
08-10-2022, 08:59 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 355الى صــ 362
الحلقة (172)
السابعة والعشرون : قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين ، هذا قول الجمهور . ( فرجل ) رفع بالابتداء ، [ ص: 355 ] ( وامرأتان ) عطف عليه والخبر محذوف . أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما . ويجوز النصب في غير القرآن ، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين . وحكى سيبويه : إن خنجرا فخنجرا . وقال قوم : بل المعنى فإن لم يكن رجلان ، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، فلفظ الآية لا يعطيه ، بل الظاهر منه قول الجمهور ، أي إن لم يكن المستشهد رجلين ، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين . فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ، ولم يذكرها في غيرها ، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور ، بشرط أن يكون معهما رجل . وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها ؛ لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها ، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان ، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال . ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى : إذا تداينتم بدين يشتمل على دين المهر مع البضع ، وعلى الصلح على دم العمد ، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين ، بل هي شهادة على النكاح . وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة . وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة .
وقد اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح ، وهي :
الثامنة والعشرون : فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا . ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير . وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح عبد الله بن الزبير . وقال مالك : وهو الأمر عندنا المجتمع عليه . ولم يجز الشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم ، لقوله تعالى : من رجالكم وقوله : ممن ترضون وقوله : ذوي عدل منكم وهذه الصفات ليست في الصبي .
التاسعة والعشرون : لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه ، فكما له أن يحلف مع الشاهد عندنا ، وعند الشافعي كذلك ، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية . وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد وقالوا : إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها ، ولم يذكر الشاهد واليمين ، فلا يجوز القضاء به لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله ، وهذه زيادة على النص ، وذلك نسخ . وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة . قال بعضهم : [ ص: 356 ] الحكم باليمين مع الشاهد منسوخ بالقرآن . وزعم عطاء أن أول من قضى به عبد الملك بن مروان ، وقال : الحكم : القضاء باليمين والشاهد بدعة ، وأول من حكم به معاوية . وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم وليس في قول الله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم الآية ، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير ، فإن ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطالب ، فإن ذلك يستحق به المال إجماعا وليس في كتاب الله تعالى ، وهذا قاطع في الرد عليهم . قال مالك : فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له : أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه ؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه ، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق ، أن حقه لحق ، وثبت حقه على صاحبه . فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان ، فبأي شيء أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده ؟ فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد . قال علماؤنا : ثم العجب مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه ، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب ومعاوية وشريح وعمر بن عبد العزيز - وكتب به إلى عماله - ، وإياس بن معاوية وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزناد وربيعة ، ولذلك قال مالك : وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة ، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم! هذا إغفال شديد ، ونظر غير سديد . روى الأئمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد . قال عمرو بن دينار : في الأموال خاصة ، رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد بن دينار عن ابن عباس . قال أبو عمر : هذا أصح إسناد لهذا الحديث ، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده ، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات . قال يحيى القطان : سيف بن سليمان ثبت ، ما رأيت أحفظ منه . وقال النسائي : هذا إسناد جيد ، سيف ثقة ، وقيس ثقة . وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا . قال أبو بكر البزار : سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان ، ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة . ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد ، بل جاء عنهم القول به ، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة . واختلف فيه عن عروة بن الزبير وابن شهاب ، فقال معمر : سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال : هذا شيء أحدثه الناس ، لا بد من شاهدين . وقد [ ص: 357 ] روي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين ، وبه قال مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الأثر ، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه ، لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنا بعد قرن . وقال مالك : يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان ، ولم يحتج في موطئه لمسألة غيرها . ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ومصر وغيرهما ، ولا يعرف المالكيون في كل بلد غير ذلك من مذهبهم إلا عندنا بالأندلس ، فإن يحيى بن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه . وخالف يحيى مالكا في ذلك مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة . ثم اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم . وكنهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع مع قوله : قل لا أجد . وكالمسح على الخفين ، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما ، ومثل هذا كثير . ولو جاز أن يقال : إن القرآن نسخ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد ، لجاز أن يقال : إن القرآن في قوله عز وجل : وأحل الله البيع وحرم الربا وفي قوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ناسخ لنهيه عن المزابنة وبيع الغرر وبيع ما لم يخلق ، إلى سائر ما نهى عنه في البيوع ، وهذا لا يسوغ لأحد ؛ لأن السنة مبينة للكتاب . فإن قيل : إن ما ورد من الحديث قضية في عين فلا عموم . قلنا : بل ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة ، فكأنه قال : أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين مع الشاهد . ومما يشهد لهذا التأويل ما رواه أبو داود في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق ، ومن جهة القياس والنظر أنا وجدنا اليمين أقوى من المرأتين ؛ لأنهما لا مدخل لهما في اللعان واليمين تدخل في اللعان . وإذا صحت السنة فالقول بها يجب ، ولا تحتاج السنة إلى ما يتابعها ؛ لأن من خالفها محجوج بها . وبالله التوفيق .
الموفية ثلاثين : إذا تقرر وثبت الحكم باليمين مع الشاهد ، فقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : ذلك في الأموال وما يتعلق بها دون حقوق الأبدان ، للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين مع الشاهد . قال : لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان ، بدليل قبول [ ص: 358 ] شهادة النساء فيها . وقد اختلف قول مالك في جراح العمد ، هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين ؟ فيه روايتان : إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والدية . والأخرى أنه لا يجب به شيء ؛ لأنه من حقوق الأبدان . قال : وهو الصحيح . قال مالك في الموطأ : وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ، وقاله عمرو بن دينار . وقال المازري : يقبل في المال المحض من غير خلاف ، ولا يقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف . وإن كان مضمون الشهادة ما ليس بمال ، ولكنه يؤدي إلى المال ، كالشهادة بالوصية والنكاح بعد الموت ، حتى لا يطلب من ثبوتها إلا المال إلى غير ذلك ، ففي قبوله اختلاف ، فمن راعى المال قبله كما يقبله في المال ، ومن راعى الحال لم يقبله . وقال المهدوي : شهادة النساء في الحدود غير جائزة في قول عامة الفقهاء ، وكذلك في النكاح والطلاق في قول أكثر العلماء ، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، وإنما يشهدن في الأموال . وكل ما لا يشهدن فيه فلا يشهدن على شهادة غيرهن فيه ، كان معهن رجل أو لم يكن ، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل نقلن عن رجل وامرأة . ويقضى باثنتين منهن في كل ما لا يحضره غيرهن كالولادة والاستهلال ونحو ذلك . هذا كله مذهب مالك ، وفي بعضه اختلاف .
الحادية والثلاثون : قوله تعالى : ممن ترضون من الشهداء في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين . قال ابن بكير وغيره : هذه مخاطبة للحكام . ابن عطية : وهذا غير نبيل ، وإنما الخطاب لجميع الناس ، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام ، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض .
الثانية والثلاثون : لما قال الله تعالى : ممن ترضون من الشهداء دل على أن في الشهود من لا يرضى ، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم ، وذلك معنى زائد على الإسلام ، وهذا قول الجمهور . وقال أبو حنيفة : كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال . وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور : هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا .
قلت فعمموا الحكم ، ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه ، وهو من رجالنا وأهل ديننا . وكونه بدويا ككونه من بلد آخر [ ص: 359 ] والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي ، قال الله تعالى : ممن ترضون من الشهداء وقال تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم ف ( منكم ) خطاب للمسلمين . وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة ؛ لأن الصفة زائدة ، على الموصوف ، وكذلك ممن ترضون مثله ، خلاف ما قال أبو حنيفة ، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله ، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام . وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية . والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا ، على ما يأتي في " النساء " و " براءة " إن شاء الله تعالى . وليس في حديث أبي هريرة فرق بين القروي في الحضر أو السفر ، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله .
قال علماؤنا : العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية ، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر ، ظاهر الأمانة غير مغفل . وقيل : صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل ، والمعنى متقارب .
الثالثة والثلاثون : لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة ، وهي قبول قول الغير على الغير ، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة . فمن حكم الشاهد . أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره ، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله ، ويحكم بشغل ذمه المطلوب بشهادته . وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام . وسيأتي لهذا في سورة " يوسف " زيادة بيان إن شاء الله تعالى . وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام ، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك .
الرابعة والثلاثون : قال أبو حنيفة : يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود . وهذه مناقصة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه ؛ لأننا نقول : حق من الحقوق . فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود ، قاله ابن العربي .
الخامسة والثلاثون : وإذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى ، خلافا لأبي حنيفة حيث قال : إن النكاح ينعقد . بشهادة فاسقين . [ ص: 360 ] فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح ، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب .
قلت : قول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا ، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة ، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام ، وإنما يعلم بالنظر في أحواله حسب ما تقدم . ولا يغتر بظاهر قوله : أنا مسلم . فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته ، مثل قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه إلى قوله : والله لا يحب الفساد ، وقال : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم الآية .
السادسة والثلاثون : أن تضل إحداهما قال أبو عبيد : معنى ( تضل ) تنسى . والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا . ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : ضل فيها . وقرأ حمزة " إن " بكسر الهمزة على معنى الجزاء ، والفاء في قوله : ( فتذكر ) جوابه ، وموضع الشرط وجوابه رفع على الصفة للمرأتين والرجل ، وارتفع " تذكر " على الاستئناف ، كما ارتفع قوله : ومن عاد فينتقم الله منه هذا قول سيبويه . ومن فتح " أن " فهي مفعول له والعامل فيها محذوف . وانتصب " فتذكر " على قراءة الجماعة عطفا على الفعل المنصوب ب " أن " . قال النحاس : ويجوز " تضل " بفتح التاء والضاد ، ويجوز ( تضل ) بكسر التاء وفتح الضاد . فمن قال : " تضل " جاء به على لغة من قال : ضللت تضل . وعلى هذا تقول تضل فتكسر التاء لتدل على أن الماضي فعلت . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر " أن تضل " بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى ، وهكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني . وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة . تقول : أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما .
السابعة والثلاثون : قوله تعالى : ( فتذكر ) خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو ، وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة ؛ لأن شهادة المرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر ، قاله سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء . وفيه بعد ؛ إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر ، وهو معنى قراءة الجماعة " فتذكر " بالتشديد ، أي تنبهها إذا غفلت ونسيت .
[ ص: 361 ] قلت : وإليها ترجع قراءة أبي عمرو ، أي إن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى ، يقال : تذكرت الشيء وأذكرته وذكرته بمعنى ، قاله في الصحاح .
الثامنة والثلاثون : قوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال الحسن : جمعت هذه الآية أمرين ، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ، ولا إذا دعيت إلى أدائها ، وقاله ابن عباس . وقال قتادة والربيع وابن عباس : أي لتحملها وإثباتها في الكتاب . وقال مجاهد : معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك . وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا ، قال مجاهد : فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا ، وقاله أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم . وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين ، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود ، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم ، على ما يأتي . وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب ، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر ، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له . وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب ، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الظرف آكد ؛ لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء .
قلت : وقد يستخرج من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها ، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت . فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا . والله أعلم . فإن قيل : هذه شهادة بالأجرة ، قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها . والله أعلم . وقد قال تعالى : والعاملين عليها ففرض لهم .
التاسعة والثلاثون : لما قال تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا دل على أن الشاهد [ ص: 362 ] هو الذي يمشي إلى الحاكم ، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة ، ومن أمثالهم : " في بيته يؤتى الحكم " .
الموفية أربعين : وإذا ثبت هذا فالعبد خارج عن جملة الشهداء ، وهو يخص عموم قوله : من رجالكم لأنه لا يمكنه أن يجيب ، ولا يصح له أن يأتي ؛ لأنه لا استقلال له بنفسه ، وإنما يتصرف بإذن غيره ، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية . نعم! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الحادية والأربعون : قال علماؤنا : هذا في حال الدعاء إلى الشهادة . فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها ، فقال قوم : أداؤها ندب لقوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ففرض الله الأداء عند الدعاء ، فإذا لم يدع كان ندبا ، لقوله عليه السلام : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها رواه الأئمة . والصحيح أن أداءها فرض وإن لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته ، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك ، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة ، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق ، وقد قال تعالى : وأقيموا الشهادة لله وقال : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما . فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار .
الثانية والأربعون : لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جرحة في الشاهد والشهادة ، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وهذا قول ابن القاسم وغيره . وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جرحة في تلك الشهادة نفسها خاصة ، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك . والصحيح الأول ؛ لأن الذي يوجب جرحته إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر ، والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا ، وهذا واضح .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|