عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-10-2022, 08:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,771
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تشييب الإنسان لغيره

إلى أن يقول:
ورَأَيْتُ أَجيُلَ أَرْضِهَا مُنْقَادَةً
فَحَسِبْتُها مَدَّتْ إِليك رِقَابَا

وسَأَلْتُ مَا لِلدّهْرِ فِيها أَشْيَبَا
فإذا به مِنْ هَوْلِ بَأْسِك شَاَبَا


تحمل هذه الصورة من المبالغة ما خرج بها من الحقيقة إلى حيز الاستحالة، وقد أخذت المبالغة حظها من شعره في غرض المدح خاصة، وكان "المدح من أوسع أغراض الشعر العربي في العصور الأدبية بعامة. وفي العصر العباسي بخاصة؛ إذ كان وسيلة الشعراء إلى قصر الخلفاء وإلى أصحاب الثراء، ومن عجب أن هذه المدائح كانت تعجب الخلفاء، بل تدعوهم إلى إغداق العطاء.. "[8].

ويلاحظ اقتباس الشاعر من معاني القرآن الكريم، فقوله: "جئت السماء ففتحت أبوابَا" من قوله تعالى: ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴾ [النبأ: 19]، واعتماده على ميراثه العقدي في آل البيت، ولعل قوله: "ورأيت أجيل أرضها منقادة": كناية عن ملوك الأرض، وقد أصبحوا طوع بنانه، ورهن إشارته، فهو قائدهم وزعيمهم، إليه يحتكمون، وبه يتحركون، وعن رأيه يصدرون.

وكأن عدوى المبالغة سرت من العباسيين إلى الأندلسيين، فهذا ابن دراج القسطلي يخلع على المنصور بن أبي عامر صفة القدرة والغلبة، فهو سالب تاج العز والعلا ممن اشتم رائحة التجرؤ عليه، وخالع رفده، وعظيم حبه على المقربين إليه، وهو كذلك طاوٍ الفلوات ليلًا، لإعطاء كل ذي حق حقَّه، وتأديب من تمادى في غطرسته وغيه، فيقول: [9] [من الطويل]:
أمُلْبِسَنا النُّعمى ألا رُبَّ مَلْبَسِ
سَنيٍ، وتاجٍ للعُلاَ أَنْتَ سَاِلبُهْ[10]

وليلٍ كرِيعان الشَّبابِ قَذَفْتَهُ
بِهَوْلِ السُّرَى حَتّى أُشِيبَتْ ذَوَائِبُهْ

وَصَلْتَ بِه يومًا أغرّ صَحبْتَهُ
غُلامًا إِلَى أَنْ طَرَّ بالليلِ شَارِبُهْ[11]



فهو يشبه الليل الذي شاب بهول وكثرة السير فيه؛ حتى لاح بياض الصبح مواصلًا السير بالنهار، بلا كلال أو ملال، بالشباب الغض، أو سواد الرأس، وقد انتشر فيه بياض الشيب، وهذا يوضح مدى جده في فتح البلاد والأمصار.

وكما شيَّب المرءُ الدهرَ وقرونَ الملك [12]، شيب الخمرَ باستدامة تناولها، والإمساك بأكؤسها؛ يقول عبادة بن ماء السماء [13] مصورًا الخمر في أكؤسها وصنيعها به: [14] [من السريع]:
فَهَلْ تَرَى أَحْسَنَ مِنْ أَكْؤسِ
يُقَبِّلُ الثَّغْرُ عَلَيْهَا اليَدَا

يَقُولُ لِلسَّاِقي اِغتبقْ لي بِهَا
وُخذْ لُجَيْنًا وأَعِدْ عَسْجَدَا

أُغْرِقَ فيها الهمُّ لَكِنْ طَفا
حَبَابُها من فوقها مُذْبَذَا[15]

كأنّما شَيَّبَها شَارِبٌ
أمْسَكَها فِي كَفِّهِ سَرْمَدَا


ابتدر الشاعر صورته باستفهام بمعنى النفي؛ ليؤكد شغفه وهيامه بالخمر، فقد سلبت لبَّه، وأسرت رُوحه وقلبه، وهذا يكشف عن تخبُّطه بين مُجونه وسكره.


[1] توجد أبيات لأبي عامر بن شهيد في الذخيرة ق 1 ح 1 / 237، تُبين عدم شيب الليل بطلوع الصبح، وشيبه على يد الإنسان.

[2] ديوانه صـ 44، 45 الذخيرة ق 1 ح 1 / صـ 60.

[3] ديوان ابن دراج صـ 218، 219، ومثل هذا المعنى، منثور في ديوانه.

[4] الطول والطائل والطائلة: الفضل والقدرة والغنى والسعة والعلو، اللسان " ط. و. ل ".

[5] هو " محمد بن هانئ بن سعدون الأزدي الأندلسي، أبو القاسم، يتصل نسبه بالمهلب بن أبي صُفْرة، ولد بإشبيلية، وحظِي عند صاحبها، واتهمه أهلها بمذهب الفلاسفة، وفي شعره نزعة إسماعيلية بارزة، رحل إلى إفريقية، والجزائر، وتونس، ومصر، واتصل بالمعز، وعاد إلى إشبيلية، وأخذ عياله وقصد مصر، وقتل، وهو في طريقه إلى مصر عند برقة، له ديوان شعر؛ "انظر جذوة المقتبس، صـ 96 برقم 157، بغية الملتمس، صـ 140 برقم 301، معجم الشعراء الأندلسيين، صـ 442.

[6] ديوان ابن هانئ صـ 58.

[7] آليت أصدر: أقسمت لا أصدر، على حذف النفي بعد القسم، انظر المرجع السابق صـ 58.

[8] المبالغة في الشعر العربي في العصر العباسي؛ د. جابر عبدالرحمن يحيى، صـ273، مؤسسة سعيد للطباعة 1406هـ=1986م.

[9] ديوان ابن دراج صـ 23، ومثل هذه المعاني في ديوانه - أيضا - صـ 56، 134، انظر في شيب الأفق ديوان ابن زيدون صـ 209.

[10] النعيم والنعمى: الخفض والدعة والمال، وهو ضد البأساء والبؤس؛ اللسان " ن. ع. م. ".

[11] طر الإبل: ساقها سوقًا شديدًا وطردها، الطر: القطع أو القص، وطررت الإبل مثل طردتها إذا ضممتها من نواحيها. اللسان " ط. ر. ر. ".


[12] انظر ديوان ابن هانئ صـ 88.

[13] "... من فحول شعراء الأندلس، متقدم فيهم مع علمه، وله كتاب في "أخبار شعراء الأندلس"، مات سنة تسع عشرة وأربعمائة بمالقة، ضاعت مائة دينار، فاغتم عليها غمًّا كان سبب منيته، وقيل: سنة ست عشرة، أو إحدى وعشرين، أو اثنتين وعشرين؛ "انظر جذوة المقتبس صـ 293 برقم 662، بغية الملتمس صـ 396، 397 برقم 1123، نفح الطيب حـ 1 / 294، حـ 4 / 52، معجم الشعراء الأندلسيين صـ 327.

[14] انظر الذخيرة، ق1 ح 2 صـ 5 الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة... صـ 368.

[15] الحباب: الطل على الشجر يصبح عليه، والحباب الحية أو اسم شيطان، اللسان " ح. ب. ب.".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 01-11-2022 الساعة 02:38 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.59 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (2.96%)]