
17-10-2022, 05:02 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (186)
صـ121 إلى صـ 130
[ ص: 121 ] فصل
وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد; لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف ، جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له ، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الله بن مسعود ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : أتدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على إسته فهذا تنبيه على [ ص: 122 ] المعرفة بمواقع الخلاف .
ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف .
فعن قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه .
وعن هشام بن عبيد الله الرازي : من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه .
وعن عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس; فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه .
[ ص: 123 ] وعن أيوب السختياني وابن عيينة : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء ، زاد أيوب : وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء .
وعن مالك : لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه ، قيل له : اختلاف أهل الرأي ؟ قال : لا ، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال يحيى بن سلام : لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي .
وعن سعيد بن أبي عروبة : من لم يسمع الاختلاف; فلا تعده عالما .
وعن قبيصة بن عقبة : لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس .
وكلام الناس هنا كثير ، وحاصله معرفة مواقع الخلاف ، لا حفظ مجرد الخلاف ، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر; فلا بد منه لكل مجتهد ، وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره .
[ ص: 124 ] المسألة الخامسة
الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص; فلا بد من اشتراط العلم بالعربية ، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة .
والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية ، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية ، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا [ ص: 125 ] يمكن التفاهم فيما بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه .
وأما المعاني مجردة; فالعقلاء مشتركون في فهمها ، فلا يختص بذلك لسان دون غيره ، فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام ، وبلغ فيها رتبة العلم بها ، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي; فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ، ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية ويعتبرون المعاني ولا يعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل .
وأيضا; فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا [ ص: 126 ] فيما يتعلق بالمقيس عليه ، وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة المنصوص عليها أو التي أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما ، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي .
وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين; كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك ، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي في مذهب الشافعي فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم ، وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة ، ويفرعون المسائل ، ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك .
وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم ، وعملوا على مقتضاها ، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته ، وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع [ ص: 127 ] الأحكام ولولا ذلك; لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص ، فلما لم يكن شيء من ذلك; دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه ، فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه ، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين ، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا في صحة اجتهادهم على الإطلاق ، والله أعلم .
[ ص: 128 ] المسألة السادسة
قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط ، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع ، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية; لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه ، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به ، من حيث قصدت المعرفة به; فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التي ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى ، كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها ، وصحيحها من سقيمها ، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به; فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به ، كان عالما بالعربية أم لا ، وعارفا بمقاصد الشارع أم لا ، وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات ، والصانع في معرفة عيوب [ ص: 129 ] الصناعات ، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب ، وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها ، والعاد في صحة القسمة ، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها ، كل هذا ، وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ، ولا العلم بمقاصد الشريعة ، وإن كان اجتماع ذلك كمالا في المجتهد .
والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ، بل هو محال عادة ، وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة ، كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ، ولا كلام فيه .
وأيضا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل [ ص: 130 ] علم وصناعة ألا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك; إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع ، وذلك باطل; فما أدى إليه مثله; فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ، ومن الكفار المنكرين للشريعة .
ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء ، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة ، وهو التقليد في تحقيق المناط .
فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه ، كما أنه في الأولين كذلك; فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد العربية ، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة ، والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره ، وهو ظاهر .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|