مشاهد وعبر من سورة الكهف (10)
- قـصـة صاحب الجنتين (4)
المشهد الثاني: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة
قصة صاحب الجنتين هي إحدى قصص سورة الكهف؛ حيث يبين لنا ربنا -سبحانه وتعالى- فيها الصراع بين الحق والباطل، وطرفا الصراع هنا رجلان: أحدهما كافر: وهو الذي نعته القرآن بـ(صاحب الجنتين)، والطرف الآخر: مؤمن، وهو الذي يمثِّل جانب الحق، والخير والصلاح، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: العطية الإلهية والحوار الكاشف، والمشهد الثاني: البوار الكامل، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث: حقائق الكون وأهوال يوم القيامة.
رسائل مِن قلب المشهد
لما كانت الفتنة الأساسية التي قامت عليها قصة صاحب الجنتين هي فتنة التعلق بالدنيا، كان مِن المناسب أن يعرض القرآن حقيقة الدنيا مقارنةً بمشاهد يوم القيامة، وهو اليوم الذي تتضح فيه الحقائق، وتتكشف فيه الأسرار، فكما أعرض صاحب الجنتين عن سماع الحق واتبع هواه، ثم ندم وتحسر بعد أن أهلك الله له بستانه وثمره، كذلك يفعل المجرمون والكافرون يوم القيامة، فإنهم يعضون أناملهم من الغيظ ويتحسرون على فوات الطاعة، ولكنه ندم لا يفيد؛ لأنه بعد فوات الأوان، وكأنَّ القرآن ضرب لنا مثل صاحب الجنتين ثم انتقل بنا إلى مشهد ندم الكافرين يوم القيامة؛ لكي يحذرنا مِن أن يؤول بنا الحال إلى هذا المصير.
(1) الحياة الذابلة
قال الله -تعالى-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يقول -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أصلًا، ولمَن قام بوراثته بعده تبعًا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار.
وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب.
كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه؛ إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله.
يوم يعض الظالم على يديه
هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرَّط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحال، ويقول لنفسه: قدّري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي؛ فأي: الحالين تختارين: الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟! فبهذا يُعرف توفيق العبد مِن خذلانه، وربحه من خسرانه».
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وهذه الآية نظير قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24).
درس بليغ في مقاومة الغرور وطول الأمل
قال القرطبي -رحمه الله-: «قالت الحكماء: إنما شبَّه -تعالى- الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحدٍ؛ ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا؛ ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى؛ ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها؛ ولأن الماء إذا كان بقَدَرٍ كان نافعًا منبتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضارًّا مهلكًا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضر»، وهذا درس بليغ في مقاومة الغرور وطول الأمل، والركون إلى زينة الدنيا الظاهرة، فإن الأمور سرعان ما تتبدل وتنقلب من حالٍ إلى حالٍ، فالله هو الذي بيده مقادير الخلائق، وهو القدير الذي لا يعجزه أحد، فلا تغتر بكثرة مال فقد يذهب المال، ولا بكثرة أنصار فقد ينصرفون عنك، ولا بالجاه والسلطان، فقد تتبدل المواقع، ويصير المحكوم حاكمًا، والحاكم مسجونًا، والقصص في تبدُّل حال الدنيا وتنكرها لأهلها كثيرة ومؤلمة، فإياك أن تكون واحدًا من هؤلاء الضحايا، بل علِّق قلبك بالله وثق به، واحتمِ بجنابه؛ يحفظك الله مِن فتن الدنيا، وسوء عواقبها».
(2) المتاع الزائل والأمل الباقي
قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، اختصرت الآية السابقة الحياة بكل ما فيها مِن زينةٍ وزخرفٍ في جملةٍ واحدةٍ، وفي خطواتٍ سريعةٍ متلاحقةٍ: «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ» ف»اخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ» ف «أَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ»؛ هذه هي صورة الحياة، يعرضها القرآن بهذا الاختزال، وهذا الاختصار ليكشف عن جوهرها وحقيقتها، فكما ينزل الماء فينبت الزرع ثم لا يلبث أن يبور ويهلك، كذلك الإنسان يولد ثم يعيش حياة قصيرة ثم يموت.
فتن الحياة وملذاتها
ولكن في الحياة فتن وملاذ تتزين للناظرين، وتتزخرف في أعين المغترّين، فأخبرنا -تعالى- أنَّ المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، وأنَّ الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره في آخرته هو الباقيات الصالحات، وهذا يشمل الطاعات الواجبة والمستحبة جميعها من حقوق الله، وحقوق عباده، مِن: صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كما قال -عز وجل- في موضع آخر: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (مريم:76).
الإسلام يعطي المتعة القيمة التي تستحقها
مع أنَّ الإسلام لا ينهى عن الزينة الحلال، ولا يمنع مِن المتع الطيبة المباحة، ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها؛ فلا يسمح الإسلام لأتباعه أن تختل لديهم الموازين، أو أن يضطرب في حسهم ترتيب الأولويات، فتصبح الزينة والمتاع هي معيار التقييم والتفاضل بين الناس، أو أن يحتل الانشغال بالدنيا المرتبة المتقدمة على غيرها من واجبات الدين، أو أن يصبح اللهو -مع كونه مباحًا- أصلًا وركيزةً يُنفق عليها الإنسان وقته أو ماله أو جهده، فكل هذه انحرافات عن القاعدة القرآنية المحكمة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}.
الرد على المشركين
والآية ترد على المشركين الذين ظنوا أن في استكثارهم من الأموال والأولاد في الدنيا نجاة لهم من عذاب يوم القيامة، وهذه هي النظرة المادية التي تحكم معتقدات الكفار في كل زمان ومكان، فجاء القرآن ليصحح هذه النظرة المنحرفة وليقول لهم: إن كل هذه المظاهر التي يتفاخرون بها إنما هي زينة دنيوية لا علاقة لها بالميزان الأخروي، فالميزان عند الله هو ميزان الأعمال الصالحات، وهذا هو الأمل الحقيقي الذي يجب على العباد أن يعلِّقوا قلوبهم به، أما غير ذلك فهي آمال زائلة، لا تستقر ولا تدوم.