فقال: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله[68].


12- اتهام الذات بالفشل؛ ونشأة ذلك من ردة فعل من عمل سابق، أو مبادرة فشلت، أو توجه لا يلائمه، وهذا لا يلزم منه أن يحكم على نفسه بالفشل والسوء. (وكذلك الحال بالنسبة لكثير من الناس، فقد يتوجه لمجال لا يلائم ميوله، ولا يناسب مواهبه، ومن هنا فلن تجد له إبداعاً، ولا تفوقاً. فإذا حوّل إلى ما يناسبه، ووجه إلى ما يلائمه أبدع أيما إبداع؛ فلا يعني كوننا لا نبدع في كل شيء أننا لا نصلح لأي شيء)[69].


وأختم بكلام فريد لسيد - رحمه الله -: (والدعاة إلى الله يعلمون أن مصائر البشرية كلها - في الدنيا وفي الآخرة - منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم، فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم في الدنيا والآخرة.

إنه الأمر الهائل العظيم.. أمر رقاب الناس.. أمر حياتهم ومماتهم.. أمر سعادتهم وشقائهم.. أمر ثوابهم وعقابهم.. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف بالتبليغ فلم يبلغ!


فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل.. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان وفقط، ولكن بلغوها -مع هذا- قدوة ممثلة في العمل، وجهاداً مضنياً بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق.. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين؛ بما أنه المبلغ الأخير، وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات.. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان، إنما أزالها كذلك بالسنان ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] وبقي الواجب الثقيل على من بعده.. على المؤمنين برسالته.. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة تبعة إقامة حجة الله على الناس؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا إلا بالتبليغ والأداء.. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى.. فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس.. وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات.. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة.. الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس. ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء.. بلاغ بالبيان، وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعية لما يبلغون.. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة.. وإلا فلا بلاغ ولا أداء..إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله.. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة من النار.. فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!)[70].


وقد ذكرنا مع كل قيد ووهم ما يفل عقدته بإذن الله، ونؤكد أيضاً في مقاومة هذا العوائق بالتالي:
الاستعانة بالله ومتابعة الدعاء بالهداية والسداد كما صح ذلك عن رسول الله. وقد قال ابن مسعود: إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعينه وعلّمه فيما ينفعه[71]. وقد ذكر الماوردي[72]: أن الأقدار الغلابة لا تأتي بالمغالبة، وقد قصد أن هداية الله للإنسان تقيه الانبتات دون مسير وثمرة، ثم قال رحمه الله: ونحن نسأل الله تعالى أكرم مسئول، وأفضل مأمول، أن يحسن إلينا التوفيق فيما منح، ويصرف عنا الرغبة فيما منع؛ استكفافا لتبعات الثروة، وموبقات الشهوة. وهذا لعمري من أبلغ الدعاء وأوجزه.


دفع الذنوب وخواطرها، فإن لها شؤم على الفرد والمجتمع، قالت عائشة رضي الله عنها: أقلّوا الذنوب، فإنكم لن تلقوا الله بشيء أفضل من قلة الذنوب. والإنسان خطاء وجُبل على الذنب والخطأ ولكن المؤمن ديدنه الأوبة والاستغفار، فلا يأتيه الشيطان إلا مساً دون تمكن ولا يستقله رحولاً بل يطوف كالثعلب، ولكن سرعان ما يفوق المؤمن ويسترجع قوته ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، فالمؤمن الحصيف يتبع السيئة الحسنة مباشرة كما في الخبر "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها.." الحديث؛ فهي بلا شك تذهبها وتزيلها قال جلّ من قائل سبحانه: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]. وقد قال أبو عبيدة - رضي الله عنه -: التهلكة: أن يذنب العبد ذنباً ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك.


ترك الأوهام وعدم الالتفات للعقبات، وقد قالوا أصدق ما قالت العرب قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قيمة المرء فيما يحسن، وذكر ابن تيمية أن ذلك بحق العامة، وأما الخاصة فقيمة المرء عندهم فيما يطلب. والمحدق يجد البون بين اللفظين، وبالتالي فإن العامل حين يطلب ويقاوم ويصارع دون الرضوخ لأي عائق تكن قيمته سامية ومرتبته سامقة وخطوته سابقة.


العيش في بيئات المصلحين. وهذا السر في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يأكل الذئبُ القاصية". رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وقد كان السلف الصالح لا يراهنون على إخوانهم أبداً حتى وصل بهم الأمرُ أن يقرنوهم بالصلاة في أهميتها وعظمها. عن محمد بن واسع قال: ما بقي في الدنيا شيءٌ ألذُّ به إلا الصلاةَ جماعة ولقيا الإخوان[73]. وقال الحسن البصري: لم يبق من العيش إلا ثلاثٌ: أخٌ لك تصيب من عشرته خيراً، فإن زغت عن الطريق قومك، وكفافٌ من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة، وصلاةٌ في جمع تُكفى سهوَها، وتستوجب أجرَها[74]. قال الحسن البصري عن المؤمن: هو مرآةٌ، إن رأى منه ما لا يعجبه: سدده وقومه ووجهه، وحاطه في السر والعلانية[75]. وقال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجبَ حقه...[76]. ولذا فإن من معاني البيئات الصالحة المصلحة دفع الإنسان لمعالي الأمور والأخذ بيده إذا أصابه الفتور، بخلاف بيئة التثبيط والتحبيط وقد قال طلحة رضي الله عنه: لا تشاور بخيلاً في صلة، ولا جباناً في حرب. وقد صدق الفاروق رضي الله عنه: لا تصاحب الفاجر فيعلمك من فجوره.


توطين النفس على العمل مع الطوارئ والأزمات والاستعداد للعمل في أي بيئة، وهذا يجعل في النفس مرونة في التعاطي مع الأحداث الراهنة وإعادة التأطير الإيجابي لأي معضلة.


الاطلاع والقراءة في سير الأنبياء وآثار السلف وقصص الفاعلين فإن لها أنموذجاً وهدياً للعامل، يقيس عليها نفسه، ويرفع إليها سقفه. قال الإمام ابن حزم عن نفسه: (كانت فيّ عيوب فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء في الأخلاق، وآداب النفس حتى أعان الله عز وجل)[77].


البداية المحرقة والحاضرة؛ قال عمر رضي الله عنه: التؤدة في كل شيء خير إلا ما كان من أمر الآخرة. ومن لازمها التدرج بلا ريب، وهي لا تعني الاستعجال بطبيعة الحال، ففاعلية لا انفعالية، وقد يصيب بعض الأخيار القعود والإحباط حين يرى القوم بذلوا وقدموا فنالوا وحصّلوا فيكلّ ويملّ ويجفل! وابن القيم يرسم هذه الوصية القيّمة: "فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج، كم خاض بحراً ملحاً حتى وقع بالعذب! وكم تاه في مهْمهٍ قفرٍ حتى سمى بالدليل! وكم أنضَّ مراكب الجسم! وفض شهوات الحس! وواصل السرى - ليلاً ونهاراً - وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى" [78].


[1] "سير أعلام النبلاء"، (7/ 114).

[2] "سير أعلام النبلاء"، (7/ 119).

[3] "سير أعلام النبلاء"، (7/ 119).

[4] "سير أعلام النبلاء"، )7/ 120).

[5] "سير أعلام النبلاء"، (5/ 358).

[6] "سير أعلام النبلاء"، (5/ 87).

[7] "الزهد للإمام أحمد"، (ص:469).

[8] "العبودية".

[9] " الزهد للإمام أحمد"، ص: (448 - 449).

[10] "الزهد للإمام أحمد"، ص: (446 - 447).

[11] "مجموع فتاوى ابن تيمية"، (7 / 10).

[12] "سيرة ابن هشام" (1/ 344).

[13] "الزهد للإمام أحمد"، (ص:357).

[14] "سير أعلام النبلاء"، (7/ 125).

[15] "مفتاح دار السعادة"؛ لابن القيم، (1 / 168).

[16] "العوائق"؛ لمحمد الراشد، (ص: 148).

[17] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:258)، بتصرف.

[18] "عدة الصابرين"؛ لابن القيم، (ص: 93).

[19] اليوم المعمعاني: الشديد الحر.

[20] "كتاب الزهد"؛ للإمام أحمد، (ص:433).

[21] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:201).

[22] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:198).

[23] "الفوائد"، (ص: 35).

[24] "الجواب الكافي"؛ لابن القيم، (ص: 44).

[25] مسند أحمد ح 11048.

[26] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:248)، بتصرف.

[27] "رسائل الإصلاح"؛ لمحمد الخضر حسين، (2/ 87)، بتصرف.

[28] " الزهد للإمام أحمد"؛ (ص: 11)، "مناقب أحمد"؛ لابن الجوزي (ص:140).

[29] "حلية الأولياء"، (3/ 128)، " سير أعلام النبلاء"، ( 6\198).

[30] " سير أعلام النبلاء"، ( 6\199).

[31] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:230).

[32] "عيون الأخبار"؛ لأبن قتيبة، ( 2 / 18).

[33] "الزهد"؛ لابن المبارك.

[34] "مجموع فتاوى ابن تيمية"، ( 18/ 283).

[35] مسند أحمد ح 15224، سنن الترمذي ح 2298، سنن الدارمي ح 2614.

[36] "العوائق"؛ لمحمد الراشد، (ص: 88).

[37] "تهذيب التهذيب"، (7/ 7).

[38] "مجموع فتاوى ابن تيمية"، ( 18 / 295 –297).

[39] "الإبانة"، (1 / 189 – 190).

[40] "الإبانة"، ( 1 / 190 – 191).

[41] "الإبانة"، ( 2 / 505).

[42] "الإبانة"، ( 2 / 605).

[43] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:247).

[44] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:275).

[45] "الفوائد"، (ص: 19).

[46] " سير أعلام النبلاء"، (5/ 355).

[47] " حلية الأولياء"، )2/ 321 (، وسير أعلام النبلاء، (5/ 224).

[48] "سير أعلام النبلاء"، (4\ 259).

[49] " سير أعلام النبلاء"، (3/ 221(.

[50] " سير أعلام النبلاء" (5/ 240)

[51] "تهذيب التهذيب"، ( 1/ 447).

[52] "تهذيب التهذيب"، (8/ 424).

[53] " الزهد للإمام أحمد"، (ص: 11)، "مناقب أحمد"؛ لابن الجوزي. (ص:140).

[54] "الفوائد"، ( ص:56).

[55] "الهمة العالية معوقاتها ومقوماتها"؛ لمحمد الحمد، ص32-34)، بتصرف.

[56] "عدة الصابرين"، (ص: 121).

[57] "الموافقات للشاطبي"، ( 1 / 178-179).

[58] صحيح البخاري ح 4537 ، صحيح مسلم ح 5092.

[59] صحيح البخاري ح 4360 ، صحيح مسلم ح 4991.

[60] صحيح مسلم ح 4754.

[61] صحيح البخاري ح 5966.

[62] "مجموع فتاوى ابن تيمية"، ( 14 / 480-483).

[63] "مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي"؛ لعبد الكريم بكار (ص:136).

[64] "الزهد"؛ لعبد الله بن المبارك، (ص: 390).

[65] "صيد الخاطر"؛ لابن الجوزي، (ص: 224).

[66] "سيرة عمر"؛ لابن عبد الحكم، (ص: 146).

[67] البخاري ح631.

[68] "طبقات ابن سعد"، (5/ 397).

[69] "قوة الإرادة وطرق تنميتها"؛ لصالح مراد (ص:34).

[70] "الظلال"، ص(809-810).

[71] "الإبانة"، (1 / 419).

[72] "أدب الدين والدنيا".

[73] " الزهد للإمام أحمد"، (ص: 440).

[74] "تاريخ بغداد"، (6/ 99).

[75] "الزهد لابن المبارك"، (ص: 232).

[76] "تاريخ الطبري"، (6 / 572).

[77] "الأخلاق والسير"، ص33-34).

[78] "بدائع الفوائد"، (3/ 747).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]