أضواء على ملحمة بدر لأحمد الخاني
د. أحمد الخاني
وهذا كله على هالة التصوير الملحمي، إذ بقي شيء في عمق التصوير هو:
ما يحمل كل جيش من أفكار يدافع عنها، وهذا تجلى في أحاديث المشركين عن العفاريت والجن والشياطين.. والأصنام وما إلى ذلك من الخرافات.
الشياطين تتصارع، الشيطان يسرق الشيطانة، يخطفها ويصعد بها، أو يصعد وإياها إلى كوكب الزُّهرة ليقضيا هناك شهر العسل، صندل، هنبيذ، هيبا، كبير الشياطين ديدون.. الشيطان يدور حول الكرة الأرضية سبع مرات في بضع ثوان، الشيطان يريد أن يأكل، الشيطانة تجلب للشيطان صاحبها وحبيبها رماناً تقع رمانة فينفرط ما بداخلها، يتناثر؛ كل حبة من حبات الرمانة المتناثرة تعدل بحجمها حجم الفيل الكبير، الجدي الصغير، قبل أن يصبح تيساً يصل ارتفاعه إلى ارتفاع قمة جبل هيملايا أعلى قمة جبل في العالم..
هذا في المكبَّرات.
أما في المصغرات؛ فإن هذه المخلوقات تتضاءل وتصغر وتأتي بجنودها وتدخل في شعرة شاعر كان يتدفأ على النار في ليلة باردة، ويحس هذا الشاعر بشيء لا يدري كنهه، ويأخذ بأظافره ويهرش في رأسه حتى كاد يسيل منه الدم، والشياطين داخل الشعرة في رأسه تتحارب؛ جيش يقابل جيش، وتبدأ المعركة، ويسقط بعضهم قتلى وبعضهم جرحى، وتكسر ذراع القائد، ويسحبه بعض جنده إلى المغارة داخل الشعرة... ثم يحك الشاعر رأسه، وتدوخ الشعرة وتريد أن تسقط
وتطير الشياطين من الشعرة..
هكذا كانت خيالات العقل الوثني، مع تدخل الأصنام في الموضوع والسؤال عن حال شياطينهم الذين يخدمونهم بما كانوا يأتون به من أخبار السماء قبل البعثة.
ولما جاء الوحي من عند الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم احتجبوا عن خبر السماء فمن حاول ارتقاءها جاءه شهاب ثاقب أحرق قلبه.
وربما استغرب القارئ هذا الخيال، شياطين تطير إلى الكواكب.. تكبر.. تصغر قدرة خارقة..؟.
نقول: إن هذه الأخيلة كلها في حيز الممكن، لم تتعد طورها، وهذا على كل حال خيال، وتهويمات.
القرآن الكريم كله حق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. في قصة سبأ طلب نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام من الحشود حوله أن يأتيه أحدهم بعرش بلقيس، فانبرى لهذه المهمة عفريت من العفاريت الذين رأينا صورة منهم لدى صندل وهنبيذ وديدون.. شياطين وجان... (قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك). ولنتصور أن إنسياً غلب هذا العفريت فما هذا الإنسي؟. ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ سورة النمل: الآية 40. العفريت الجني عرض قدراته على أن يأتي بعرش بلقيس في مجلس النبي سليمان، ربما استغرق هذا العفريت الجني بهذه المهمة بضع ساعات. أما الإنسي الذي عنده علم من الكتاب فما استغرق إلا بضع ثوان. وهذا حق، إذاّ بهذا بطل الإعجاب بقوة العفاريت والشياطين والجان إذا ما قيس كل هذا بما لدى الذي عنده علم من الكتاب. كيف ذلك؟ إن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته يخلق ما يشاء ويعدم ما يشاء ويخلق ما يشاء متى يشاء إنه على ما يشاء قدير، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. لم يخرج الجني في الملحمة عن كونه مخلوقاً، وأفعاله تبقى منحصرة في حيز الممكن.... فالشياطين كانت تساعد كفار قريش هكذا كان، وربما لم يكن.. فالموضوع لا يخرج الشياطين ولا غيرهم إلى خصائص الآلهة، ولا إلى أنصاف الآلهة كما في هذيانات الشعوب الوثنية.
الصورة المقابلة لجيش المشركين؛ الصحابة الكرام رضي الله عنهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خرجوا من محنتهم في مكة، فمن الطبيعي أن يتذكروا حالهم هناك وما كانوا يقاسونه من تعذيب، ولا سيما المستضعفون منهم كعمار بن ياسر الذي مر أمام عينيه شريط التعذيب وشريط القتل، هؤلاء المجرمون الذين قتلوا أمه وقتلوا أباه وعذبوا المسلمين وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الإيذاء وحاصروه في الشعب ثلاث سنين، واجتمعوا على قتله ليلة أن هاجر، هؤلاء هم الذين سيلاقيهم هو وصحبه، لقد كانت حال قريش في دعة وخفض من العيش، وكان الصحابة في ضنك وشدة عذاب، فالآن تغيرت الحال إلى العكس؛ عن حال المشركين غدت من السهل إلى الأصعب، وحال المسلمين انتقلت من الصعب إلى الأسهل، لقد شحنت المحنة نفوسهم فخرجوا منها ظافرين، راسخي الإيمان بالله ورسوله وبعهده وبما جاء به من عند ربه..
صورة الجيش الإسلامي بما يحمل من قيم وبما قاسى في سبيل نصر هذا الدين الحق.
ثم صورة جيش قريش وبما يحمل من قيم وبما كان منه من جرائم اقترفها بحق هؤلاء المظلومبن، وقد قربت المقابلة بين الجيشين لانتصاف المظلوم من الظالم، والإحساس من المسلمين بالظلم الذي وقع غليهم دافع لاقتحام الأهوال، والإحساس بالجريمة من قريش سلاسل تكبت طاقات الظالم وتحد من فاعليته.
التصوير الجمعي: وهذا معناه التصوير الجمعي:
التصوير الجمعي، ونعني به، تصوير جماعة مقابل جماعة.. الجيش مقابل الجيش، تصويرُ بُعده.. تصوير مداه.. بالمقارنة مع الجيش الآخر، حركة الإقدام الجمعي.. صفوف تتقدم مثل موج البحر، ثم ترتد مثل المد والجزر.. حركة الالتفاف، هنا مبارزة بين اثنين، ينضم واحد لها، يأتي آخر فينضم لذاك، جريح يصيح، يلبيه شقيقه.. هنا مبارزة، وهناك جيوب، وهنا فرسان، أرض المعركة عمائم بيض يقابلها عمائم سود.. خوذة غطت فارسها إنه مدجج، لكنه معلم بعصابة حمراء، إنها عصابة الموت، بطل تبتعد عنه الأبطال.. ترتعد إنه معلم بريشة نعام..
هذه المشاهد التفصيلية لا تحتملها القصيدة الحماسية، ولا تستوعبها أبياتها، لذلك كان لا بد من إطالة النسج وبُعد المد الشعري في النفَس الملحمي، ليس شرطاً ملزماً يفرضه المنظِّرون وشعراء الملاحم ونقادها لا، وإنما طبيعة الملحمة تقتضي هذا المد وهذا البعد وهذه الإطالة، ولو سامح النقد الشاعر الملحمي بطول الملحمة، وقال: يمكن للملحمة أن تكون بمئات الأبيات لما استطاع شاعر الملحمة أن يستجيب لهذا الاختزال والابتسار لهذا الحجم الملحمي القزم، لقد ولد جنيناً خديجاً ناقصاً اكتمال نموه نمواً طبيعياً، وولد قبل أوان ولادته.
والملحمة ليست: ضرب قتل. بل هي عالم كامل متكامل، ولكنه عالم القوة، عالم يخلو من الميوعة لذاتها تلك التي تصورها القصيدة الغنائية، إن الملحمة هي عالم العسكرية، عالم القوة الحربية، عالم البطولة، والبطولة محببة إلى النفس الإنسانية والبطولة معشوقة الإنسان في كل زمان وفي كل مكان، لذلك نرى أفلام البطولة مهوى النفوس والأنظار فكيف بالبطولات الإسلامية مصورة بالحرف، مرسومة بالكلمات، تصور النصر على الظلم والظالمين، وهذا ما يتمناه كل إنسان هضم حقه ويتطلع إلى حياة كريمة تنصفه معركة كهذه المعركة التي هي بين يديه فيتمنى للتاريخ أن يعود ولو بصورة من صور البطولة التي يقرأ عنها، بل يحدث نفسه أن يكون له دور فاعل في هذا الاتجاه من موقعه سواء بلسان أو بسنانه إذا كان في موقع يتاح له ذلك، فيصبح القارئ طرفاً من أطراف البطولة على نحو ما وهذه هي مهمة القصة الشعرية: التأثير والتغيير.
يتبع