عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 31-10-2022, 09:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول

د. طه محمد الجندي




بحث في التركيب والدلالة (7)



العنصر السابع: (ما):
إنَّ نظرةً متأملة للتراكيب التي يرد فيها هذا العُنصر اللُّغويِّ، تُرينا أنَّه صالِح في لفظه؛ لأنْ يَحمل دَلالاتٍ متنوِّعةً؛ نتيجة لتنوُّع المعاني التي يَحتملها في التراكيبِ الواحِد؛ ولذا وجَدْنا الكثيرَ مِن نُحاتنا يقرُّون بصلاحيةِ هذا اللَّفْظ ليكونَ موصولاً، أو نكرةً موصوفة، أو حرفًا مَصدريًّا، كل هذا في التركيب الواحِد.


وقدْ وجدْنا على الجانبِ الآخَر مَن يُثبت لها معنى الموصوليَّة، ويَنفي عنها معنى المصدريَّة، محتجًّا لصحَّة دعواه بالطبيعة الدَّلاليَّة لها في التراكيب، فهذا الأخفشُ - فيما يَنقُله عنه ابنُ يعيش[1] - (يرى أن (ما) لا تكون إلاَّ اسمًا، فإنْ كانت معرفةً، فهي بمنـزلةِ الذي عندَه، والفِعل في صِلتها، وإن كانتْ نكرةً، فهي في تقديرِ شيءٍ، فالفِعل بعدَها صفة، وفي كلاَ الحالين لا بدَّ مِن عائدٍ يعود عندَه إليها، ومِن هذا المنطلق يُجيز أعجَبني ما صنعتَ، بتقدير (صنعته)، ولا يُجيزُ أعجبني ما قمت؛ لأنَّ الفِعل غير متعدٍّ، فلا يصحُّ تقديرُ ضمير فيه، ولا يجوزُ عنده أيضًا: أعجَبني ما ضربتُ زيدًا؛ لأنَّ الفعل قد استوفَى مفعوله، فلا يصحُّ تقديرُ ضمير مفعول آخَر فيه، وقد أيَّد الأخفشَ في دعواه هذه السهيليُّ، فألفَيناه يُنكر الإقرارَ بكونها مصدريةً، ولا تكون عندَه إلاَّ موصولةً، غير أنَّ الأخفشَ انطَلق في دعواه من مقدِّمات تركيبيَّة، تعود إلى وجوبِ عود ضمير إليها، أما السهيليُّ، فقدِ انطلق مِن مقدِّمات دلاليَّة ذاهبًا إلى أنَّها لا يجوز أن توجد إلا موصولةً؛ لأنَّه لا يعقل معناها إلا بالصِّلة، ولا يجوز أن توجدَ إلاَّ واقعة على جنس تتنوَّع منه أنواع؛ لأنَّها لا تَخلو مِن الإبهام أبدًا؛ ولذا كان في لفظها ألف آخِرة؛ لما في الألف مِن المدِّ والاتِّساع في هواء الفمِ مشاكَلةً لاتِّساع معناها في الأجناس[2].


ثم ردَّ على مَن زعَم مِن النحويِّين أن (ما) هي التي تكون مع الفِعل بمنـزلة (أن) معَ الفِعل بتأويل المصدر، فقال: "وليس كما ظنُّوه، ألاَ ترى أنَّك لا تقول: يُعجبني ما تجلِس كما تقول: يعجبني أن تجلِس، وأن تخرُج وأن تقعُد، ولا تقول في هذا كله (ما)، وعلَّل صحَّة مذهبه بما ذكَره من كون (ما) اسمًا مُبهمًا، لا تقَع إلاَّ على جنسٍ تختلفُ أنواعه، ومِن ثَمَّ فلا تقول: "يعجبني ما جلست/ وما انطلَق زيدٌ، فهذا غثٌّ مِن الكلام؛ لخروج (ما) فيه عنِ الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع مِن المعاني[3].


وقدْ دفَعَه هذا الرأيُ إلى تفسيرِ التراكيب التي يُوحِي ظاهرُها بخصوصية الفِعل، لا عمومِه، فحاول ردَّه فيها إلى العموم، ففي قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ [البقرة: 61]، يذكر أنَّ المعصيةَ تختلف أنواعها، ويقول: "فهو كقولك: لأعاقبنَّك بما ضربتَ زيدًا، وبما شتمْتَ عمرًا، أوقَعتهما على الذنب، والذنب مختلفُ الأنواع، ودلَّ ذِكر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنَّك قلتَ: لأَجزينَّك بالذنب الذي هو ضرْب زيد، أو شتْم عمرو، فـ(ما) على بابها غير خارِجة عن إبهامها"[4].


ولكي يفرَّ مِن جعْلها مصدريَّةً إذا اقتَرنَت بحرْف الجرِّ، ذهب إلى أنَّها كافَّة لهذا الحرْف مهيَّئة له للدخول على الفعل، ففي قولهم: "اجلس كما جلَس زيد، وصَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي، فقد ظنَّ أكثرُ الناس أنها بمعنى المصدر هنا، وقدْ تبيَّن فسادُ هذا المذهب؛ لأنَّ الفعل هذا خاصٌّ غير عام، ولكنَّها كافَّةٌ للخافضِ، مهيِّئة لكافِ التشبيه أن يقَعَ بعدَها الفِعل"[5].


وأودُّ قبل الردِّ على صاحبي هذا الرأي أنْ أعرِض للمُثبتين لـ(ما) معنى المصدريَّة، وهم جمهور النُّحاة وعلى رأسهم سيبويه - كما يَحكي صاحبُ الشرح المفصَّل[6] - فعنده يستوي قولنا: أعجَبني ما صنعتُ، بقولنا: أعجَبني أن قُمت، ولا تحتاج في مِثل هذا المثال إلى ضميرٍ يعود إليها؛ لأنَّها في تلك الحالة حرْف، والضمير لا يعودُ إلى حرْف في أرجحِ الأقوال، ويؤيِّد ابنُ يعيش هذا المذهب مستدلاًّ بقوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، فيبيِّن أنَّها لو كانت: "اسمًا، لَلَزِمَ أنْ يكونَ في الجملة بعدها ضمير، ولا ضمير فيه، ولا يصحُّ تقدير ضمير؛ لأنَّ الفعل قدِ استوفى مفعوله"[7]، ثم يَعرِض للمواطن التي يكون العائدُ فيها ضمير نصْب متصلاً محذوفًا، فعنده أن (ما) في مِثل هذه التراكيب يُمكِن جعْلها موصولةً على تقدير حذْف العائد، ويُمكن جعْلها مصدريةً على اعتقاد عدَم وجود عائد، "فأنت تقول: أعجبني ما صنعتُ، وسرَّني ما لبستُ، ويكون ثَمَّ عائد على معنى صنعتُه ولبستُه، ولا يعود الضميرُ إلاَّ على اسمٍ، قيل: متى اعتقَدت عوْد الضمير إلى (ما) كانتِ اسمًا لا محالة، ومتى لَم تعتقدْ ذلك، فهي حرْف"[8].


إنَّ المرْتَكز الذي عوَّل عليه ابنُ يعيش - ونحن معه - في صحَّة دَعْواه، هو دليلٌ تركيبيٌّ مَحض، يتمثَّل في وجودِ ضميرٍ عائد على (ما) أو عدم وجودِه، فإنْ وُجِد الضميرُ العائد، فهي اسمٌ لا محالة، وإلاَّ فهي حرْف مصدريٌّ؛ ولذا ذَهب إلى القول بمصدريَّتها في قوله تعالى: ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ [التوبة: 118]؛ لأنَّه ليس في صِلتها عائد، والفِعل لازم، ولا يتعدَّى، ولا يصحُّ إلحاق الضمير به[9]، كما أنَّها موصولةٌ في قولِه تعالى: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]؛ وذلك لعودِ الضَّمير في (به) عليها[10].


ويجوز فيها الوجهانِ في قوله تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].


يقول الزَّجَّاجُ في تأويلها: "تأويله - والله أعلم - بالشيءِ الذي يَحْفظ أمرَ الله، ودِين الله، ويَحتمل أن يكونَ على معنى بحِفظِ الله"[11].


فالزَّجَّاج قدْ أجاز فيها الوجهين؛ لاحتمالهما في تفسير البِنية التحتيَّة لها، فإنْ كانت موصولةً، فالبنية التحتيَّة لها هي بالشيءِ الذي يَحفَظ أمر الله، وإنْ كانت مصدريةً، فالبِنيةُ التحتية لها على معنى بحِفْظ الله.


أمَّا ردُّنا على الأخفش والسُّهيلي، فيعتمد على ضوابطَ دلاليَّة، وأخرى تركيبيَّة، أمَّا التفسير الدلالي، فقد ذَكَره ابنُ هشام عندَ تناوله لقوله تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، فيذكر أنَّ (ما) في الآية لا تكون بمعنى الذي - كما ذَكَر السُّهيليُّ؛ "لأن الذي سقاه لهم الغنم، إنما الأجْر على السقي الذي هو فعله، لا على الغنم، فإن ذهَبت تُقدِّر أجْر السَّقي الذي سَقيته لنا، فذلك تَكلُّف لا مُحوج إليه"[12]، ويعني ذلك القولُ بواضحِ العبارة أنَّ القول بجعْل (ما) موصولةً يُفضي؛ إمَّا إلى معنًى يُخالف المرادَ مِن الآية؛ إذ يذهب الأجرُ إلى الغَنَم، لا إلى السَّقي الذي هو فعَلَه، وإمَّا إلى تكلُّفٍ بعيدٍ لا حاجةَ في الآية إليه، ما دام يُمكن حمْلُها إلى المعنى القريب المُفاد مِن تفسير (ما) ومدخولها بالمَصْدر، والمعنى: ليَجزيَك أجْرَ السقي.


أمَّا الضابط التركيبي الذي يُمكن الردُّ به على السُّهيلي، فيتمثَّل في هذا القول مِن ابنِ القيِّم حين ذكَر أنَّه لا يُشترط في كونها مصدريَّةً ما ذُكِر من الإبهام، بل تقَع على المصدر الذي لا تَختلف أنواعُه، بل هو نوعٌ واحدٌ؛ "ولو أنَّك قلت في الموضع الذي منَعَه، هذا بما جلسْت وهذا بما نطقْت، كان حسنًا غير غثٍّ، ولا مستكْرَه، وهو المصدرُ بعينه، فلم يكُنِ الكلام غثًّا بخصوص المصدر، وإنَّما هو بخصوصِ التركيب"[13].


وهذا الردُّ يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على طبيعةِ العنصر اللُّغوي الذي يَسبِق (ما)، فإذا كان هذا العنصرُ حرفَ جرٍّ، جاز وقوع (ما) المصدريَّة على الفِعل الذي تَختلف أنواعه، وعلى ما كان نوعًا واحدًا، أمَّا إذا كان هذا العنصرُ فعلاً يشكِّل مع (ما) ومدخولها علاقةً إسناديَّة يكون فيها المصدرُ المؤوَّل منها فاعلاً، فإنَّ الأمر مختلف؛ إذ يَتطلَّب ذلك نمطًا مِن الأفعال له سماتٌ خاصَّة به تميِّزه عن غيرِه مِن الأفعال الأخرى، واستدلَّ على أنَّ الغثاثة التي استشَعرها السهيليُّ لَم تكُن بخصوصِ تفسير (ما) بالمصدريَّة، بدليل أنَّنا لو أبدلنا (الذي) بـ(ما) في المواطِنِ التي استكرَهها، لاستشْعَرْنا الغثاثةَ نفسها: "وأنتَ لو قلتَ: يُعجِبني الذي يجلس، لكان غثًّا في المقال"[14].


ومِن ثَمَّ يُمكننا أن نَستنتجَ ضابطًا تركيبيًّا يقيِّد تواتر ورود (ما) مصدريَّة؛ سواء دخلتْ على فِعل متعدِّد الأنواع، أو كان دالاًّ على حدَثٍ واحد معيَّن، وهو أن يَسبقها عنصرٌ من العناصر الجارَّة، وتكون هي والفعل بعدَها عبارة عن حالةٍ مُسبّبة لِما قبلها، كما في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].


﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 185].


﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225]، ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 151].


ففي الآياتِ دخلَت (ما) على فِعل متنوِّع الدَّلالة مِثل كسْب القلوب، وعلى ما هو أُحادي الدَّلالة مِثل المعصية والإشراك بالله؛ يقول صاحب "الدر" في معرِض تناوله لقوله تعالى ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ ... ﴾: و(ما) يجوز فيها ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها أنَّها مصدرية؛ لتقابل المصدر وهو اللغو؛ أي: لا يُؤخَذوا باللغو، ولكنْ بالكسب[15]، كما رجَّح كونَها مصدريَّةً في الآية الثانية مفسِّرًا البنية التحتيَّة لها بقوله: "أي: على هدايته إيَّإكم"[16]، والأمْر نفسه كان مِن صاحب الكشَّاف[17].


أمَّا عندما تقَع (ما) في تركيب لُغوي، تؤوَّل فيه مع مدخولها بمصدر محقِّق للحدَث السابق عليها؛ أي: تشكِّل علاقةً إسناديَّةً تكون فيها في موقِع الفاعل، فإنَّ ثَمَّةَ ضوابطَ محدَّدةً ينبغي توفُّرها في كِلا الفعلين؛ السابق عليها: وهو الذي تُشكَّل معه العلاقة الإسناديَّة، والتالي لها الذي تُتأوَّل معه بالمصدر.


وعن هذا الذي تُتأوَّل معه بالمصدر، يجِب أن يكونَ مِن حقل الأفعال الدالَّة على عموم المصدر، لا خصوصه؛ أي: يكون مِن الأفعال المختلفة الأنواع - على حدِّ قول السُّهيليِّ - ذلك لأنَّ (ما) اسمٌ مُبهَم، فلا يصحُّ وقوعه إلاَّ على جِنس تختلف أنواعه"، فإنْ كان المصدر مختلفَ الأنواع، جاز أن تقَعَ عليه، ويُعبَّر بها عنه كقولك: يُعجبني ما صنعتَ، وما فعلتَ، وكذلك تقول: ما حكَمتَ؛ لأنَّ الحكم مختلفٌ أنواعه، وكذلك الصُّنع والفِعل والعمل، فإن قلت: يُعجبني ما جلَست، وما انطلق زيدٌ، كان غثًّا مِن الكلام؛ لخروج (ما) عنِ الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع مِن المعاني[18].


ولتوضيح ذلك نقِف أمامَ المثالين اللَّذين ساقَهما:
يُعجِبني ما صنعتَ.
يُعجِبني ما جلستَ.


إذ يُلاحَظ لأوَّل وهلةٍ أنَّ الجملتين متوافقتان في البِنية السطحيَّة، وذلك من حيثُ عددُ العناصر المكوّنة لكلٍّ منهما، وترتيبها، بَيْد أنَّ الجملة الأولى جملة أُصوليَّة مقبولة معنًى ومبنًى، بينما الجملةُ الثانية جملةٌ غير أصوليَّة، وغير نحويَّة، ومردُّ ذلك إلى أنَّ الفعل الذي ركِّبت معه (ما)، وتأوَّل معها بالمصدرِ فِعل ذو سِمة دَلالية يختلف عن الفِعل في الجملة الأولى، مِن حيثُ صلاحيةُ الأوَّل للدَّلالة على معانٍ متنوِّعة تُناسب الإبهامَ الذي وُضِعت له (ما)، بخلافِ الفِعل في التركيب الثاني الذي هو مِن زُمرة الأفعال ذات الدَّلالة الخاصَّة الأُحاديَّة الجانب، لا المتنوِّعة المعاني، ومِن ثَمَّ يُمكننا أن نستنبطَ القاعدةَ التالية:
تقع (ما) المصدرية مع مدخولها في موقِع الفاعل إذا كان الفِعلُ الذي تتأوَّل معه بالمصدرِ مِن الأفعال ذات الدَّلالةِ المتنوِّعة التي تُضفي على التركيب نوعًا من الإبهام الذي يَتناسب مع الأصْل اللُّغوي لـ(ما) المصدريَّة.


فإذا اقتربْنا مِن زُمرة الأفعال التي تسبِق (ما) المصدريَّة المتبوِّئة لموقع الفاعل لتلك الأفعال، تَبدَّى لنا أنَّ تلك الأفعالَ لا توجد بصورةٍ عشوائيَّة، بل يَخضع وجودُها في هذا الموقع إلى ضوابطَ دَلاليَّة تميِّز نوعًا معينًا من الأفعال دون غيره؛ إذ يَتبيَّن أنَّ المجال الذي يميِّز هذا النوع مِن الأفعال، هو انتماؤها إلى حقلِ الأفعال الدالَّة على حالةٍ نفسيَّة انفعاليَّة كتلك التي تدلُّ على الغضب والحزن، والفرَح والإعجاب، والرِّضا والإساءة، وغيرها، وهي في ذلك تَشترك مع باقي العناصر المصدريَّة مِن أنَّ فِعلها يتميَّز بسِمة (+ حالة)، أمَّا الأفعال الدالَّة على سِمة (+ عمل)، فلا مجال لها هنا، ولتوضيحِ ذلك نحاول الاقترابَ مِن هذين المثالين:
يُغضبني ما فعَلَ الشُّرَطيُّ بالبَريء.
يَضرِبني ما فَعَل الشُّرَطيُّ بالبَريء.


فمع أنَّ ثمة توافُقًا بيْن الجملتين في البِنية السطحيَّة لهما، فإنَّنا نحكم لأوَّل وهلةٍ بأصوليَّة الجملة الأولى، وقَبولها مِن المستمع العربي، وعدَمِ أُصولية الجملة الثانية، ورَفْضِها من قِبل المستمع العربي؛ وما ذلك إلاَّ لأنَّ الفِعل في الجملة الثانية من زُمرة الأفعال التي تتَّسم بسِمة (+ عمل)، وهي مِن الأفعال التي لا تتَّفق دلاليًّا مع العناصر المصدريَّة التي تكون في موقِع الفاعل.


بقِي أن نُشير إلى ضابطٍ يتحتَّم توفُّره في كلِّ الأفعال التي تدخُل عليها (ما) وتتأوَّل معها بالمصدر، وهذا الضابط قد أوْجَبه نُحاتُنا القدامى، وقد سبَق أنْ أشرْنا إليه، وهو وجوبُ اتِّصالها بفِعل متصرِّف؛ "إذ الذي لا يتصرَّف لا مصدرَ له، حتى يُؤَّول الفِعلُ مع الحرْف به"[19]، ويغلبُ أنْ يكونَ ماضي اللفظ مثبتًا، ويقلُّ أن يكونَ مضارعًا، ونصَّ الرَّضيُّ على أنَّه لا يكون أمرًا باتِّفاق[20]، أمَّا اتِّصالها بالأسماء، فهو أمرٌ من الندرة بمكان، وقد مثَّل لذلك ابنُ يعيش بقوله: "يُعجبني ما أنت صانِع؛ أي: صنيعك"[21].


وأخيرًا فثَمَّة أمرٌ دَلالي يتعلَّق بـ(ما)، ذلك هو إمكانية تفسيرِ البِنية التحتيَّة لها مع مدخولها بمصدرٍ مضاف إلى الظَّرْف، وأطلَقوا عليها (ما) المصدريَّة الظرفيَّة، وسمَّاها ابنُ هشام بالمصدريَّة الزمنيَّة مُعلِّلاً ذلك بقوله: "ليشملَ نحو: ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾ [البقرة: 20]" فإنَّ الزمان المقدَّر هنا مخفوض، والمخفوض لا يُسمَّى ظرفًا[22]، والضابطُ التركيبي لها في هذا الاستعمالِ هو اتِّصالُها بالفِعل (دام) غالبًا في صورته الماضية، ومِن أمثلتها في الاستعمال القرآني: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ [آل عمران: 75].


﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31].


﴿ لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ﴾ [المائدة: 24].


فالبِنيةُ التحتيَّة لها في هذه التراكيب وأمثالها، هي تفسيرُها بمصدرٍ مضاف إلى ظرْف، وهو مدَّة دوام، ثم حُذِف الظرف، وخلَفته (ما) وصِلتُها، هكذا ذكَر ابن هشام مُدلِّلاً على ذلك بالمصدرِ الصريح في قولك: جئتُك صلاةَ العصر، وأتيتُك قدومَ الحاج[23]، وواضحٌ أنَّ المصدر في التركيبيَينِ قد ناب عن الظرْف بعدَ حذْفه، والبِينة التحتيَّة لهما هي أتيتُك وقتَ صلاة العصر، ووقتَ قُدوم الحاجِّ.


وقدْ تقَع تاليةً لِفعل غير "دام" بشرْط أن تكونَ صِلتُها جملةً فِعليةً ماضيةً، وقدْ مثَّل لذلك الرضيُّ بقوله: "لا أفْعله ما ذرَّ شارق؛ أي: مُدَّة ما ذرّ؛ أي: مدة ذروره"[24]، ومِن أمثلة دخولها على غير دام قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقوله تعالى: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ [هود: 88]، فالبِينةُ التحتيَّة لـ(ما) ومدخولها في الآيتَين هي تفسيرُه بمصدرٍ مضاف إلى الظرْف، والتقدير: مُدَّة استطاعتكم، ومدَّة استطاعتي، ثم دخَلَها تحويلٌ بحذْف الظرْف، وتغيير بِنية المصدر إلى الفِعل.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]