
27-10-2022, 09:59 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة :
|
|
رد: الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة
الإمام عبد الحميد الفراهي وكتابه جمهرة البلاغة
د. أورنك زيب الأعظمي
ورابعًا: طريقة تأليف الكتاب: هذا الكتاب المشتمل على 88 صفحة ليس مما أنهاه الفراهي وأتمّه، إنما بدأ بتأليفه حين إقامته بمدرسة العلوم بكراتشي (باكستان) وكتب بعض المباحث التي رأى البعض منها أخوه العلامة شبلي النعماني فأشاد به في مجلته "الندوة"، ومن عادة الفراهي أنه كان يدرس فيدرس ليل نهار ولم يكن يكتب إلا في وقت السحر وكان يكتب إذا وجد شيئًا جديدًا فكل ما كتبه مما جاء به من عنده وهو جديد تمامًا فكان الفراهي كاتبًا مفكّرًا. ونجد أمثلة تفكيره المتواصل في كتابه هذا فقد كتب من قام بجمعه "بياض في الأصل" حيث ترك الفراهي ولم يكتب فيه شيئًا ليكتبه في المستقبل. وعلى كل حال فما نجده بين أيدينا نستخلص منه عادة الفراهي حين التأليف ولاسيما تأليف هذا الكتاب.
فالشيء الأول أن الفراهي يفضّل الإيجاز في حديثه ولا يحبّ الإسهاب والتفصيل فما نجده في رسالته الوجيزة للغاية يمكن لنا أن ننشره في مجلدات كبار فلقد قمت بتحقيق إحدى رسائله "أساليب القرآن" في ثلاثة مجلدات ضخام بينما هذه الرسالة لا يتجاوز رقم صفحاتها سبعين صفحة. ومن هنا يمكن لكم تقدير مدى حبّه للإيجاز. وكذا نجده في هذا الكتاب فلقد اعتبره كاتب ترجمته المسهبة في 800 صفحة دررًا منثورة.[23] والواقع كذلك فهي مثل درر منثورة تطلب منا أن نقوم بنظمها في سلك جميل، الأمر الذي عجزت عنه الأمة ولو بعد مئة سنة مضت على تأليفها. يشير الشيخ أبو الحسن الندوي إلى صفة الفراهي هذه ولو بطريقة سلبية:
"نجد في كتابات العلامة عبد الحميد الفراهي إيجازًا على عادة كثير من المحققين والمتقدمين والمجتهدين مما يجعل تحقيق أعماله صعبًا على الآخرين".[24]
ويقول البروفيسور محمد راشد الندوي:
".... أسلوبه موجز للغاية بل لو كان هناك كلمة أخرى لما هو أوجز من الإيجاز للتعبير عن إيجاز كتاباته لاستخدمناها فربما يكتفي العلامة بالإشارة إلى قضية مهمة للغاية والحال أنها تقتضي التوضيح. لعله ظنّ حين تأليف كتبه أن قارئها أحدّ عقلًا كمثله".[25]
والفراهي يعدّ الإيجاز من مميزات تأليفه فهو يقول في موضع من هذا الكتاب الجليل:
"وفيما قلنا ليس إلا إشارة إلى جملة الأمر فأما طرقهم إلى تصوير المعاني الخاصة فلا أدري كيف أكشف عنها دون أن نورد نبذة من الأمثلة من غير إطالة الكلام فيها. فصمّم إلى الأمثلة الآتية تأملك وألمم بها بل خيّم عليها حتى يتبيّن لك، فإني لا أحبّ الإسهاب ونحن نحسن الظن بعقلك فإن هذا حديث تصوير الشيء ذو أفانين لا نستطيع استقصاءها فليكفنا منه قدر صالح يبيّن لك ما نريد ويصوّر لك ما أشرنا إليه".[26]
ولو أنه يوجز الكلام عن الموضوع إلا أنه لا يغفل عن قدر الدلائل والأمثلة فهو كثيرًا ما يستدل بكلام العرب القديم كما يعضّده بآيات القرآن الكريم وآيات الصحف القديمة لاسيما التوراة وشيء قليل للغاية بالحديث النبوي وكلام غير العرب والاستدلالان الأخيران جاء كتعضيد لكلام الله تعالى. ونورد لكم بعض الأمثلة التي تدعّم ما قلنا آنفًا فيقول الفراهي في مطابقة الكلام بالمعنى:
"ليكن التعبير مطابقًا بالمعنى لينًا وخشونة وحلاوة ومرارة حسبما أردت من المدح والذم كما قال حاتم الطائي:
فإذاما مررت في مسبطر ♦♦♦ فاجمح الخيل مثل جمح الكعاب
ومنه ما قال امرؤ القيس:
وشحم كهدّاب الدمقس المفتّل
أو كما قال:
كمشي العذارى في الملاء المهدّب
وهذا اختيار المناسب يكون من عدة جهات: من الصوت، من الذم، من التشبيه. أما من التشبيه فقد علمت. أما من الصوت فكما قال لبيد:
غلب تشذر بالذحول كأنهم ♦♦♦ جن البدى رواسيا أقدامها
المراد من البيت الصدر في أمر الصوت والعجز في أمر التشبيه. فاجتمعت خشونة المعنى والصوت والتشبيه وفي القرآن ﴿ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ ﴾ ولم أر قومًا راعى مطابقة الصوت بالمعنى كما أرى العرب فإنهم براء من التكلف مولعون بالصدق متجنبون من السفاسف".[27]
ويكتب في ذكر تصوير الشيء بالتشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز ويستدل بأكثر من أربعين بيتًا فيقول بعد نقل أبيات نصيب التالية:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح 
قطاة عزّها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح 
لها فرخان قد تركا بوكر
فعشهما تصفقه الرياح 
إذا سمعا هبوب الريح نصّا
وقد أودى به القدر المتاح 
فلا في الليل نالت ما ترجّي
ولا في الصبح كان لها براح 
"وقرنت بين المصوّرات المحض وبين التشبيهات لترى المناسبة بينهما وقرب أمرهما. وبعد ذلك من التشبيهات ما لا يرى كالتشبيه بادئ بدء ولكنه ليس إلا التشبيه وإذ التفنن يذهب بالملال فينبغي أن تعلم أنحاء التصوير فيه لكيلا تذهب مذهبًا واحدًا. فمنه قول المهلهل يرثي أخاه:
ولست بخالع درعي وسيفي ♦♦♦ إلى أن يخلع الليلَ النهار
فشبّه الليل باللباس على النهار وشبّه الدرع بالليل وشبّه لزوم السلاح بجسمه بلزوم الليل بالنهار وشبّه جسمه بالنهار لبياضه. والأسلوب ليس باسلوب التشبيه الظاهر بل هو مما سمّوه المجاز ومن ذلك ما مرّ من قول عبيد بن الأبرص:
القائل القول الذي مثله ♦♦♦ يمرع منه البلد الماحل
فشبّه القول بالغيث بركة بطريق الكناية وهذا تشبيه عام في التوراة وجاء في القرآن تشبيهًا واستدلالًا".[28]
ويقول في مبحث المقابلة:
"الشيء يذكر مقابلة فالطبع أقرب له قبولًا ثم يتبيّن الضد بالضد ويزداد حسنًا ويذهب بالملال. أما الأول فهو أمر طبعي للإنسان حتى أن بعض العلماء زعم أن في الأول كل لفظ كان للضدين وأما حسن الأشياء واستبانة محاسنها من التقابل فكان مصور الخلق تعالى شأنه أظهر المحاسن بها فأخرج الأزهار الحمر والصفر والبيض من بين أوراق خضر وأبرز النجوم البيضاء من صفحة سوداء والقمر الفضي في الصحن الزبرجدي. فهكذا الأمر في الكلام وتصاويره ولا يخلو منه لسان فأما العرب فكما قال المهلهل:
يزهزهون من الخطي مدمجة ♦♦♦ كمتًا أنابيبها زرقًا عواليها
وما أحسن ما قال قيس بن عاصم المنقري في مدح قومه:
لا يفطنون لعيب جارهم ♦♦♦ وهم لحسن جوارهم فطن
وهذا كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا ♦♦♦ وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد
وأحسن المقابلة دريد بن الصمة:
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ♦♦♦ ويفنى قبل زاد القوم زادي
وحسن هذه المقابلات في جمع الحسنتين ثم في وصفهما بالمقابلة ليزداد وضوءهما وليبيّن حدّهما. فجمع الإغماض والفطانة، والتواضع والأنفة، والعقل والسخاء وقال معد بن علقمة:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ♦♦♦ ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
وقال تأبط شرًا:
يابس الجنبين من غير بؤس ♦♦♦ وندي الكفين شهم مدل
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في مدح الأنصار "يقلّون عند الطمع ويكثرون عند الفزع" ويضمحل قول أوس بن حجر في جنب هذا السهل الممتنع حيث قال:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا 
ولكنه النائي إذا كنت آمنًا
وصاحبك الأدنى إذ الأمر أعضلا 
والبلاغة القصوى التي يحسر دونها الوصف ويضيق العقل عن إحاطتها في قوله تعالى ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ﴾ (أرادوا الفرار) ﴿ فَلَا فَوْتَ ﴾ (أي لم يمكنهم أن يفلتوا) ﴿ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [سبأ: 51 - 53] فمن فهم معنى الآيتين صوّرت بين يديه جماعة أولًا فزعوا فأرادوا الفرار فلم يمكنهم الإفلات بل أخذوا على مكانهم فلما يئسوا قالوا آمنّا ولات حين الإيمان فإن وقت الإيمان كان بالغيب في حياتهم الأولى وقد فاتهم الآن وبعد عنهم مكانًا فيمدّون إليه أيديهم كالمتناوش لما بعد عنه فأنى له ذاك".[29]
ومن خلال حديثه عن موضوع ما، ينتقد الكتّاب والباحثين الذين يجد رأيهم خاطئًا أو غير صحيح فانتقد أرسطو وجان مل والجرجاني وأبا جعفر قدامة والأصمعي والباقلاني والحريري والزمخشري والرازي وغيرهم من العلماء وأصحاب الفن.
وليس هذا فحسب بل يمدح من الكتّاب والباحثين من يجد رأيهم صحيحًا وصائبًا فبجانب الإطراء للجاحظ فقد أشار إلى ما أصاب فيه أرسطو والجرجاني وغيرهما ممن قام بتوجيه النقد إليهم. وأما مدحه للعرب فنفردً له مبحثًا إن شاء الله تعالى.
ومن ميزة هذا الكتاب أن الفراهي، خلال حديثه عن أصول البلاغة، يذكر لنا نكتًا بلاغية يخرجها من القرآن والشعر وهكذا فهو يعلّمنا كيف نقوم بالكشف عن بلاغة نص أو بيت أو جملة من الكلام فيستخرج النكت من بعض آيات سورة هود حين البحث عن الفصل والوصل بالخيال:
".... في سورة هود في ذكر جدال قوم عاد ببنيه هود ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56] فهذه ثلاث كلمات جئن بعد إعلان اليأس والحرب من هود فقوله "إني توكلت على الله ربي وربكم" ينطوي على أني لا أبالي بمكائدهم فإن الله الذي هو ربي وربكم مولائي فإذا توكلت عليه فما خوفي من أحد، فاتصال الجزء الأول بالثاني ظاهر. ثم قوله "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها" مع اتصاله بالأول ينطوي على أنه ما من دابة إلا سبيلها إلى الله تعالى فترجعون إليه وعلى أنه من يعاجزه قاسى جذبات العنف والهون ومن سلك إلى ربه هان عليه السلوك ويسّر له السبيل. فقرب إلى الجزء الثالث لأن من بيده نواصي العباد قائم على الصراط المستقيم فمن أخذ هذا الصراط وجده سهلًا وفاز فظهر أن الجملة الوسطى ذات جهتين والفصل يعطي الخيال مجالًا للتأمل في أطراف القول وتوسيعه حتى يبصر بجهتي الربط".[30]
ويكشف الغطاء عن بلاغة بيت عربي تالٍ حين الكلام عن انتهاز الفرصة:
إن الحمول التي راحت مهجرة ♦♦♦ يتبعن كل سفيه الرأي مغيار
لم تكن له حاجة بادية إلى أن يزيد على المغيار كلمة سفيه الرأي وإني أتعجب من النابغة هذه الكلمة الواحدة مثلما أتعجب منه إيراد هذا حديث المغيار فإني رأيت الشعراء لهجوا بذكر البأس والمنعة دون معشوقهم أو عداوة الحماة وحنقهم ولكن النابغة ترك تلك الأمور المبتذلة وأخذ ما هو ملاك الأمر ثم زاد عليه سفاهة الرأي لتأكيد سوء الظن ثم لم يقل إن ذا رحم لها مغيار وسفيه الرأي فتظن أن ذلك أمر واقع من الاتفاق بل جعل هذا المغيار أمير الرفقة فوصفه بسفاهة الرأي ليس إلا مجازًا لما هو لا يرضى من غيرته وشدة الغيرة يفصح عن الحسن فالبيت حقيقة في شكاية الحرس وكناية عن الحسن. وكانت العرب منتبهين لهذا الإدراج فلهجت به فصحاءهم وطربت له أذهانهم وكان النابغة هذا أسبقهم في هذه الصنعة حتى أنك ترى من قدّمه على سائر الشعراء قدّمه بأبيات ليس في أكثرها إلا تلك الصنعة".[31]
فكأن كتابه هذا يثبت سفرًا مفيدًا لدارسي البلاغة بأسلوب نسمّيه "ما قلّ ودلّ".
وخامسًا: محتويات الكتاب: هذا الكتاب الذي أثنى عليه العلماء والباحثون واعتبروه فريدًا من نوعه في الموضوع ينقسم في خطبة وثلاثة أقسام فالقسم الأول يسمّى بالقسم العمومي والقسم الثاني يعنون بالقسم الخصوصي وأما القسم الثالث الأخير فهو يسمّى "مباحث متفرقة".
ففي الخطبة أشار إلى الهدف وراء تأليف هذا الكتاب ويتلوه القسم الأول العمومي فلو أن هذا القسم عمومي إلا أنه يحتوي على مباحث هامة عن هذا الفن ففي البداية ذكر ما هو البيان وكيف يهدي هذا البيان إلى الله جل جلاله ومن ثم دلّ على بلاغة الوحي وكيف كانت حالة الأمم السابقة بالنسبة لهذا الفن ولم لم يهتدوا إلى سواء السبيل في هذا الشأن ثم ذكر صعوبة معرفة محاسن الكلام وأشار إلى مختلف الجوانب والجهات لحسن شيء ثم أشار إلى بلاغة العجم وكيف هي أضلّت العلماء والباحثين في معرفة بلاغة القرآن وما هي الطريقة التي تهدينا إلى معرفته الصحيحة، ألا وهو معرفة محاسن كلام العرب لأن لكل لغة خصائص وميزات كما للغة العربية. وبعد ذلك ذكر حظوة العرب بالقوة لفهم الكلام ولتمييز الجيد من الخبيث وهكذا ذكر كيف كانوا يميزون الكلام وما هي الأصول التي وضعوها أو اختاروها ومن ثم انتقد نظرية أرسطو للبلاغة ودحّض أن الكلام نوع من المحاكاة وأثبت أنه مفطور على النطق والبيان وما نراه من المحاكاة إنما هي محاولة منه للإعراب عما في ضميره. وبما أن النطق والبيان من مواهب الله فكذلك أن الوحي قمة عليا للبيان وذلك ظاهر من قول الله تعالى "الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان".[32] وبعد ذلك تحدّث عن الشعر وأثبت أنه نوع من البيان، والتصوير يقوّيه وكلما صدقت الصورة ارتفع الكلام فالعرب اعتبروا الكلام الصادق حسنًا كما عدّوا الكاذب منه غير حسن فقد قال العرب:
وإن أحسن بيت أنت قائله ♦♦♦ بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فالكذب، لديهم، عيب في الكلام.
بعد هذه المباحث عرّف الشعر والخطبة وبيّن الفرق بينهما كما ذكر أن الخطبة أقوى تأثيرًا من الشعر إلا أن الأول أسرعهما تأثرًا، ومن خلال هذا الحديث ذكر الفرق بين الشعر والنثر وميزاتهما. ثم ذكر طريق البلاغة فذكر فيها مطابقة الكلام بالأصل ومطابقة الكلام بالذي في خيال المتكلم وبكونه واضح الدلالة وصائب الإشارة وبكونه مؤثرًا حسب حال المستمع ثم ذكر طرق التوضيح من جهة استعمال الألفاظ، ومن جهة الصوت، ومن جهة اختيار المعاني، وبعد ذلك عقد فصلًا في تصوير الشيء بالتشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز كما أشار إلى دلالة التشبيه والمذاهب الباطلة في التشبيه.
وبعد ذلك بيّن أصولًا عامة للبلاغة فذكر عشرة أصول بما فيها الاعتدال ومطابقة الكلام بالمعنى وسذاجة الكلام والترتيب والمقابلة وتمييز المعاني وفرق درجاتها وتنقيح الألفاظ والإيجاز وادخار الألفاظ والأساليب ومنبع الكلام. وينتهي على هذا، القسم العمومي.
والقسم الثاني هو القسم الخصوصي فقد تناول فيه دلالة الوصل والفصل والوصل والفصل بالخيال وحظ السامع ودلالة الحذف وحسن الترتيب والمقابلة والاستثناء وانتهاز الفرصة في كلام العرب والقرآن والمجاز والكناية والتشبيه ودلالة المجاز في الأزمنة ولسان الغيب والإشارة والكناية والتعريض وهذه كلها بأسلوب جديد وجاء في غضون هذه المباحث بأشياء لم تكتب من قبل مثل حظ السامع.
وأما القسم الثالث وهو يشتمل على مباحث متفرقة حيث ذكر صرف الكلام عن سنته والجملة المعترضة ووجوه الخفاء في التمييز بين حسن الكلام وقبيحه وروح البلاغة وسرها وكمال البلاغة والإعجاز ومناط محاسن الكلام وأخلاق العرب بما فيها قوى العرب العقلية والكلامية وارتجالهم وصوت الخطيب ومذهب العرب في نقد الكلام والفواصل والقوافي. ولقد جاء في هذه المباحث بأشياء مفيدة للغاية وأبدع في مناقشة الموضوع فمثلًا حديثه عن الجملة المعترضة وكلامه عن أخلاق العرب ودفاعه عن سجيتهم للارتجال مباحث قيّمة بديعة.
وسادسًا: أمور لم يسبق إليها: ولقد كتب الفراهي من خلال مباحث هذا الكتاب ما لا يوجد لدى الآخرين من البلاغيين والنحويين وهي بديعة نادرة ونودّ أن نشير إلى البعض منها على سبيل المثال لا الحصر فإن هذه المقالة الوجيزة لا تتحملها.
1- تقسيم البلاغة: أول ما نجده من روائع الفراهي بالنسبة للبلاغة هو تقسيمها إلى قسم عمومي وخصوصي فهذه قسمة جديدة لم يسبقه فيها أحد من المتقدمين فيقول الدكتور أحمد مطلوب في مقالته عن هذا الكتاب:
"تقسيم مباحث البلاغة إلى قسمين: القسم العمومي والقسم الخصوصي، وهو تقسيم جديد لم تألفه البلاغة العربية في تاريخها الطويل".[33]
2- ربط البلاغة بالنقد: والشيء الجديد الثاني الذي نشهده لدى الإمام الفراهي بالنسبة لفن البلاغة هو ربطه إياها بالنقد مما لم يقم به المتقدمون.[34]
3- وضوح النزعة الأدبية في العرض والتحليل: والشيء الجديد الثالث الذي نراه لدى الإمام الفراهي ولو نجد لمحة عنه لدى غيره من المتقدمين هو أنه لا يربط البلاغة بالسياسة أو الفلسفة أو بشيء آخر بل يربطها بالأدب وينظر إليها بهذا المنظار.[35]
4- التمييز بين بلاغة العرب والعجم: والشيء المهم بالنسبة للبلاغة لدى الإمام الفراهي أنه لا يرضى أن ننظر في بلاغة العرب في ضوء أصول وضعها العجم فإن للعجم ميزات كما للعرب ولغتهم وأدبهم فينبغي لنا أن نبنيها على أساس الأدب العربي ولاسيما الأدب الجاهلي لا على الأدب اليوناني أو الفارسي. وهذا أقرب إلى فهم بلاغة العرب وروعتهم.[36]
5- نقد نظرية المحاكاة: ولقد انتقد الفراهي بشدة ما أدلى به أرسطو من أن الإنسان محاكٍ من فطرته فهو يتعلم من حوله عن طريق المحاكاة. ومن هنا تطرق إلى أن الكلام الجيد ما كان كاذبًا لا صادقًا فقال:
"... فلو قال: إن الشعر بل كل كلام ونغم جنسه الأعلى تصوير لكان أقرب، إذ ليس بين المحاكاة والتصوير إلا فرق يسير، ولكنه أبعده عن الصواب خطؤه في غاية الشعر ومادته ومبدئه. وكان مثار خطئه كلام قومه واستعمالهم إياه. ولو بحث عن أمر الشعر على طريق الفلسفة، ونظر فيه على الحكماء الأقدمين لم يخف عليه الصواب بعد الاقتراب ولم يلتبس عليه غاية الشعر".[37]
وقد أثبت أن الإنسان ناطق من فطرته لا محاكٍ فقال: "الإنسان في فطريته ناطق" وقال: "إن النطق هو الفصل المقوّم له لا المحاكاة كما زعم أرسطو".[38]
وكذا أثبت الفراهي في ضوء كلام العرب أن الشعر حسنه احتواؤه على الصدق لا على الكذب. وهذا بحث طويل فنكتفي بهذا القدر من الإشارة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|