ما جاء في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة
شرح حديث: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)
[ قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة. حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً) ]. أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والأصل أن الأرض كلها مكان للصلاة، وأنه يصلى في أي مكان من الأرض إلا ما عرف أن فيه نجاسة وما عرفت نجاسته، أو ورد نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصلى في هذا المكان، وإلا فإن الأصل هو صحة الصلاة في أي مكان، ولهذا سبق أن مر في حديث عثمان بن أبي العاص الذي قال فيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم)، والحديث هذا في إسناده من ضعف به، ولكن كون الطواغيت هذه أزيلت، واتخذ مكانها مسجد لا بأس بذلك؛ لأن الأصل هو صحة الصلاة في أي مكان طاهر من الأرض، إلا ما جاء النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)، يعني: يتيمم فيها وتكون الطهارة لأرضها وترابها أو أي شيء منها، وجعلت مسجداً يصلى فيه، وجاء في حديث آخر: (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) يعني: أنه يتيمم ويصلي أينما أدركته الصلاة. قوله: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً) هذا يفيد بأن أي جزء من الأرض يتيمم به، وأنه لا يختص الأمر بالتراب والأرض الترابية، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا كان في أرض جبلية وأرض حجرية أو أرض ليس فيها تراب أنه لا يتيمم حتى يحصل تراباً، بل يتيمم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)، فيتيمم الإنسان على الحصى ويتيمم على الحجارة ويتيمم على أي شيء من الأرض، وعموم الحديث يدل على ذلك، وما جاء في بعض الأحاديث أنه قال: (تربتها) فهذا لا يدل على اختصاص الحكم بالتربة دون غيرها، لأن هذا يدخل تحت القاعدة المشهورة: إذا جاء لفظ عام ثم جاء فرد من أفراد العام بحكم العام فإنه لا يخصص العام؛ لأن قوله: (جعلت الأرض طهوراً وجعلت تربتها طهوراً)، يدل على أن التربة هي جزء من الأرض، يعني: أنه جاء حكم عام للأرض، وجاء حكم خاص لشيء من الأرض، ووجود هذا الخاص لا يبطل العموم، ولكن أكثر ما يمكن أن يقال: إن هذا الخاص ذكر مرتين: مرة مندرجاً تحت اللفظ العام الذي هو التراب، ومرة جاء منصوصاً عليه بخصوصه، ومن القواعد الأصولية: أن إفراد فرد من أفراد العام بحكم العام لا يقصر عمومه عليه، يعني: لا يلغي العموم ثم يقصر الحكم على هذا النوع الذي جاء ببعض الألفاظ، سواءً كان مخصصاً أو محدداً وهو هنا التربة، ولهذا اختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: التيمم لا يكون إلا بالتراب ولا يكون إلا بالصعيد، ومنهم من قال: التيمم يكون بجميع أجزاء الأرض وأن الإنسان في أي مكان كان فإنه يتيمم ويصلي، ولو لم يكن عنده في الأرض رمل وتراب، لو كانت الأرض حجرية، فإنه يتيمم بالغبار الذي على الحجارة، مما يعلق بها، فإنه يكفي. ومثل ذلك الحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشفعة في كل شيء) ثم جاء حديث يبين ما يتعلق بالأرض والحدود والطرق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فبعض العلماء يجعل الحكم بالشفعة إنما هو في العقار وفي الأرض، ومنهم من يرى عمومه في كل شيء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل شيء)، أي: سواء كان عقاراً أو غير عقار، فإذا كان لشخصين سيارة وأحد الشريكين باع نصيبه من السيارة فللآخر حق الشفعة، وكذلك إذا كان لاثنين بعير مشترك بينهما وأحد الشخصين باع حصته من البعير على شخص آخر، فلشريكه حق الشفعة، لعموم قوله: (الشفعة في كل شيء)، وقوله: (إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالحديث الذي جاء في العقار لا يخصص الحكم بالعقار، وإنما أكثر ما في الأمر أن العقار ذكر في بعض الأحاديث، فلا يقصر عموم الشفعة في كل شيء عليه. وكذلك الحديث الذي فيه: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، هذا لفظ عام، وجاء في بعض الروايات: (إذا ابتاع الرجل سلعة ووجدها عند رجل قد أفلس فهو أحق بها من غيره) فقوله: (إذا ابتاع) يعني: أن السلعة دخلت عليه عن طريق البيع، وهذا لا يقصر الحكم قوله: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء) يعني: أنه إذا كان وصل إليه عن طريق البيع فهذا هو الذي يصير أحق، وليس معنى ذلك أنه وصل إليه من أي طريق أخرى فإنه لا يكون أحق به، بل العموم باقٍ على عمومه، وإفراد فرد من أفراد العام لحكم العام لا يقصر عموم حكمه عليه. والخاص يخرج من العام، لكن هناك حمل المطلق على المقيد، لكن القاعدة هذه فيها ذكر الخاص، يعني: أنه أفرد لكنه داخل تحت اللفظ العام، فكأنه ذكر مرتين: مرة على سبيل الانفراد، ومرة على سبيل دخوله مع غيره، فإفراد فرد منه لا يقصر عمومه عليه.
تراجم رجال إسناد حديث: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)
قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ حدثنا جرير ]. هو جرير بن عبد الحميد الضبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأعمش ]. هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مجاهد ]. هو مجاهد بن جبر المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبيد بن عمير ]. عبيد بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي ذر ]. هو جندب بن جنادة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث: (إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة و يحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: (إن حبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة) ]. أورد أبو داود رحمه الله حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (إن حبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة) والمقبرة جاء فيها حديث سيأتي، وفيه أنه لا يصلى في المقبرة، والنهي عن الصلاة في المقبرة هو لما يترتب على ذلك من التعلق بأصحاب القبور وصرف شيء لهم من دون الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: (أن البيوت لا تتخذ قبوراً)، يعني: أنها لا تكون مثل المقبرة لا يصلى فيها، بل الناس يصلون في بيوتهم ولا يجعلونها مثل المقبرة ليست مكاناً للصلاة، وهذا فيه دليل على أن المقبرة ليست مكاناً للصلاة، وأنه لا يصلى في المقبرة، وليس المقصود هو النجاسة، نعم إذا كان هناك أي مكان متنجس فإنه لا يصلى فيه، ولكن المقصود هو سد الذرائع التي توصل إلى الشرك؛ لأن المقبرة إذا صلي بها واتخذت القبور مساجد تكون مكاناً للصلاة، فمعنى هذا: أن هؤلاء الموتى يصرف لهم شيء من حق الله، أو أن ذلك الفعل قد يؤدي إلى أن يحصل ذلك الأمر المحذور، فالمقبرة جاء فيها شيء غير حديث علي رضي الله عنه، جاءت فيها أحاديث عديدة. وأرض بابل هي كغيرها من الأرض، والأصل في الأرض الطهارة، ولا يصار إلى ترك شيء إلا بدليل، وهذا الحديث الذي ورد فيه مقال من جهة أن أبا صالح الغفاري لم يسمع من علي رضي الله عنه، ففيه انقطاع، وعلى هذا فهو غير ثابت، هذا بالإضافة إلى الذين فيهم كلام في رجاله مثل ابن لهيعة وغيره ممن وصف بأنه مقبول، لكن العلة القوية هي علة الانقطاع.
تراجم رجال إسناد حديث: (إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة ...)
قوله: [ حدثنا سليمان بن داود ]. هو أبو الربيع المصري المهري وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود و النسائي . [ أخبرنا ابن وهب ]. هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثني ابن لهيعة ]. هو عبد الله بن لهيعة المصري وهو صدوق، احترقت كتبه فتغير حفظه أو اختلط، وحديثه أخرجه مسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . وأما النسائي فهو لم يخرج له، وقد مر بنا في سنن النسائي كثيراً أن النسائي إذا جاء معه غيره في الإسناد لا يسميه، وإنما يذكر من يريد أن يخرج عنه ويقول: أخبرنا أبو فلان ورجل آخر، فيحافظ على ذكر ما جاء في الإسناد فلا يحذف الشخص الذي جاء في الإسناد، ولكنه يبهمه، فيقول: ورجل آخر، وعمدته في ذلك الذي أظهره؛ لأنه لا يحتج بابن لهيعة ولا يروي عنه في كتابه، ولهذا لم يذكر فيمن خرج له النسائي . [ و يحيى بن أزهر ]. يحيى بن أزهر صدوق، أخرج له أبو داود. [ عن عمار بن سعد المرادي ]. عمار بن سعد المرادي مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و أبو داود . [ عن أبي صالح الغفاري ]. هو سعيد بن عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له أبو داود . [ أن علياً ]. علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو الحسنين صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.
طريق أخرى لحديث: (إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة ...) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر و ابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي رضي الله عنه بمعنى سليمان بن داود قال: فلما خرج، مكان: فلما برز ]. أورد أبو داود الحديث عن علي رضي الله عنه من طريق أخرى، وأحال فيها على الطريق السابقة، وذكر الفرق بين ما في الرواية الأولى وما في هذه الرواية وهي أن في الرواية الأولى (برز) وفي هذه الرواية (خرج) يعني: فلما خرج قال للمؤذن، وفي الأولى: لما برز قال للمؤذن. قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر و ابن لهيعة عن الحجاج بن شداد ]. الحجاج بن شداد مقبول، أخرج له أبو داود . [ عن أبي صالح الغفاري عن علي ]. قد مر ذكرهما.
شرح حديث: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال موسى في حديثه فيما يحسب عمرو : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة). أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة)، وهذا فيه استثناء المقبرة والحمام، وقد ذكرنا أن المقصود من ذلك أنها ليست مكاناً للصلاة، وأنه منع من الصلاة فيها لما يترتب على ذلك من الأمور الخطيرة والأمور العظيمة، ويستثنى من ذلك صلاة الجنازة فإنه يمكن أن يصلى على الجنازة في المقبرة، وهذه الصلاة لا محذور فيها، لأن هذا شيء يتعلق بالميت والصلاة على الميت، وإنما المقصود هو الصلاة التي هي ذات ركوع وسجود، سواء كانت صلاة فرض أو نفل. والحمام هو مكان الاستحمام؛ فإنه يكون فيه غالباً النجاسات، وليس المقصود بالحمام مكان الخلاء؛ فإنه أيضاً لا يكون محلاً للصلاة، وإنما تكون الصلاة في الأماكن الطاهرة والأماكن النظيفة والتي هي بعيدة عن النجاسات.
تراجم رجال إسناد حديث: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة)
قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ]. هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا حماد ]. هو حماد بن سلمة وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ ح وحدثنا مسدد ]. ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ومسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا عبد الواحد ]. هو عبد الواحد بن زياد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عمرو بن يحيى ]. هو عمرو بن يحيى بن عمارة المازني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. أبوه هو يحيى بن عمارة المازني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سعيد ]. هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه سعد بن مالك بن سنان وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم."