الباعث المعرفي على دراسة اللسان العربي
د. عبدالله معروف
3) النحو العربي: دواعي النشأة والتطور:
3 - 1- علم النحو:
يُعرف علم النحو بأنه: "علم بأصول تُعرفُ بها أحوالُ الكلمات العربية؛ مِن حيث الإعرابُ والبناء"؛ أي: من حيث ما يُعرض لها في حال تركيبها، فبه نعرف ما يجب أن يكون عليه آخرُ الكلمة من رفعٍ، أو نصْبٍ، أو جرٍّ، أو جزْمٍ، أو لزوم حالةٍ واحدةٍ بعد انتظامها في الجملة، فهو يُراقب الوظيفة التي تشغلها الكلمة في التركيب: أهي فاعلٌ، أم مفعولٌ، أم مبتدأٌ، أم خبرٌ …، فالعنصرُ النَّحْويُّ يُساعد على فَهْم وظيفة كلِّ كلمة في التركيب؛ لأنه يهتمُّ بدراسة العلاقات المطَّردة بين الكلمات في الجملة، والوصول إلى معناها ودلالتها[30]، و"النحو نظامٌ من المعاني والعلاقات التي تتحكَّم في معنى الجملة العربية"[31]، وإذا ما استطاع الدَّارسُ أنْ يُحلِّلَ الجملةَ، وأن يفهمَ مكوناتها فإنَّه يأمن اللَّبْس، والإعراب في اللغة العربية يقوم بدورٍ رئيسٍ في تحديد الوظائف النحوية للكلمات من خلال حركاته التي تُفرِّق بين كلمة وأخرى بالاشتراك مع العنصر الصَّرفي الذي يُميِّز الاسمَ من الفعل والحرف، اقرأ الآية الكريمةَ الآتيةَ: ï´؟ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ï´¾ [التوبة: 3]، فهذه الآية - كما ذكرنا - أخطأ في قراءتها كثيرون، ولعلَّ خطأَهم كان ناتجًا من عدم فَهْم التركيب، ومن عدم القدرة على فَهْم الوظائف النحوية للكلمات، وقد أخطأ بعضُ العرب قديمًا في ضبطها فعطفوا (رسوله) على المشركين، فكان المعنى: أن الله بريء من المشركين ومِن الرسول! فهذا لم يُرِدْهُ الله، ولن يرِيدَه، وهي قراءةٌ إنْ أصرَّ عليها إنسانٌ تُخرِجهُ من الملَّة؛ لهذا فإن ظهور النحو كان بباعثٍ دينيٍّ يتجلَّى في حِرْص المسلمين على قراءة القرآن قراءةً سليمةً وفَهْمِ دلالته، وخاصةً بعد فشوِّ اللَّحْن الذي أخذ في الظُّهور منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا - غير أنه كان لا يزال قليلًا في صدْر الإسلام، وكلَّما تقدَّمنا مُنحدرين اتَّسع شيوعُ اللَّحْن على الألسن، خاصةً بعد تعريب غير العرب...، وكل ذلك وغيره جعل الحاجة تمسُّ في وضوح إلى وضْع تقعيد يُعرف به الصوابُ مِن الخطأ في الكلام خشيةَ دخول اللَّحْن وشيوعه في تلاوة آيات الذِّكْر الحكيم؛ هذا دَفَعَ إلى التفكير في وضْع النحو، وتقرير قواعد تنتظم في قوانين قياسية من استقصاء دقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة وأوضاعها الإعرابية.
وقد اختلفت الآراء فيمن نسبتْ إليهم الخطواتُ الأولى في وضْع النحو العربي؛ يقول السيرافي: "اختلف الناس في أول من رَسَم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو نصر بن عاصم، وقيل: بل هو عبدالرحمن بن هرمز، وأكثرُ الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي"، وتضطرب الروايات في السبب المباشر الذي جعل أبا الأسود يُؤلِّف في النحو لأول مرة، فمن قائل: إنه سمِع قارئًا يقرأ الآية الكريمة: ï´؟ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ï´¾ [التوبة: 3] بكسْرِ اللام في رسولِه، فقال: ما ظننتُ أمرَ الناس يصل إلى هذا، واستأذن زياد بن أبيه والي البصرة "45-53هـ"، وقيل: بل استأذن ابنه عبيدالله واليها من بعده "55-64هـ" في أن يضعَ للناس رسْمَ العربية، وقيل: بل وفد على زيادٍ، فقال له: إني أرى العربَ قد خالطت الأعاجمَ، وتغيَّرت ألسنتُهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلامًا يعرفون به كلامَهم؟
وقيل: بل إن رجلًا لحن أمام زياد أو أمام ابنه عبيدالله، فطلب زياد أو ابنه منه أن يرسم للناس العربية، وقيل: إنه رسمها حين سمِع ابنته تقول: ما أحسنُ السماءِ! وهي لا تُريد الاستفهام؛ وإنما تُريد التعجُّبَ، فقال لها قولي: "ما أحسنَ السماءَ!"، وفي رواية أنه شكا فسادَ لسانها لعلي بن أبي طالب، فوضع له بعض أبواب النحو، وقال له: انحُ هذا النحو، ومن أجل ذلك سُمِّي العلم باسم النحو.
وقد يُشرك بعضُ الرواة معه في هذا الصنيع تلميذيه نصر بن عاصم وابن هرمز؛ إذ يقول الزبيدي: "أول من أصَّلَ النحو وأَعْمَل فِكْرَهُ فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي، ونصر بن عاصم، وعبدالرحمن بن هرمز، فوضعوا للنحو أبوابًا، وأصَّلوا له أصولًا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجُّب والمضاف"[32].
وذهب بعض الباحثين - منهم شوقي ضيف[33] - إلى أنَّ هذا مِن عَبَث الرواة الذين ظنُّوا أنه وضع النحو، وهو إنما رسم إعراب القرآن الكريم عن طريق نقْط أواخر الكلمات فيه، وحمل هذا الصنيع عن أبي الأسود تلاميذُه من قُرَّاء الذكر الحكيم، وفي مقدمتهم نصر بن عاصم وعبدالرحمن بن هرمز ويحيى بن يعمر، وعنبسة الفيل، وميمون الأقرن، فكلُّ هؤلاء "نقطوا المصحف، وأُخِذ عنهم النَّقْط، وحُفِظ وضُبِط وقُيِّد وعُمِل به، واتُّبِع فيه سُنَّتُهم واقتُدي فيه بمذاهبهم"[34]، وأضافوا إلى ذلك عملًا جليلًا أحاطوا به لفظ القرآن الكريم بسياجٍ يمنع اللَّحْن فيه، مما جعل بعض القدماء يظنُّ أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافًا منها، وهم إنما رسموا في دِقَّة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة مِن مثل: الباء والتاء والثاء والنون.
وعلى الرغم من هذا التردُّد بين الرواة والمؤرِّخين في الحسم في واضع هذا العلم، إلَّا أن المتفق عليه بينهم أن مرحلة الوضْع والتكوين كانت للمدرسة البصرية، ولم تظهر المدرسة الكوفية إلَّا في طور النشوء والنمو، لينضج العلم ويستوي على سُوقه في ظلِّ النقاشات بين المدرستين "البصرية والكوفية" ليعرف العلم تطوُّرًا مُهِمًّا في طور الترجيح والبسْط في التصنيف بظهور مجموعة من المدارس؛ كالبغدادية، والأندلسية، والمصرية، والشامية، ويصعُب الفصلُ بين هذه الأطوار تاريخيًّا؛ لأنها متداخلةٌ، ولا يتأتَّى إلَّا بتحديد طبقات الروَّاد مُرتَّبةً[35]؛ فمن روَّاد المدرسة البصرية نجد: ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبي عمر بن العلاء، ويونس بن حبيب، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والأخفش وتلاميذه، والمبرِّد وأصحابه، وأمَّا رواد مدرسة الكوفة فمنهم: الكسائي وتلاميذه، وهشام بن معاوية الضرير، والفراء وثعلب وأصحابه، وأمَّا رواد المدرسة البغدادية فمنهم: ابن كيسان، والزجَّاجي، وابن علي الفارسي، وابن جنِّي، أمَّا في الأندلس، فقد برز ابن مضاء القرطبي، وابن عصفور، وابن مالك، أمَّا المدرسة المصرية فمن روَّادها: ابن الحاجب، وابن هشام[36].
ولعلَّ الداعي إلى ظهور هذه المدارس هو تعدُّد الاجتهادات والأدلة في القضايا النحوية، وما سُمِّي بالتعليل النحوي، ومن أجلِّ ما استدلَّ به النحاةُ القراءاتُ القرآنيةُ ليقدِّم المتْنُ القرآنيُّ خِدْمةً جليلةً لتطوير النحو بعد أن كان الهدفَ في نشأته.
3 - 2) نشأة المدارس النحوية:
كان اهتمام النُّحاة بالقراءات القرآنية جليًّا؛ فَهُم من أخذوا بشروط القراءة المقبولة - غالبًا - ولكنَّهم قبلوا القراءة النادرة والشاذة - أحيانًا - بعد أن أخضعوها لمقاييسهم، فَهُم مثلًا لم يقبلوا "قراءة أحد من القرَّاء إلَّا إذا ثبت أخذُه عمَّن فوقَه بطريق المشافهة والسَّماع، حتَّى يتَّصِل الإسناد بالصحابي الذي أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"[37].
ومع ذلك وجدتُ ابن الجزري يقبل كلَّ قراءة؛ "لأنَّ القراءة سُنَّةٌ متَّبعة يلزم قبولُها والمصير إليها"[38]، ورغم أنَّ سيبويه يُخضِع أحيانًا القراءات للقياس النحوي، فهو يرى مثلًا أنَّ (ما) في قوله تعالى: ï´؟ مَا هَذَا بَشَرًا ï´¾ [يوسف: 31] عاملةٌ عمل (ليس) في لغة أهل الحجاز، إلَّا أنَّ بني تميمٍ يرفعون الخبر إلَّا مَنْ عرف منهم كيف هي في المصحف[39]، ولكنَّه يُشاطِر التميميِّين رأيَهم في عدم إعمال (ما)، ويرى ذلك هو الأقيس؛ لأنَّها حرف، وليست فعلًا، فهي لا تُشبِه (ليس) من ناحية الفعلية، ولا من ناحية الإضمار، وفي ذلك يقول: "وأمَّا بنو تميم فيُجرونها - (أي يُجرُون الحرف ما) - مَجرى: أما وهل، وهو القياس؛ لأنَّها ليستْ بفعلٍ، وليستْ "ما" كـ"ليس"، ولا يكون فيها إضمارٌ"[40].
والأخْذ بالقياس في القراءات عند سيبويه لا يمنعه من أنْ يُصرِّح في كتابه أنَّ القراءة سُنَّة، وليست مجالًا للاجتهاد والاختيار، وفي مثل ذلك يقول: "فأمَّا قوله عزَّ وجل: ï´؟ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ï´¾ [القمر: 49]، فإنَّما جاء على: زيدًا ضربتُه - وهو عربي كثير - وقرأ بعضهم: ï´؟ وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ ï´¾ [فصلت: 17] إلَّا أنَّ القراءة لا تُخالَف؛ لأنَّها السنَّةُ[41]، وإنْ رأى الرَّفع في (ثمود) أجود، واستعانَ سيبويه بالقراءات النَّادرة والحروف المخالفة في بناء أصوله مثلما استعان بالقراءات المعروفة، وهو من طوَّعها - كسائر المصادر - لمقاييسه، وتوزَّعت في مواقع مختلفة من كتابه.
فأجاز بقراءة بعضهم[42]: ï´؟ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ ï´¾ [البقرة: 284] [43] نَصْبَ (يَغْفِرَ) التي عطفت على جواب الشَّرط بإضمار (أنْ) بعد الفاء[44]، وأجاز بقراءة ناس من الكوفيِّين[45]: " ï´؟ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيَّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ï´¾ [مريم: 69] "[46] نَصْبَ (أيَّهم) على الإضافة.
وعدَّ هذه القراءات مقياسًا يقيس عليه؛ كقياسه مع الخليل قولهم: "لاسيَّما زيدٌ" على: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةٌ ï´¾ [البقرة: 26] برفع (بعوضة)[47] حتَّى إنَّه في مواضع يعدُّها أصلًا يخرج عليها القراءة المشهورة، كما فعَل في قوله تعالى: ï´؟ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ï´¾ [ق: 23]، قال: "فرفعه من وجهين: على شيء لديَّ عتيد، وعلى: ï´؟ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ ï´¾ [هود: 72][48]، يريد: أنَّ (عتيد) مرفوعٌ على النَّعت من (ما)، أو على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عتيد[49].
عمومًا، إنَّ سيبويه كان وفيًّا لسنَّة القراءة، لا يبخل عن وصف بعضها بالقوة - إنْ توفَّرت لها شروط القوة أو الحسن - إنْ وافَقت الذَّائع المعروف مِن كلامِ العربِ الذي يُتوخَّى فيه ضبط لغة القرآن، وصونها مِن التَّحريف، أمَّا الأخفش (سعيد بن مسعدة ت211هـ)، فقد عُرِف باحترامه رَسْمَ القرآن[50]، ومع ذلك ما كان ليتورَّع عن رفض كثيرٍ من القراءات المشهورة ووصفها باللَّحْن[51]، بل قل اعتمد في كثيرٍ من الأحيان على القراءات النَّادرة التي انفرد برواية كثيرٍ منها[52]، وفضَّلها على المشهورة؛ إذ يرى مثلًا أنَّ نَصْبَ (طائفة) الثانية من قوله تعالى: ï´؟ يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةً قَدْ أَهَمَّتْهُمْ ï´¾ [آل عمران: 154]، وهي من القراءات التي انفرد بها، ومع أنَّ الأخفش ليس ذا موقفٍ واحدٍ من القراءات النادرة والشاذة؛ إذْ كان يُخضِعها لمقياسه، يقبل بعضها، ويرفضُ بعضَها الآخر، وما كان ليرفض قراءة الجمهور، فهو يفضِّل في قوله تعالى: ï´؟ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ï´¾ [الأنعام: 154] فتحَ النون، على قراءة بعضهم بالرَّفع[53]، مكتفيًا بالقول: "وفتحه على الفعل أحسن"[54].
أمَّا المبرِّد محمد بن يزيد (ت285هـ)، فأخضع القراءات المشهور منها والنَّادر إلى مقياسه النَّحْوي ضاربًا الصَّفح عن سنَّتها متعلِّلًا بضرورة التَّحليق بأسلوب القرآن، وحَمله على أشرف المذاهب في العربيَّة[55]، إضافة لذلك دعا لتجنُّب الأخذ بالقراءات الشاذة لما في ذلك من ضَرَر على اللغة والنحو، ومن هنا كان قوله المعروف: "إذا جعلتَ النَّوادرَ والشَّواذَّ غرضَكَ كثرتْ زَلَّاتُكَ "[56]، ومع ذلك فإنَّ رفض المبرِّد بعض القراءات - حتَّى المشهور منها - ووصفه لها باللَّحْن والغلط والقبح، وعدم الجواز[57]، وحَمْل بعضها على الضَّرورة الشعريَّة[58] - لا يعني أنَّه لم يرتضِ قراءاتٍ أخرى، فهو ارتضى كلَّ ما وافق مذهبه، فقراءة ابن عباس: ï´؟ لَمْ يَمْسَسْهُ نَارٌ ï´¾ [النور: 35] [59] بعدم إلحاق تاء التَّأنيث للفعل مقبولةٌ عنده؛ لأنَّ فاعله مؤنَّث غير حقيقي[60]، يضاف إلى ذلك أنَّ المبرِّد اعتدَّ بالحروف المخالفة وخرَّجها، خرَّج حرف أُبَي: ï´؟ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا ï´¾ [الفتح: 16][61] على معنى: "إلَّا أن يُسلمُوا وحتَّى يُسلمُوا".
ومجملُ القول: فإنَّ المبرِّد قَبِلَ ما وافق مذهبه النَّحْوي، ورفض ما لم يوافقه، ووقف من بعضها موقف الحذر، واحتجَّ لِمَا أخذه أحيانًا بالقرآن والشَّعر.
والكسائي النحوي والقارئ هو من احتجَّ بالقراءات، وأيَّدَ بها كلَّ ما ينتهي إليه من لغات العرب وأشعارها، دون أن يخرج على المقياس النَّحْوي، فقرأ (يقول) في قوله تعالى: ï´؟ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ ï´¾ [البقرة: 214][62]بالرَّفع، ثمَّ عاد إلى النَّصب[63]، وعُرف عنه أنَّه ما كان ليتشدَّد في موقفه من الرَّسْم القرآني[64]، عندما كان يُقبِل على تَخريج القراءات، ومع ذلك كان يقف من بعض القراءات موقِفَ الحذر، فيقول مثلًا: لا أعرف[65]، أمَّا القراءات النادرة فقبِلَها، بل قُل: وبنى عليها بعضَ القواعد الجديدة، فأجاز قراءة (أطهرَ) بالنَّصب وخرَّجها على الحال[66].
وهكذا فالكسائي كغيره من النُّحاة ما كان يطعن في القراءة - ولو كانت بعيدة - بل كان يجد لها مَخْرجًا يجعلها مقبولةً في الاستعمال النَّحْوي واللُّغوي.
والفرّاء يحيى بن زياد (ت207هـ) نحوي شُغِف بلغة القرآن وقراءاته، بل قُل: هو من أكثر النحاة ولعًا بفنونه، ومن أقواله: "الكتابُ أعربُ وأقوى في الحجَّةِ من الشِّعْر"[67]، وهو من ارتضى القراءات المشهورة، ما خلا بعضَها[68] التي أعمل فيها مقياسه فأباها، وإن كان موقفه العام التَّسليم والإجلال، أمَّا القراءات غير المشهورة، فهي عندَهُ ثلاثةُ أنواع: الحروف المخالفة، والقراءات الأحادية وغير المشهورة، والوجوه النحويَّة التي أجازها في الآيات، وكان معظمُها قراءاتٍ شاذَّةً، واستخدمَ في حديثهِ عَنِ القراءات: (قراءة بعضهم)، وأكثَرَ مِن استخدامها إكثارًا واضحًا، ومن ذلك قوله في قراءة قوله تعالى: ï´؟ كَبُرَتْ كَلِمَةٌ ï´¾ [الكهف: 5] [69] ورفعها بعضُهم[70].
أمَّا ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى (ت391هـ) فتبع أساتذته في كلِّ ما يقولون، وسار على نهجهم في النظر إلى القراءات، بل قُل: كان يفوقهم احترامًا لها؛ قال: "إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أفضِّل إعرابًا على إعرابٍ، فإذا خرجتُ إلى كلام النَّاس فضَّلت الأقوى"[71]، أمَّا القراءات النادرة فموقفه لا يخرج عن موقف سابقيه في قبولها، فتراه يذهب إلى ما ذهب إليه سيبويهِ في حذف المبتدأ لـ(شيخ) في حرف ابن مسعود: ï´؟ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخٌ ï´¾ [هود: 72] [72]، قال: "إذا كان مدحًا أو ذمًّا استأنفوه" [73]، ويسير على نَهْج الكسائي في تخريجه لقراءة الحسن[74]: ï´؟ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ï´¾ [النساء: 148] [75] ببناء (ظلم) للمعلوم، قال: "قال الكسائي: هذا استثناء يعرض، ومعنى يعرض: استثناء منقطع"[76].
من هذا المنظور فإن ثعلبًا ما كان ليخرج عن دائرة القبول للقراءات المشهور منها والنادر عن أساليب سابقيه في معالجتهم لها وإخضاعها للقياس، بل كان مثلَهم في إخضاعها للقواعد النَّحْوية، وتطويعها بما يُناسب المقياس النَّحْوي الذي يرى فيه كغيره مِن النُّحاة الفيصلَ في عملية القبول والرَّفْض لهذه القراءة أو تلك.
وختامًا، فإن القراءات القرآنية مَتْنٌ للدَّرس اللِّساني؛ لأنَّها - وإنْ تفاوتت النَّظْرة إليها، واختلفت الآراء في رفضها وقبولها - أحدثت نوعًا من التفاعُل البنَّاء بين النُّحاة واللُّغويين، وما الاختلاف فيها إلَّا السبيل والمنطلق إلى لسان قرآني سليم من كلِّ زلَلٍ أو لَحْنٍ قد يقع فيه مَن يجهل القراءات القرآنية، فالقرآنُ الكريمُ الذي جاء على سبعة أحرف كلٌّ منها شافٍ وافٍ، لا سبيلَ لتخطئة قراءاته إذا ما توافرتْ لها شروطُ القراءة الصحيحة.
يتبع