رد: الأدب والفنون الأخرى
الأدب والفنون الأخرى
د. إبراهيم عوض
وفضلًا عما مرَّ، هناك تكرار الكلمة أو العبارة داخل الجملة الواحدة أو على مدى متقارب في الفقرة من الكلام حيث يبدو الأمر وكأنه الصوت وأصداؤه بما يترتب على ذلك من رنين تطرب له الأذن وتهفو إليه النفس، علاوة على تأكيده للمعنى، لنأخذ مثلًا قوله تعالى عن اليهود: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]، وعلى نفس المنوال تجري السطور التالية التي اقتطفناها من مقال للدكتور زكي مبارك، كتبه عن "أيام" طه حسين: "وهو طه حسين، ولن يكون غير طه حسين، وكيف يكون برجل آخر، وهو ليس برجل آخر؟ تلك إذًا قضية، وإن لم تكن له قضية، وكيف تكون له قضية، وهو أعظم من أن تكون له قضية؟"[4]، أما في الشعر فنشير إلى ربيعة الرقي الشاعر العباسي الذي يمضي فيكرر في إحدى قصائده اسم حبيبته "داح" وكأنه درويش من الدراويش يصيح باسم مَن يهوى متراقصًا من الوَجْد:
صاح، إني غير صاح 
أبدًا من حب داح 
وعصى في حب داح 
كل لوَّام ولاح 
صار قدحًا حب داح 
في فؤادي المستباح 
داح داح حِب نصر 
آحِ من حُبك آح 
إن ربع ابن نُصير 
معدن البيض الملاح 
فيه داحٌ، ولما في 
حب داح من جُناح 
وفتاة غير داح 
ذات دلٍّ ومزاح 
قد تجشمت إليها 
هول ليل ونباح[5] 
ومِن قبلُ نجد مالك بن الريب في مرثيته لنفسه التي يعز نظيرها في الآداب المختلفة يكرر اسم موطنه عند "الغضى" وهو يجود بأنفاسه الأخيرة في بلاد الغربة من خراسان إثر أن لدغته عقرب في بعض الطريق؛ إذ فاضت نفسه وجدًا وتشوقًا إلى مسقط رأسه وأهله فأنشأ يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب 
الغضى أزحي القلاص النواجيا؟ 
فليت الغضى لم يقطع الرَّكبُ عرضه 
وليت الغضى ماشي الركاب لياليا 
لقد كان في أهل الغضى لو دنا الغضى 
مزار، ولكن الغضى ليس دانيا 
وفي القرآن المجيد أمثلةٌ غير قليلة لتكرار آية بأكملها أو جزء منها؛ كما في سور "الشعراء" و"الصافات" و"القمر" و"الرحمن" و"المرسلات"[6]، وأثر ذلك في إبراز المعنى بالإلحاح عليه وشدة التذكير به أوضح من أن يحتاج لبراهين، وقد أطلق بعض الدارسين الغربيين على الآية التي من هذا القبيل مصطلح "القرار: refrsaisdn"([7])، ولهذا مغزاه الذي لا يخفى.
ولا يقف أمر الإيقاع الموسيقي في إبداعات الأدب عند هذا الحد، بل هناك أيضًا مساوقة حرف أو حروف معينة لبعض المعاني أو المشاعر مما يؤدي لتقويتها من خلال الإيحاء الصوتي بها: ومن هذا الوادي ما لمحه د. محمد النويهي من الدور الذي يقوم به حرفا السين والفاء الساكنتين عند نهاية التفعيلتين الأوليين في البيت التالي الذي يصف فيه تأبط شرًّا ما كان يتمتع به ابن عمه من سرعة رهيبة في العدو:
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ♦♦♦ بمنخرق من شده المتدارك
إذ يوحي الحرفان المذكوران بعصف الريح واحتكاك جسم ذلك العدَّاء بالهواء أثناء جريه الخارق([8])، كذلك لاحظ سيد قطب أن في استعمال القرآن الكريم لصيغة "افتعل" في قوله تعالى عن معاناة أصحاب الجحيم وصراخهم من هول العذاب: ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [فاطر: 37] إيحاءً بمدى فظاعة الألم الذي كانوا يقاسونه حتى عندما كانوا يصرخون، وذلك من خلال الثقل الناتج من تجاور حرفي الصاد والطاء في كلمة: ﴿ يَصْطَرِخُونَ ﴾ [فاطر: 37][9]، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك استخدام كعب بن زهير هذه الصيغة نفسها في إشارته إلى صعوبة قطعه البيداء أثناء وفادته على الرسول عليه السلام؛ إذ كان يختبئ نهارًا، ويرحل ليلًا؛ خشية أن يعثر به أحد المسلمين قبل أن يبلغ الرسول ويعلن رجوعه عن حرب الإسلام ودخوله في دعوته صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله:
ما زلتُ أقتطع البيداء مُدَّرِعًا ♦♦♦ جُنح الظلام، وثوب الليل مسدول
وبالمثل يمكننا أن نرى في تسكين الجيم واللام في "فَجْع" و"وَلْع"، وفي سكنتي التنوين الخاص بحرف العين في كل من هاتين الكلمتين في قول الشاعر نفسه عن حبيبته الغادرة:
لكنها خُلة قد سيط من دمها ♦♦♦ فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلاف وتبديل
إيحاء بما كان يلذع فؤاده من حرقات الحرمان، وكذلك في مدتي "إخلاف" و"تبديل" تنفيسًا عن ألم هذه الحرقات كأنهما زفرتا متأوِّه، أما المد في كلمات الشطر الأخير من البيت التالي من نفس القصيدة:
أمسَتْ سعادُ بأرضٍ لا يُبلِّغها ♦♦♦ إلا العِتاقُ النَّجيَّات المراسيل
فهو يوحي بتطاول المسافات بينه وبين حبيبته الهاجرة، تلك المسافات التي لا يمكن قطعها إلا على ظهور النُّوق العتاق النجيات المراسيل.
على أنه ينبغي القول بأننا لا نقصد أن الشاعر، حين يفعل ذلك، إنما يفعله عن وعي وبينة، بل نريد أن عبقريته الباطنة تعمل عملها غالبًا في الخفاء، فتمدُّه بهذه العجائب الشادهة دون أن يظهر عليه أن يقصد ما يفعل، إنها الموهبة الربانية، والمحفوظ الشعري الواسع الذي يبدو وكأنه قد نُسي وانتهى أمره، لكنه في الواقع لا يزال هناك يفعل فعله في أعماق النفس البعيدة، فضلًا عن التمرس الطويل بالنظم، وهذا يذكرني بالجني الذي في خاتم سليمان، لكنه هنا جني يؤدي عمله في صمت دون أن يضيع وقته في النطق بعبارة "شبيك، لبيك! عبدك وبين يديك"، بل دون أن ينتظر الأمر بما يجب عليه فعله.
وإذا كان جان برتلمي يقلل من شأن موسيقا الشعر لصالح موسيقا الآلات[10]، فإننا على العكس من ذلك نرى أن تأثير موسيقا الشعر، والأدب بعامة، أقوى من تأثير الموسيقا الخالصة وأفعل بالنفس كما سبق القول، وإن كنا لا نشاح في أن أنغام الموسيقا الأدبية أخفتُ صوتًا من أنغام الصفارة والقيثارة والدف والصنج وما إليها من آلات العزف.
وبعد، فإن للموسيقا تأثيرها الضخم على النفس الإنسانية، ومن هنا كان طربُنا للشعر والنشوة التي نتلقاه بها، إنها تفتح أبواب العقول والقلوب أمام إبداعات ذلك الفن العجيب، وتستولي على حصونهما وتسلم مفاتيحها له، وتبسط سلطانه عليها، وكم من مرة طالعنا ترجمة نثرية لهذا النص الشعري أو ذاك فلم يكن لها ذلك العُلُوق بالنفس الذي للترجمة الشعرية حتى لو كانت أقل دقة في نقل الأصل، إن في الموسيقا سرًّا عجيبًا، كما أن لإيحاءاتها أثرًا هائلًا في تقوية المعاني والمشاعر التي يراد توصيلها إلى المتلقِّي، إنها تَهَبُ المعاني والمشاعر أجنحة عملاقة تطير بها إلى الذُّرَى، لكنها، رغم ذلك، تشكِّل قيدًا على المبدع، بيد أنه قيد يستخرج قواه العبقرية من مكامنها ويستحثها وينفخ في ضرامها حتى تتوقد وتصبح لهيبًا يتلظى!
وبسببٍ من هذا التأثير الساحر للموسيقا في الشعر فإن نقاد هذا الفن وعشاقه قد يقبلون من الشاعر ما لا يقبلونه من الناثر ويغتفرونه له بمحبة خالصة، وهذا مفتاح ما يسمى بـ"الضرورات الشعرية"، إن هذا المصطلح إنما يشير إلى جانب الضرورة والقيود، غير أننا، عند إمعان النظر، نرى أن سحر الموسيقا الشعرية في الواقع هو، على أقل تقدير، السبب الأول في عدم انزعاجنا من صرف الممنوع من الصرف، أو همز الاسم الموصول، أو تسكين ياء المضارع أو واوه بدلًا من فتحهما في حالة النصب... إلى آخر ما يُعْرف بـ"الضرورات الشعرية" مما لو اجترح منه الناثر شيئًا لَجُوبِهَ على الفور بالانتقاد العنيف.
ونضيف إلى ذلك تقبلنا، وبتلذذ في غير قليل من الأحيان، للألفاظ والصيغ غير الشائعة، والتراكيب التي تقف عندها الأذن مستغربة، أو ربما مستهجنة، لو وردت في كتابة نثرية، صحيح أن قيود الوزن والقافية والأسجاع والموازنات... إلخ هي التي تضطر الشاعر إلى هذا وغيره، لكن سحر الموسيقا أيضًا هو الذي يَجْبُر هذه الضرورة، ويحلي تلك القيود أن الموسيقا مسؤولة في الحالين: إنها تقيد من جهة، لكنها تعود من الجهة الأخرى فتفك هذه القيود وتطلق الطاقات المذخورة، إنها هناك سلبًا وإيجابًا، وهذه من مفارقات الإبداع الأدبي المدهشة، ومن ذلك مثلًا هذا البيت لعمر بن أبي ربيعة، الذي يتحدث فيه عن طول ترقُّبه مغيب القمر تطلعًا إلى لقاء فتاته في أمان من العيون:
وغاب قُمَيرٌ كنت أرجو غيوبَه ♦♦♦ وروَّح رُعيانٌ ونوَّم سُمَّرُ
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 03-11-2022 الساعة 08:40 AM.
|