عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 27-10-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأدب والفنون الأخرى

الأدب والفنون الأخرى


د. إبراهيم عوض







فهذه الأبيات تتضمن خطوطًا وألوانًا وحركات وأصواتًا وكلامًا وتدسُّسًا إلى مواطن الضمير الخفية، لا في النفس البشرية فحسب، بل في نفس الحيوان الأعجم أيضًا، إن القصيدة تبدأ بتساؤل ذهني يوجهه الشاعر إلى نفسه، وهو ما لا تستطيع اللوحة أن تؤديه، وفيها إشارة إلى نيته من التلبُّث عند أطلال الحبيبة، وإلى رغبة فرسه في الشكوى من حر السيوف وألم الرماح لو استطاع الكلام، كما أن فيها ذكرًا للتحية التي وجهها الشاعر إلى دار حبيبته متمنيًا لها الخير والسلامة، وهذا أيضًا مما لا تستطيع اللوحة أن تقتنصه، وكذلك فيها العطر الذي ينفح به فمُ الحبيبة مُشبهًا ما يتضوع من نشر الروضة غبَّ تسكاب المطر، وهذا أيضًا مما لا قبل للوحة (ولا للسينما) أن تمسك بشيء منه، وفيها، فوق ذلك، هزج الذباب، وترنم الشارب، وحمحمة الفرس، ولا شيء من هذا يمكن أن تقدمه لنا اللوحة المصورة، وفيها كذلك أسماء الأماكن التي نزلت فيها عبلة وقبيلتها، وهو ما لا تقدر اللوحة أن تفعل إزاءه شيئًا، ولا السينما أيضًا، إلا أن تلجأ إلى لافتات مكتوب عليها هذه الأسماء مثلًا، وفيها حركة انتقال الحبيبة وقومها من هنا إلى هناك، وحركة تهطال المطر، وحركة الذباب يحك ذراعه بذراعه، وحركة ازورار الأدهم عن طعنات السيوف والرماح، وهذا كله مما يقف المصوِّر أمامه عاجزًا لا يملِكُ له حيلة.

أما التصوير الكاريكاتيري فنمثِّلُ له بهذه السطور التي يصف فيها القصاص محمود طاهر لاشين أحد الدراويش المخبولين (أو بالأحرى: المتخابلين) وما يضعه حول عنقه من سُبح وقلائد ضخمة مزركشة لزوم الدروشة، يقول لاشين: "وعلى صدره قلائد من خرز وسبح من الخشب ينوء بحملها حمار في مثل حجمه، وأعتقد أننا لو اتخذنا منها حبلًا نجعل طرفه في الأرض لأمكن الرجل الذي في القمر أن يمسك بالطرف الثاني لو أنه مدَّ ذراعه قليلًا"[12]، لا، بل إن أعظم رسَّامي الكاريكاتير عبقرية لَيعجِزون عن أن يرسموا هذه الصورة اللاشينية العجيبة، وبخاصة في جزئها الأخير!


ومثلما هو الحال في العلاقة بين الأدب والتصوير كذلك الحال في العلاقة بينه وبين النحت، إن الكلمات قادرة على وصف الأشياء ذات الحجوم وصفًا مجسمًا، ثم تزيد على ذلك الحركة والصوت والرائحة، وكذلك التقاط دبيب المشاعر والأفكار والنيات أيضًا، لا الحركة وحدها كما ظن الفيلسوف الألماني لسنج، وقد ظهر في تاريخ الشعر الفرنسي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر مدرسة تُسمى: "المدرسة البرناسية" كان أعضاؤها يَدْعون إلى أن يكون الشاعر نحاتًا أو صنائعيًّا يلتزم التزامًا صارمًا بالموضوعية، فيُلغي شخصيته إلغاءً تامًّا، ويعمل بكل ما في وسعه على أن يجيء شعره تصويرًا مجسدًا يبرز الأوصاف الخارجية للشيء الموصوف إبرازًا، فكأنه التمثال المنحوت[13]، بَيْدَ أن الأدب، شعره ونثره لا الشعر منه فقط، يزيد على ذلك وصف الصوت والرائحة والأفكار والمشاعر والنيات، علاوة على ما ينتحيه في وصفه ذاك من تشبيهات واستعارات وكنايات ومجازات مما سلفت الإشارة إليه.


وفي شعرنا القديم أمثلة جدُّ كثيرةٍ على هذا اللون من الإبداع الشعري؛ إذ يعكف الشاعر على ناقته أو فرسه مثلًا يصفها عضوًا عضوًا بكل ما لديه من تحديد وتدقيق، كما يقابلنا في شعر الغزل أحيانًا مثل هذا الوصف للمرأة التي يحبها الشاعر: شعرها وعينيها ووجنتيها وفمها وعنقها وصدرها وقوامها وخصرها وساقيها... إلخ، وإن لم يعنِ هذا بالضرورة أن كل شاعر يقدم قائمة مفصلة بكل ملامح حبيبته ومقاييس جسدها، بل غالبًا ما يقف كل واحد من الشعراء أمام ما يعجبه من تلك الملامح، والآن إلى الشواهد، ونبدأ بهذه الأبيات التي ينحت فيها امرؤ القيس تمثالًا لمحبوبته واصفًا بشرتها وعينيها وخدها وجِيدها وشعرها وجدائلها وصدرها وخصرها وأصابعها على النحو التالي:
وبيضةِ خِدر لا يُرام خباؤها
تمتَّعتُ مِن لهو بها غير مُعجَل

مهفهفةٍ بيضاءَ غير مُفاضة
ترائبُها مصقولة كالسَّجنجل

تصدُّ وتبدي عن أسيلٍ وتتقي
بناظرةٍ مِن وحش وَجْرةَ مُطفل

وجيدٍ كجِيد الرِّئم ليس بفاحش
إذا هي نصَّتْه ولا بمعطَّل

وفرعٍ يَزين المتنَ أسودَ فاحمٍ
أثيثٍ كقِنْوِ النَّخلة المُتعَثْكِل

غدائرُه مستشزراتٌ إلى العلا
تضل العِقاص في مُثَنًّى ومرسَلِ

وكَشْحٍ لطيفٍ كالجديل مخصَّرٍ
وساقٍ كأنبوب السَّقْي المُذلَّل

وتعطو برَخْص غير شَثْنٍ كأنه
أساريعُ ظبيٍ أو مساويكُ إسحِلِ

ويضحي فتيتُ المسك فوق فراشها
نَؤُومُ الضُّحى لم تنتطِقْ عن تفضُّلِ

تضيءَ الظلامَ بالعِشاءِ كأنها
منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِ

إلى مِثلِها يرنو الحليمُ صبابةً
إذا ما اسبكَرَّتْ بين دِرعٍ ومِجوَلِ[14]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 03-11-2022 الساعة 08:44 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.29 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (3.15%)]